فيكتور جارا: الغيتار، والملعب، والأصابع المكسورة
استيقظ العالَم، صبيحة الثالث من يوليو 2018، ليجد أنه حُكم على ثمانية ضباط عسكريين متقاعدين بالسجن 15 عامًا، لاشتراكهم في جريمة قتل المغني الشعبي التشيلي «فيكتور جارا» قبل 45 عامًا، وسجن المشتبه به التاسع خمس سنوات لتستره على عمليات القتل، التي وقعت خلال الانقلاب على «سلفادور ألِّيندي» عام 1973، الذي قاده الديكتاتور «أوغستو بينوشيه» وصار بعده رئيسًا لتشيلي.
جاء الحكم بعد سلسلة محاكمات استمرت سنوات، وبعد أن طلبت المحكمة في يونيو 2009 استخراج جثة جارا للتحقيق في أمر مقتله، وتأكدت أنه أُطلق عليه النار 30 مرة.
أعادت زوجته «جوان» دفنه في المقبرة الوطنية بسانتياغو. لكن هذه المرة كانت الجنازة مهيبة وأشبه بجنازة لكل الذين قُتلوا وفُقدوا وقت الانقلاب العسكري، ويُقدَّر عددهم بثلاثة آلاف شخص.
لم يكن فيكتور جارا مغنيًا ذا شعبية كبيرة فقط، بل كان شاعرًا وأستاذًا جامعيًّا ومخرجًا وممثلًا مسرحيًّا ومؤيدًا لحكومة سلفادور أليندي.
كتبت جوان قصتهما معًا، بعد 10 سنوات من مقتله، في مذكرات أسمتها «An unfinished song: The life of Victor Jara» ( أغنية لا تنتهي: حياة فيكتور جارا)، وافتتحت المذكرات بـ«إنها لراحةٌ، في النهاية، أن أحكي هذه القصة بهدوء، بطريقتي الخاصة، بدلًا من الرد على أسئلة مفاجئة تسمح لي فقط بأن أقص الأجزاء التي تهم الشخص الذي يُحاورني».
فيكتور جارا: نشأة وسط الألحان
ولِد فيكتور عام 1932، في قرية لونكوِن التي تبعد 50 ميلًا عن سانتياغو العاصمة التشيلية، ونشأ فيها. كانت الأساطير والفلكلور جزءًا يميز تلك القرية، حيث قضى جارا ليالي طفولته بجانب أمه يراقبها وهي تحصد الذرة مستمعًا لغنائها وعزفها على الغيتار، ثم يغفو على صوت غنائها.
في سن السادسة بدأ في مرافقة أبيه إلى عمله في الحقول، تارةً يعطيه جرعةً من الدلال المكثف ويجعله يركب الجرافة، وتارةً أخرى يجعله يغوص في الوحل ليرشد الثيران وهي تحرث الأرض، كي لا تحيد عن طريقها. معظم أغاني فيكتور قصص منعكسة من أحداث وقعت له خلال حياته، وذكرى صحبته لأبيه وثَّقها بأغنية «El Arado» (المحراث) مثلًا.
تحكي جوان في الكتاب أن والدة جارا كانت دُعامة البيت الأساسية. بجانب عملها في الحقول، كانت تربي الدجاج والخنازير، وتزرع بعض المحاصيل في حديقة البيت الصغيرة. ورغم توتر علاقة الأبوين منذ كان فيكتور صغيرًا، فإن الأمر ازداد سوءًا عندما أدمن الأب الكحوليات، وأصبح نَكِد المزاج متجهمًا دائمًا. فكان ينفق كل ما يكسبه في الشراب، ويختفي لأيام، ثم يعود إلى المنزل مخمورًا وغاضبًا، يتشاجر مع أماندا، الأم، ويضربها دون سبب.
كل مظاهر التعنيف والغضب التي جلبها أبوه لحياته، تركت لديه شعورًا بالامتعاض والاستياء تجاهه، ولم يتخلص منه قط. وحملت أغنية «La luna siempre es muy linda» (القمر دائمًا جميل جدًّا) هذه الذكريات.
أصرَّت والدة جارا على تعليم أبنائها مهما تكن الظروف.
حدث واحد غيَّر مسار حياة جارا الريفية. ذات يوم، كانت الأم خارج المنزل، والأخت الكبرى تحاول إعداد طعام لإخوتها، وفجأة حاولت أن تدفع قدرًا كبيرًا مليئًا بالماء المغلي، فسقط عليها، وأحرق كل جسدها. ولأنه لم تتوفر الرعاية الطبية في قريتهم الصغيرة، ذهبت العائلة إلى مستشفى في سانتياغو العاصمة، واستغرقت الأخت عامًا كاملًا حتى تتعافى. حينها فقط قررت الأم أن عليها الانتقال كليًّا إلى العاصمة، والبحث عن عمل لا يتطلب أن تترك أطفالها بمفردهم فترات طويلة.
انتقلت العائلة من هدوء القرية إلى صخب المدينة، والتحق هو وإخوته بمدرسة كاثوليكية. يقول صديقه في تلك المرحلة إن فيكتور وأخاه كانا طالبين مُجدَّيْن وملتزمين في كل شيء، يصلان إلى المدرسة معًا في وقت مبكر جدًّا، ويرحلان معًا. كانا نظيفين ومرتبين، ولم يكن مسموحًا لهما بالبقاء في الشارع كبقية الصبية.
