حكاية مصورة: ماذا تخبرنا ثلاجات المصريين عن الوضع الاقتصادي في البلاد؟

محمد عبد الجوَّاد
نشر في 2016/11/26
ثلاجة «محمد»، حارس العقار، من الداخل

ملحوظة: معظم الأسماء الواردة مُستعارة، بناءً على رغبة أصحابها.

ما هو الشيء الأكثر تأثرًا في بيوت المصريين في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية؟ تناثرت التحليلات هنا وهناك، تناولت برامج التليفزيون المسائية الأمر، وكان هناك تركيز على تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنه تحمَّل كثيرًا في الماضي، وكانت ثلاجته لا تحوي سوى زجاجات مياه باردة.

ما الذي تحويه ثلاجات المصريين إذًا؟

تابعنا على فيسبوك: منشور Manshoor

1. على باب عقارٍ في القاهرة

وقف «محمد» بالقرب من ثلاجته التي يضعها في جراج البناية، حيث يعمل حارس عقار. قال لي وهو يشير إليها: «ارتفعت الأسعار، ولكنها لم تؤثر في حياتي بشدة. أتناول الإفطار ذاته كل يوم، كما أن الغداء لم يختلف: علبة كشري حادة المذاق، أو بقايا طعام من المحل القريب. بالأساس يقطن أهلي في الصعيد، فلا حاجة لي أن أملأ ثلاجتي بأي شيء».

كان «محمد» مبتسمًا في البداية وأنا ألتقط له الصورة، ثم تجهَّم بعدها بقليل؛ كان يتمتم بكلماتٍ عن تواضع الغرفة التي يسكن فيها، والرائحة العطنة في الجراج، واكتظاظ الشارع بالسيارات صباحًا، وبخاصةٍ في موسم الدراسة.

في النهاية قال: «لا أفهم شيئًا عن تعويم الجنيه، ولا أريد. كنت أرضى بالقدر الأدنى، وأنا الآن لا زلت على الحال ذاته. لم يقلقني خلو الثلاجة يومًا؛ لأنني أحيا على هامش كل ما يجري في المدينة بالخارج».

عندما فتحت ثلاجة «محمد»، وهو واقفٌ ينظر لي مبتسمًا، وجدت فيها قطعًا من خبز «بلدي» متجلِّد، وعلبة جبن، وعلبًا من الألمونيوم تحوي بقايا وجبات مطعم قريب، وكان «الفريزر» (المُجمِّد الملحق بالثلاجة) لا يضم سوى زجاجتي مياه.

2. غرفة حزينة

كانت غرفة عم «سمير» متواضعة بشدة. كان يتحدث عن عمله بمصنع ملابس في مدينة العاشر من رمضان وأنا ألتقط الصور للثلاجة.

«أسرتي مكونة من خمسة أفراد؛ أنا والأم والثلاث بنات. منذ عقود طويلة لا نأكل معًا؛ لأنني أتناول الطعام في المصنع. عندما علمت أن الأسعار سترتفع بعد تعويم الجنيه، التزمت الصمت لثلاثة أيام، لم أحادث زوجتي حتى. اختارت الصمت هي الأخرى؛ ما الذي سنقوله أو ندبره؟ لا أدري حقًا».

لم أفتح الفريزر بناءً على رغبة عم «سمير»، الذي كان يضحك بشدة مُقِسمًا عليَّ ألا أفعل.

كان بالغرفة حزنٌ بادٍ. هل تتأثر الغرف بحال أصحابها؟ هي مثلها مثل الثلاجة وكل الجمادات، تحمل أجزاءً من روح صاحبها وساكنيها. لا دولار هنا ولا جنيه. الأمر لا يختلف كثيرًا عن ماضٍ قريب.

كانت الثلاجة تحوي إناءً به طعام بائت، وعلبة عسل لا تُستخدم إلا بحرص، وعلب سمن نباتي، وبرطمانات زيتون ومخللات. لم أفتح الفريزر بناءً على رغبة عم «سمير»، الذي كان يضحك بشدة مُقِسمًا عليَّ ألا أفعل.

3. قد لا يفيدك كثيرًا أن تتاجر في الماشية

قال «أحمد»، وهو تاجر ماشية من جنوب مصر: «في الصعيد عندنا يختلف الحال، لا توجد أغلب السلع لدينا؛ لذا اعتدنا أن نحيا على الموجود. الفطير والجبن متوافران، كما أنه من السهل أن نربي الدجاج والبط والأوز لنتناوله. لا نعاني ضيق اليد، لكننا لسنا ميسوري الحال أيضًا إذا ما قارنَّا الأمر بحياة الناس في القاهرة. سيؤثر الغلاء في أسعار أعلاف الماشية، وبالتالي في تجارتي بالتأكيد، لكن لن يختلف طعامي عن السابق، لن يقل لأنه كان قليًلا بالأساس».

