«ستان»: ماذا تعرف عن موسيقى «الكي بوب»؟
«إكسو إل»، «آرمي»، «بلينك»، أمثلة بسيطة على ألقاب يطلقها معجبو بعض فرق «الكي بوب» على أنفسهم. عرفت هذه المصطلحات جيدًا في إبريل الماضي، عندما أعددت فقرات تعريفية حول هذه الفرق لصالح أحد البرامج الإذاعية المهتمة بكل ما هو جديد في عالم الموسيقى والثقافة الشعبية في الشرق الأوسط. لم أعِ حينها ضخامة هذه القواعد الجماهيرية حتى رأيت مدى التفاعل والأعداد المهولة من عدة دول عربية وخليجية في البث المباشر فور الإعلان عنه.
انهالت الرسائل من المستمعين بكم كبير من المعلومات حول هذه الفرق، لتساعدنا على صياغة الفقرات وتشيد بالفكرة. عشرات الحسابات الإلكترونية الداعمة لموسيقى الكي بوب في شتى وسائل التواصل الاجتماعي نشرت إعلانات ترويجية عن الفقرة دون أن نتواصل معها، رغم أن الفقرة الواحدة لا تصل مدتها سوى إلى 10 دقائق من أصل ساعة كاملة هي مدة البرنامج ورغم أنهم على معرفة جيدة بالمعلومات التي كنا سنطرحها في هذه الفقرات. قررنا أن تكون الفقرة أسبوعية، فهي أكثر شعبية من لقاء مباشر مع نجم عربي لامع له باع موسيقي طويل.
لمست خلال هذه التجربة التأثير الفعلي لنجوم الكي بوب على الكثير من المراهقين في الخليج العربي، وتذكرت ما حدث في الرياض في أكتوبر 2019، حين اعتلى أعضاء فرقة «BTS» مسرح استاد الملك فهد أمام ما يزيد عن 30 ألف متفرج، في حفل زادت أرباحه عن أربعة ملايين دولار.
تبلورت فكرة جديدة حول هذا المشهد في مخيلتي، وأيقنت أن هؤلاء المتفرجين هم «آرمي» حقيقيين على علم بكل تفاصيل فرقة «BTS»، وأنهم أتوا فعلًا لدعم هذه الفرقة بعينها وليس فقط للترفيه في أي حفل بشكل أعمى. فكيف تكونت هذه القواعد الجماهيرية الضخمة؟ وما سيكولوجية هؤلاء المعجبين؟ هل هي ظاهرة صحية؟ هل ينبغي على الآباء والأمهات الخوف على أبنائهم وإبعادهم عن الكي بوب؟
بداية الكي بوب
لم يظهر نمط الكي بوب (K-pop) كما هو متعارف عليه اليوم من فراغ، بل كان حصيلة أعوام من التجارب والجهود لعدة أجيال عملت من أجل إيصال هذا النمط إلى العالمية.
في التسعينيات، كانت الموسيقى الكورية السائدة تقليدية فلكلورية موجهة إلى جيل الآباء، أو ما يسمى «Gen X» و«Baby Boomers». أما الشباب والمراهقون الكوريون فكانوا يسرحون أمام قناة «MTV» الأمريكية عندما تعرض الأغاني الغربية بكثافة.
كانت أغاني البوب السائدة في الغرب حينها تتميز بنغمات جذابة وكليبات مصورة تسودها الألوان، وأحيانًا تقنيات الغرافيكس المبهرة. أبى هذا الجيل الكوري الشاب إلا أن يحدث تغييرًا حقيقيًا في الموسيقى المحلية، بشكل متأثر بما كانوا يسمعون ويرون على «MTV» في مراهقتهم. ظهرت بعض المحاولات الناجحة بين بداية ومنتصف عقد الألفينيات، مثل فنانة الكي بوب و«الجي بوب» الشابة «BoA»، لكن رغم نجاحها الكبير، لم تسنح لها الظروف أن تصل إلى شرائح كبيرة خارج كوريا الجنوبية واليابان، فقد كان هنالك تشبُّع من نمط «البوب» الذي تقدمه في الغرب.
