«تيتانيك» للهجرة والسياحة: حكايات من ماتوا مرتين
عقارب الساعة تدق معلنة تمام الثانية والثلث، صباح الخامس عشر من إبريل 2018، في مقاطعة مايو باريش، على الساحل الغربي الأيرلندي.
قد يتوقع العالم أن يسود الهدوء المقاطعة في هذا التوقيت من اليوم، تمامًا كما يحدث في العادة. لكن اليوم ليس عاديًّا، اليوم يستيقظ سكان هذه الأرض من النوم كما يستيقظ الحزن والألم معهم ليحيوا جميعًا الذكرى الأسوأ في تاريخ مقاطعتهم، يوم لم ولن تنساه عائلات هذه الأرض الصغيرة، اليوم تُقرَع الأجراس لكسر صمت الليالي الظلماء، ويجتمع السكان في ساحة الكنيسة، كما فعل أسلافهم، ليحافظوا على طقس مر عليه أكثر من مئة عام، ليتذكروا جميعًا هؤلاء الذين أرادوا الهروب من متاعبهم على متن السفينة الأفخم في العالم، فكانت مجرد قبر جماعي كبير لهم، ليتذكروا ضحايا «تيتانيك».
عام 1912، كانت أيرلندا في ذلك الوقت بلدًا فقيرًا يعيش سكانه في معاناة كبيرة، عائلات من 10 أشخاص وأكثر يتكدسون في بيوت من ثلاث غرف. جميعهم فقراء، وعلى كل فرد في الأسرة أن يعمل كي يطعم نفسه. ولأن الحياة كانت بهذه الصعوبة، اعتمدوا على بعضهم من أجل البقاء، كما يروي الوثائقي «Waking the Titanic»، وأصبحت النجاة من هذا الجحيم مبتغاهم جميعًا.
تحذيرات
تلقت «ديليا ماكدرموت»، نبوءة غريبة، حيث أوقفها رجل غريب ليقول لها إنها ستكون على متن رحلة سيموت فيها مئات الناس، لكن في النهاية يكون الإنقاذ.
قرية لاهاردان بمقاطعة مايو باريش بلغ تعداد سكانها، في 1912، 96 نسمة يعيشون في 22 بيتًا، بينهم البيت الذي عاشت فيه «آني ماغوين»، وهنا بدأت القصة. كانت عمة آني هي «كاثرين ماغوين»، امرأة هربت من فقر قريتها إلى الولايات المتحدة لتخلق لنفسها حياة أفضل، وتمتلك ثروة وفندقًا تستضيف فيه المهاجرين الجدد، وتصبح بعدها مثالًا ينظر إليه أهل قريتها بإعجاب، وذلك حين عادت لتصطحب قريبتها إلى حيث كوَّنت ثروتها، لتكن المحفز الأول للهجرة، على أمل اتباع خطواتها، وتحقيق ثروة مماثلة.
قصة نجاح كاثرين في الولايات المتحدة كانت مبهرة لسكان قريتها. فقد وعدتهم بإيجاد عمل لمن يرغب في الذهاب معها إلى ولاية شيكاغو، حيث عاشت، لتجد نحو 12 شخصًا يصغون إليها باهتمام، فتقنعهم بأن يسافروا معًا على السفينة نفسها: «تيتانيك». السفينة التي قال أصحابها إنها غير قابلة للغرق، حتى إن شركة «وايت ستار لاين» التي أطلقتها عام 1911، لم تتبع الطقوس الدينية المعتادة لمباركتها حسب التقاليد المسيحية، ما تسبب في ذعر كبير.
ففي ذلك الوقت في أوروبا، كان السفر على سفينة عذراء، أي تخوض أولى رحلاتها في البحار أو المحيطات، يجلب سوء الحظ. ومع تجاهل اتباع الطقوس الدينية المعتادة، رأى كثيرون، ومنهم الأيرلنديون، أن السفر عليها «تحدٍّ للرب»، بقول إن «الله لا يستطيع إغراق هذه السفينة».