اعتدت البقاء، لم أعد أحب فراغ الصعيد، صرت قاهريًا على ما أعتقد.

ابتسَم وأكمَل: «حياتي ما بين القاهرة والمنيا، أمتلك مزرعةً للماشية بجوار مقابر الأقباط في بلدتي. رغم أي شيء، رغم الكلاب التي أصادقها هناك، والماشية، والزرع الذي أُشرف على رعايته، والأسرة، والثلاجة التي لم أعد أراها ولا أحتاجها، ما زلت أحب المدينة هنا. هل تعرف؟ اعتدتُ الزحام والشكايا والأتربة، وحكايا ليل المدينة التي لا تنتهي. اعتدت البقاء، لم أعد أحب فراغ الصعيد، صرت قاهريًا على ما أعتقد».

4. أمٌ خائفة وابنتان

كانت «سهام» متخوفة في البداية. نظرتْ إلى الكاميرا بذعر حقيقي وقالت لي: «أخشى أن تصل الصورة إلى أحدهم ويكون لذلك تأثير في عملي بمجلس المدينة». لم أفهم العلاقة، طمأنتُها، وشرحتُ لها ما أنا بصدد معرفته. أخبرتني بتوتر: «الأرز هو الأكثر تأثرًا، الأرز والسكر، لم تُمَس الثلاجة في شيء؛ لأنني وابنتي نأكل قليلًا بالأساس. ولا أخفي عليك، لا أفهم شيئًا عن تعويم الجنيه، لكنني أدرك أنه رفع أسعار اللحوم والدجاج، وهو ما لن نبتاعه إلا في المناسبات».

قد يهمك أيضًا: كيف أدت سياسات صندوق النقد لتفاقم الأزمات اﻻقتصادية في العالم؟

شعرت بالأُلفة وأنا بداخل بيت «سهام»؛ كانت رائحة الجوافة المرتبطة بالشتاء باعثًا على الأمان لدي. لا أدري لِمَ شعرت أن ذلك البيت المبني بالطوب الأحمر دون طلاء، أقل تأثرًا بالدولار من البيوت الفاخرة في المدن الجديدة.

تجاوزت حكايا «سهام» وابنتيها عن الجيران خبيثي النظرات، وسائقي «التكاتك» (التُكْتُكْ هو مركبة نارية ذات ثلاث عجلات، تُستخدم للتنقُّل بالأُجرة في الأحياء الشعبية المصرية) العابسين، وأجرة المواصلات، والتقطت صورة للثلاجة.

5. ثلاجة لتبريد الفوضى

قالت «منى»: «زوجي موظف في البنك، وأنا أعمل في هيئة حكومية. في حياتنا فوضى كبيرة. ابني الأكبر لا يزال في الجامعة، وابنتي في المرحلة الإعدادية. انتقلتْ فوضانا إلى الثلاجة. لن تختلف تلك الفوضى عن حال باقي الأسر المتوسطة. نحن الأكثر تأثرًا بتعويم الجنيه، هل تعلم؟ سيعمل زوجي بسيارته سائقًا لدى شركة «أوبر»، وسأنهي عملي لأبدأ فوضى إيصال الأبناء لدروسهم، وفوضى الطهي، وفوضى الأفكار».

ارتفاع الأسعار سيزيد من شتاتنا، أوقن بذلك.

فتحت لي «منى» الثلاجة، كانت فوضى من سلع مختلفة، وزجاجات مياه، وخزين أدوية استراتيجي لمواجهة نقص الدواء، وأكياس تحوي أشياء مبهمة، وبيض، وبقايا عصائر، وآنية بها بقايا طعام سابق. وكان الفريزر يحوي مكعبات الثلج التقليدية، وثمار مانجو وجوافة مجمدة، وبعض أكياس اللحم.

كانت ثلاجة «منى» الأكثر تكدسًا وإرهاقًا من بين كل الثلاجات التي رأيتها للطبقات الأكثر فقرًا. عقَّبت «منى» في النهاية: «ارتفاع الأسعار سيزيد من شتاتنا، أوقن بذلك».

6. الشرطيون أيضًا قد يواجهون المتاعب

كانت «أميرة» تنظف منزلها عندما زُرتها. كان زوجها، ضابط الشرطة، في مأمورية بأحد السجون. خجلتْ من أن تريني ثلاجتها بسبب الفوضى. قالت: «كنت أشتري ست دجاجات أول كل أسبوع، تكفيني وزوجي وابنيَّ وابنتي الصغيرة. الآن سأبتاع دجاجة واحدة، و2 كيلو لحم. لا نزال نشتري الأجبان ومستلزمات الإفطار؛ فهي شيء أساسي ولم يتأثر كثيرًا».