تحولت «Gangnam Style» إلى ظاهرة حقيقية تسيطر على العالم أجمع، وذلك لعوامل كثيرة على رأسها رقصتها المميزة التي تعيدنا بالذاكرة إلى الأغنية الإسبانية «ماكارينا».
مع بداية العقد المنصرم (2010)، أصبحت شركات الإنتاج الكبرى في كوريا الجنوبية (SM وYG وJYP وBig وHit Music)، والتي يطلق عليها البعض «وكالات»، تعقد مئات جلسات «تجارب الأداء» لتختار المواهب، ثم تدربها بشكل قاسٍ في معسكرات حتى تصنع منهم نجومًا متكاملين، من المظهر الخارجي وحتى الشخصية والأداء.
مع انطلاق هذه المواهب في منتصف العقد، أصبحت الظروف مناسبة لأغنية الكي بوب كي تطلق العنان لنفسها في العالم، فالموسيقى السائدة في الغرب اتجهت إلى «الهيب هوب» والألوان الموسيقية الداكنة أكثر، والتي تفتقر لتلك النغمات الجذابة كما في السابق. كما أن التكنولوجيا ومنصات التواصل حولت العالم إلى قرية صغيرة وسهلت عملية الترويج، وهي لا تحتاج سوى إلى عقول فذة تستطيع استخدامها بالشكل الصحيح.
وهكذا، بينما يقضي اليابانيون والصينيون أوقاتهم على منصات تواصل محلية تحد من انتشار أعمالهم خارج حدودهم، اختلط الكوريون مع العالم أجمع، وروَّج صناع الموسيقى هناك لأعمالهم على المنصات العالمية مثل يوتيوب، كما خلط الكوريون اللغة الإنجليزية بكلماتهم الكورية لتظهر نتيجة يستسيغها الجميع.
في 2012، أطلق «Psy» أغنيته «Gangnam Style»، لتكون أول فيديو يحصد مليار مشاهدة على يوتيوب، ولتتحول إلى ظاهرة حقيقية تسيطر على العالم أجمع، وذلك لعوامل كثيرة على رأسها رقصتها المميزة التي تعيدنا بالذاكرة إلى الأغنية الإسبانية «ماكارينا». اعتقد الكثيرون أن هذا العمل مجرد ظاهرة مؤقتة ستنتهي كما انتهت الماكارينا في التسعينيات، لكن الأعوام التالية أثبتت لنا عكس ذلك، إذ مهدت الأغنية الطريق أمام عشرات الفرق والفنانين الكوريين للنجاح. ومثل أغلب الصيحات والأعمال الموسيقية التي تنجح في الولايات المتحدة، استطاع الكي بوب النجاح بشكل تلقائي في الخليج وباقي العالم، ليحبه ويتابعه ملايين المراهقين وربما فئات عمرية أخرى.
عن بداية تغلغل الكي بوب عربيًا، سألت المعجب السعودي ساليم عن تجربته التي بدأت نهاية العام 2008، فذكر لـ«منشور» أنه لأكثر من 4 أعوام لم يشاركه هذا الاهتمام العديد من أبناء جلدته، لكن الأمر تغير مع انطلاق فرقة «EXO» مطلع عام 2012، ليشهد تزايدًا تدريجيًا في الاهتمام السعودي والخليجي بهذا الفن، وصل ذروته في العام 2017 عندما طرحت فرقة «BTS» أغنيتها «DNA».
يتابع ساليم ما يقرب من 14 ألفًا على تويتر، أغلبهم من المهتمين بالكي بوب، ويعرّف نفسه كباحث ومطلع على هذا الفن منذ 12 عامًا. يعتقد ساليم أن «الكي بوبرز» في السعودية، وهو لقب يشير إلى محبي الكي بوب، هم في الطليعة عربيًا لو نظرنا إلى العدد، نظرًا للاهتمام الذي توليه الجهات الحكومية في المملكة متمثلة في الهيئة العامة للترفيه لهذا الفن ورواده.