ولأن الفقر كان شديدًا، لجأ الأيرلنديون إلى الدين لتهدئة أرواحهم، لكنهم أيضًا كانوا يؤمنون بالنبوءات والخرافات. فقبل الرحلة بأيام قليلة تلقت صاحبة الـ31 عامًا، «ديليا ماكدرموت»، نبوءة غريبة، إذ إنها حينما كانت تتمشى برفقة صديقاتها أوقفها رجل غريب ليقول لها إنها ستكون على متن رحلة بعد أيام قليلة، وستحمل هذه الرحلة كارثة كبيرة يموت فيها مئات الناس، لكن في النهاية يكون الإنقاذ.
«ديليا ماهون» (20 عامًا)، أيضًا حذرها شقيقها بعدما قرأ لها الفنجان، كاشفًا لها أنها سيحدث لها كارثة في رحلتها، وستموت. ورغم الرعب الذي سيطر عليهن، فإن ذلك لم يكن كافيًا لإقناعهم بعدم السفر.
بدأت التحضيرات للسفر، وقالت والدة ماكدروموت لابنتها إنه عليها، لتصبح سيدة في المجتمع الأمريكي، أن ترتدي القبعة والقفازات. لذلك، فقبل سفرها بيوم واحد، اصطحبتها والدتها إلى أحد المحلات لتشتري لها قبعتها الأولى في حياتها.
جنازات مسبقة
انطلقت السفينة العملاقة في رحلتها، ومع كل ثانية تمر يعتقد المهاجرون أنها يقتربون من الحلم، لكن الحقيقة أنهم كانوا يقتربون من الموت.
قد يتخيل المرء يومًا كيف ستكون جنازته، ومن سيحضرها. لكن هؤلاء المهاجرين الـ14 حضروها بأنفسهم، هكذا كانت تقاليد بلدهم. وفي الثامن من إبريل 1912، أقيمت 14 جنازة، أو ما عُرِفَ في أيرلندا بـ«الجنازات الأمريكية»، في بيوت القرية الصغيرة، لتكريم 14 حالة وفاة، بحضور من عوملوا باعتبارهم في عداد الموتى. إذ ساد الحزن في تلك البيوت، وانهالت الدمعات.
يعد طقس «الجنازات الأمريكية» من الأشياء التي ميزت أيرلندا في هذه الأثناء. فخلال بضعة عقود فقط كان نصف تعداد سكان أيرلندا قد هاجر، ولم يكن السؤال: هل علينا الهجرة؟ بل: كيف ومتى؟ وكانت الهجرة إلى الولايات المتحدة كالذهاب إلى قبر من غير المتوقَّع أن يعود الشخص منه.
انتهت التحضيرات، وأقيمت الطقوس، وودع الأحباء بعضهم، وانطلقت السفينة العملاقة في رحلتها، وبدأ العد التنازلي. مع كل ثانية تمر يعتقد المهاجرون الأيرلنديون أنها يقتربون من الحلم، لكن الحقيقة أنهم كانوا يقتربون من الموت.
الساعة تقترب من الثانية صباح الخامس عشر من إبريل 1912، هزة قوية يشعر بها الركاب على متن تيتانيك، وثلوج تتناثر على سطحها، يلتقطها بعضهم ليضعها في أكواب مشروباتهم ليكملوا احتفالهم. لكن الحفل ينقلب، بعد لحظات، إلى ذعر وهلع. السفينة غير القابلة للغرق تغرق بالفعل، والفوضى تعم أرجاءها، وجميع الركاب يبحثون عن منفذ للنجاة.
الأيرلنديون الـ14 يجتمعون للصعود إلى سطح السفينة، حيث قوارب النجاة، لكنهم يصلون متأخرين. فقط ثلاثة من تلك القوارب: «النساء والأطفال أولًا.. النساء والأطفال أولًا»، هتاف يرج الأرجاء، ووسط تلك الفوضى يصاب الركاب بعدم التمييز، فعلى كل راكب أن يخوض معركته وحيدًا الآن، وأن يجد طوق نجاته.