أكثر ما أخشاه من ارتفاع الأسعار هو تأثيره على زوجي، عمله في الشرطة يعرضه لأي احتجاج مستقبلي.

كانت شقة «أميرة» تعاني من الفوضى المميِّزة لبيوت الطبقة المتوسطة؛ أشياء كثيرة لا قيمة لها. وأنا ألتقط صورة لابنتها الصغيرة، قالت لي: «أكثر ما أخشاه من ارتفاع الأسعار هو تأثيره على زوجي، عمله في الشرطة يعرضه لأي احتجاج مستقبلي على تلك الأسعار، رغم أننا مثلنا مثل البقية. الفكرة ليست في مبلغ راتبه، الفكرة في الأشياء التي تستنزفنا، وأغلب الأسر مثلنا».

7. ثلاجة أرستقراطية.. ولنتحمَّل قليلًا

أعجبتْ «يوسف» الفكرة بشدة؛ فاستضافني في منزله المنظم المملوء باللوحات الفنية. يمتلك «يوسف» شركة كبيرة للشحن عبر البحار، وهو أيضًا من السكان القدامى لحي الزمالك.

ليتحمل الناس قليًلا، لن نموت في النهاية.

قال لي: «تعويم الجنيه أمر حتمي، أُدرك أن الناس ستمر بظروف شديدة القسوة، ولكنني مررت بمثلها؛ كنا من أصحاب الأملاك ولما جاءت ثورة يوليو جرَّدتنا من كل شيء، ظللنا نحيا على الكفاف طول فترة الستينات وحتى الثمانينات. ليتحمل الناس قليًلا، لن نموت في النهاية»، ثم أخبرني مبتسمًا أن البيت خالٍ أغلب الوقت؛ فابنه يسافر كثيرًا وابنته تدرس في الخارج.

فتح «يوسف» ثلاجته، كانت منظمة مثل الشقة، بها أنواع مربى مستوردة، وأجبان مستوردة ومحلية الصنع، وألبان، وعصائر، وخضراوات، ولحم مبرد. وكان «يوسف» يسرد عليً أنواع المنتجات والبلدان التي ابتاعها منها أثناء سفرياته المتعددة.

8. للأسف ارتفع سعر الكافيار

ارتفعت أسعار جامعة ابنتي بشدة، أفكر أساسًا في أن أرسلها للدراسة في الخارج.

في بيت صاحب أحد المصانع الكبيرة بمدينة السادس من أكتوبر، السيد «شريف»، كانت الثلاجة تضمُّ سلعًا مستوردة في أغلبها: قهوة نرويجية وكينية، وكافيار، وأجبان ريكفور وبارميزان، ولكنها كانت غير مكتظة ومنظمة.

قال لي «شريف» بهدوء: «سيطال ارتفاع الأسعار الجامعات الخاصة وغيرها. ارتفعت أسعار جامعة ابنتي بشدة، أفكر أساسًا في أن أرسلها للدراسة بالخارج، كما أن أسعار قطع غيار السيارات قد ارتفعت هي الأخرى، ومصاريف البيت، وحديقة الفيلا. بالتأكيد تأثرتُ، أدرك أن قرار زيادة الأسعار صحيح، ولكنني لا أستطيع استيراد الخامات اللازمة لمصنعي، ولذلك أعقد اجتماعات يومية مع العاملين لديَّ في الشركة لبحث البدائل».

قد يعجبك أيضًا: أنا عربي، والكثير مِنَّا سعداء بفوز ترامب

لم ينتهِ البحث بعد، ثلاجات أخرى كنت أريد أن أفتحها لأرى محتوياتها، شرائح عدة لم تظهر في الصور، أسر كثيرة تحيا في شقق المدينة التي لا تنتهي، البيوت المتراصة بجوار بعضها بعضًا، يحوي كل منها حكاية. الدولار يحلِّق بقوة فوق المدينة المتربة، يقوده دونالد ترامب، ويقوده صندوق النقد الدولي، يحلِّق فوق بيوت المدينة مؤثرًا فيها، يضرب القلب منها وهو الطبقة المتوسطة، ولا ينظر للطبقة محدودة الدخل؛ لأنها خارج مجال بصره، ولا للطبقة الأعلى؛ لأنه يدرك أن لديها ما يجعلها تقاوم. يحلِّق حتي يصل إلى الأهرامات الثلاثة، التي صمدت أمام كثيرٍ من الأزمات. المواجهة حتمية، والنتائج غير معروفة. كل ما أعرفه من بحثي البسيط هذا أن ثلاجات الفقراء والأكثر ثراءً تتشابه في تراتبية محتوياتها رغم الفروق الشاسعة، وأن الفوضى تنال من ثلاجات الطبقة المتوسطة، وأن الدولار ما زال يضرب بقوة.

محمد عبد الجوَّاد