الانتماء لمجموعة أكبر
منذ إبصاري النور في تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم، عاصرت العديد من الظواهر والصيحات التي اجتاحت عالم المراهقين بداية من الولايات المتحدة ووصولًا إلى منطقتنا. في فترة من الفترات تعلق الكثير من المراهقين في الخليج بفرق «البوي باند» الغربية، مثل «Backstreet Boys» و«N’Sync» وغيرها، أسوة بمراهقي الولايات المتحدة. وفي فترة أخرى ظهرت صيحة «الإيمو»، التي لم تكتفِ بتبني لون موسيقي معين، بل كانت أقرب إلى أسلوب حياة.
جميع هذه الظواهر صحية وطبيعية جدًا، ففي سن معينة يصبح لدى المراهق رغبة ملحة في الاستقلال عن أسرته ومن يكبرونه سنًا. هذه الاستقلالية تتمثل في عدة نواح، كالذائقة الموسيقية والمظهر الخارجي واختيار الملابس وغيرها. يدخل المراهق في عملية بحث متواصلة عن هويته، حتى ينضج وتستقر شخصيته مع زيادة تجاربه في الحياة. ولا نُغفل جانبًا آخر مهمًا، هو أن المراهق في هذه السن يرغب في الانضمام إلى مجموعة تحتويه ويشعر بين أعضائها بالانتماء، وهو ما يحدث مع روابط المعجبين التي تجمعها اهتمامات مشتركة.
لكن هل محبي الكي بوب فعلًا من فئة المراهقين، أم أنها مجرد فرضية؟
ليس لدينا كثير من الإحصائيات الدقيقة المتعلقة بديموغرافية محبي الكي بوب، خاصة خليجيًا وعربيًا، لكن في إحصائية نشرها موقع «Towards Data Science» التابع لمنصة «Medium» الشهيرة، قُدّرت نسبة المستجيبين للاستفتاء من الفئة العمرية 15-20 عامًا بما يزيد عن 69%، ونسبة الإناث منهم بما يقارب 95%، وهي نسبة عالية جدًا. وتكونت عينة الإحصائية من 240 معجبًا بالكي بوب خارج الإطار المحلي في كوريا الجنوبية.
يعتقد ساليم، الذي يتم عامه السابع والعشرين في 2021، أن الإحصائية على حق في ما يتعلق بالعمر، ويعود السبب في ذلك إلى أن الكثير من نجوم الكي بوب ينطلقون في أعمار تتراوح بين 15 و19 عامًا، وهي أعمار مقاربة لهؤلاء المعجبين. لكنه لا يجد إحصائية الجنس منطقية، ويرى أن الكي بوب ليس محصورًا على جنس معين، بل يجمع الجميع. وتثبت هذه الإحصائية أن الانتماء بالفعل سبب أساسي في تعلق الكثيرين بهذا الفن، فالفئة العمرية والتجارب متقاربة بين كل المعجبين.
المجتمع لا يعي «جوهر الكي بوب»
عن رد فعل المجتمع الخليجي تجاه فن الكي بوب، يقول ساليم إن «كل فن أو فكرة جديدة ودخيلة على أي مجتمع تكون محاربة، بغض النظر إن كانت إيجابية أو سلبية». ويعتقد أن نظرة الكارهين إلى الكي بوب سطحية، فهم لا ينظرون لجوهر هذا الفن حسب تعبيره.
أتفق مع فكرة ساليم هنا، فقد وجدت العديد من الجوانب الإيجابية التي يكتسبها معجبو الكي بوب من متابعتهم لهذا الفن. فعلى سبيل المثال، يلجأ بعض فناني الكي بوب إلى الرمزية في أعمالهم المصورة بشكل يستند إلى أساطير إغريقية أو رومانية، كما تفعل فرقة «EXO» منذ أول أغانيها «Mama»، ما يدفع المستمعين من المراهقين إلى البحث والقراءة، وبالتالي إثراء حصيلتهم الثقافية.