في سبيل القبعة
في تمام الثانية صباح الخامس عشر من إبريل، يتجمع السكان في ساحة الكنيسة، وتُدَق الأجراس، لتذكُّر الذين جمعهم الفقر والحلم.
استطاعت «ماكدورموت» أن تجد لنفسها مكانًا على متن أحد قوارب النجاة. كم هي محظوظة تلك الفتاة، ستنجو بحياتها. لكن «أي حياة هذه التي لا تساوي شيئًا دون قبعتها»، هكذا كانت تفكر. لا يمكن أن تصبح سيدة أمريكية دون قبعة، هكذا قالت لها أمها، وهكذا أصبحت قبعتها أغلى من حياتها. لكن المشكلة أن تلك القبعة كانت لا تزال في غرفتها، نسيتها هناك في حالة الفوضى، فهل تختار النجاة أم القبعة؟
ربما أي شخص آخر كان سيجد الاختيار سهلًا، بل سيرى السؤال في حد ذاته ساذجًا. لكنها اختارت القبعة بدلًا من حياتها، وخرجت من قارب النجاة راكضة نحو غرفتها، وسط كل الضجة والهلع، لتلتقط قبعتها، وتعود إلى سطح السفينة، لكنها وصلت متأخرة. كانت كل قوارب النجاة قد انتهت، فقط الأخير بقيت فيه مسافة قصيرة لملامسة مياه المحيط المثلجة، ولم تكن هي على استعداد للموت بعد. تعلقت صاحبة الـ31 عامًا بأحد الحبال قبل أن تقفز مسافة تقارب أربعة أمتار ونصف المتر لتسقط داخل قارب الإنقاذ الأخير. لقد تحققت النبوءة، ونجت بحياتها، لكن 11 غيرها من أبناء بلدتها لم يكن لهم نفس الحظ.
الذين جمعهم الفقر والحلم والمصير
اليوم تكتظ منطقة أديرغول الأيرلندية، التي تتضمن قرية لاهاردان، بالعمال الذين انتقلوا للعيش فيها من مدن مجاورة، مثل كاسلبار وبالينا، كما أوضحت صحيفة «الغارديان» البريطانية. فيما تجذب المنطقة انتباه الباحثين عن العزلة، وقضاء وقت أمام واجهة تطل على الجبال والبحيرات، فيما لا تزال تربط كثيرًا من عائلات المزارعين في المنطقة صلة قرابة بإحدى ضحايا تيتانيك، الضحايا التي تكرمهم مقاطعتهم سنويًّا في الوقت نفسه من كل عام.
في تمام الثانية صباح الخامس عشر من إبريل، الوقت الذي انتهت فيه أسطورة السفينة غير القابلة للغرق، يتجمع سكان المقاطعة سنويًّا في ساحة الكنيسة، وتُدَق الأجراس، لتذكُّر هؤلاء الذين جمعهم الفقر والحلم قبل أن يجتمعوا في المصير: الغرق بحثًا عن حياة أفضل، غير مدركين أن قصتهم ستتكرر بعد سنوات، في مناطق أخرى من العالم، مع إناس آخرين. ربما ليست بشكل شرعي كسابقيهم، لكنها لنفس الأسباب، ومن أجل الحلم ذاته.
شباب يهرب من فقره، على متن قوارب صغيرة حذره كثيرون من أنها ستكون عرضة لكارثة ربما تحمل نهايته. لكن أمل بدء حياة أفضل في بلاد مختلفة، يجعل هؤلاء يتجاهلون ما سمعوه تمامًا، كما تجاهلت الأيرلنديات النبوءات قبل سفرهن على متن تيتانيك، ليشتركوا في نفس المصير: الموت.
أحمد حمدي