وفي أحيان كثيرة تحمل أعمالهم رسائل مبطنة وغير صريحة وتحتاج إلى تحليل وتفكير وتمحيص من قبل المعجبين. وقد عثرت على كثير من الـ«Threads» على تويتر لمحبي الكي بوب تشرح أعمالهم بشكل مبهر وعميق. في سلسلة تغريدات نشرتها صفحة «هانثل» على تويتر حول أحداث العام 2019 في كوريا الجنوبية، تحدثت بعض التغريدات عن حملة نفذتها فرقة «EXO» لمعجبيها، بدأت عندما نشرت الفرقة منشورًا يحوي رسالة غامضة باللغة الإنجليزية تترجم كالآتي: «لقد جرى رصد مخلوقات مريبة حول العالم تتسبب في أنشطة غير طبيعية. وشهد كثيرون أن هذه المخلوقات تشع طاقة حمراء، تتحرك وتخلق ظواهر غريبة». دفع هذا المنشور معجبي «EXO» إلى البحث في عدة أعمال مصورة قديمة للفرقة لتفسير ماهية «الطاقة الحمراء» المقصودة وتبعات تكونها، وبالفعل وجدوا العديد من العلامات والرموز والأدلة التي ترتبط بالنص الذي جاء في الرسالة.
دواء الاكتئاب
انجذب معجبي الكي بوب إلى هذا الفن بسبب تنوع مفهوم الموسيقى، فهناك فرق مكونة من الذكور، وفرق مكونة من الإناث، وفرق مختلطة، ومغنون منفردون.
على صعيد آخر، لدى الكثير من نجوم الكي بوب قصص نجاح تلهم شريحة من المراهقين، تكون في أمس الحاجة إلى مَثَل أعلى في هذه السن. على سبيل المثال، تناقش بعض أغاني الكي بوب تجارب هؤلاء النجوم الحقيقية مع التنمر وخروجهم من أزمات نفسية جعلتهم أقوى، وهو أمر يمر به العديد من المراهقين في الخليج.
يذكر ساليم أن «التنمر ينتشر بشكل كبير على منصات التواصل ضد معجبي الكي بوب الخليجيين وضد اهتمامهم، وهو ما يؤثر على الحالة النفسية لديهم». وقد تأكدت من حديث ساليم عندما وجدت عددًا من قصص المراهقين في العالم الذين تعرضوا لمثل هذه المضايقات، واستطاعوا اجتياز حالات من الاكتئاب باللجوء إلى هذه الموسيقى التي تسودها الكلمات والنغمات الإيجابية المبهجة.
يذكر ساليم أن أحد أهم الأسباب التي تجذبه وتجذب معجبي الكي بوب إلى هذا الفن هو تنوع مفهوم الموسيقى بين فنانيه بشكل يرضي أغلب الأذواق، فهناك فرق مكونة من الذكور، وفرق مكونة من الإناث، وفرق مختلطة، ومغنون منفردون. ويشير ساليم في حديثه إلى الفرز وتجارب الأداء شديدة الدقة التي تعقدها شركات الإنتاج الكورية كسبب آخر لانجذابهم إلى هذه الموسيقى، فالتدريبات القاسية التي تنفذها هذه الشركات لفترة قد تصل إلى أربعة أعوام تصقل مواهب جديدة ومتنوعة بين الفنانين المنفردين وأعضاء الفرق.
في النهاية، ليس جميع ما يقدمه عالم الكي بوب ذا قيمة، فكل الفنون تحوي الصالح والطالح، وهناك الكثير من نجمات الكي بوب اللاتي يظهرن بصورة بالغة الكمال لدرجة قد تهز ثقة بعض المراهقات في أنفسهن. لكن كما عشنا فترة المراهقة باهتمامات لم يفهمها من هم أكبر منا سنًا، دعونا نحترم اهتمام مراهقي اليوم بهذا الفن، فهو ليس بالصورة المشوهة التي يراها البعض. وبالتأسيس الصحيح، لن يتأثر هؤلاء بما هو سلبي في الكي بوب، بل ستتغلب المنفعة على المضرة.
محمد عبد المحسن