أنهى فيكتور دراسته الابتدائية بعلامات مرتفعة بفضل حرص أمه على التعليم، عكس أبيه الذي كان يرى أن الأفضل للأطفال أن يتعلموا شؤون الحقل ليكسبوا المال في وقت مبكر ليساعدوه.
حياة جديدة في المدينة
بعد التنقل بين أكثر من وظيفة، استطاعت الأم أن تؤسس عملها الخاص، فافتتحت مطعمًا صغيرًا أخذ كل وقتها. كان من حسن حظ جارا وقتها أن تعرَّف إلى جارٍ يجيد عزف الجيتار، واكتشف هذا الجار أن فيكتور يحوم حول منزله فقط عندما يبدأ في العزف، فعرض عليه أن يُعلِّمه ما يعرفه، وفوجئ بأن فيكتور كان يمتص كل ما يقال له، وكأنه واعٍ ومدرك لماهية الموسيقى بالفطرة.
توفيت والدته وهو في الخامسة عشر من عمره، في يوم عادي، وهي تخدم في مطعمها. شكَّل موتها ألمًا له وإحساسًا بالذنب والعزلة حمله معه طوال حياته، بسبب أنه لم يساعدها بما فيه الكفاية، ولم يستطع أن يقدم لها الراحة التي كانت تعوزها بشدة.
أجبرته أمه على أن يكمل تعليمه الثانوي في دراسة التجارة كي يساعدها، وليحصل على وظيفة فور إنهائه الدراسة. لكن موتها غيَّر دفة الخطة، فترك المعهد التجاري بعد موتها، وكان حلمه السري أن يكون قِسًّا بسبب تأثره الشديد بالكنسية وبأصدقائه فيها. في مراهقته كانت الكنسية بالنسبة إليه هي المأوى، حيث وجد الأمان والاستقرار والموسيقى. إلا أنه بعدما بدأ في الدارسة ليصبح قِسًّا، اصطدم بحقيقة أن الكنسية منعزلة كليًّا عن الحياة الواقعية، فاستمر في الدراسة فترة قصيرة وتركها وانضم للجيش.
في نهاية عام 1954، بعد أن تفككت الأسرة، ترك كل شيء وراءه وسافر إلى شمال تشيلي مع مجموعة جديدة من الأصدقاء. كان هدفهم المشترك تجميع الموسيقى الشعبية واستقصاء تلك المنطقة، وكان قد بدأ حينها في إعادة اكتشاف الإرث الموسيقي الذي تركته والدته له.
وصوله إلى مسرح البلدية مكَّنه من مشاهدة عرض مسرحي أدهشه بشدة، وكان مدخله إلى عالم المسرح. كانت مسرحية من نوع التمثيل الصامت، جسَّد شخصياتها مجموعة حديثة التكوين. فورًا وصل جارا إلى مؤسس المجموعة ليعبر له عن دهشته، ويسأله عن الكيفية التي تمكنه من دراسة هذا الفن المسرحي. كانت إجابة المؤسس أن دعاه إلى حضور تجربة أداء في الاستوديو الذي تتدرب الفرقة فيه. هناك ظهر حس فيكتور الحركي والتعبيري، فقدم له المؤسس عرضًا ليتدرب معهم في الفرقة. وبالفعل بدأ فيكتور من فوره في التعلم والمشاركة في مسرحياتهم.
اتسمت هذه الفرقة بالتنوع، فتضمنت أشخاصًا متعددي الثقافات والوظائف، ولا شيء مشتركًا بينهم سوى حب المسرح والقدرة على التعبير والحركة. واحد منهم كان شخصًا غنيًّا اسمه «فرناندو بورديو»، جذبته الوحدة والسماحة التي اتسم بها فيكتور.
ذهب فرناندو إلى مدرسة المسرح في جامعة تشيلي للدراسة، وأخبر فيكتور عن برنامج تقدمه الجامعة للطلاب العاجزين عن دفع المصروفات، وأن عليه فقط أن يجتاز تجارب الأداء. نجح بالفعل في اجتيازه، وبدأ دراسته الأكاديمية للمسرح. هناك قابل «جوان ترنر»، وهي راقصة بالية بريطانية، كانت تعطي دروسًا حركية في مدرسة المسرح، وتزوجها في نفس الفترة.
استمر جارا في دراسة المسرح والاهتمام به حتى عام 1962، بعدها بدأ يكتب أغانيه الخاصة، ويلحنها ويغنيها للجيران والأصدقاء. كان دافعه الأساسي، لتقليل اهتمامه بالمسرح وتكريس حياته للموسيقى، أن المسرحية مهما يشاهدها من جماهير، فإنها لا تؤثر كالأغنية. المسرح دائمًا يرتاده المهتمون فقط بالفن المسرحي، أما الأغنية، فباستطاعتها الوصول إلى قلوب كل الناس مهما تتنوع اهتماماتهم وثقافاتهم، فهي «كالماء الذي يغسل الحجارة ببطء، كدفء النار الذي يُحيط ويعيش في داخلنا لجعلنا أناسًا أفضل».
في كتابها الذي خلَّدت فيه قصتهما معًا، تحكي جوان أنها كانت تشعر بالغيرة أحيانًا من غيتار زوجته وأغانيه، دائمًا هناك أغنية أو أغنيتان تعيشان داخله، وتؤرقانه إلى أن يلفظهما. كتب لها في رسالة: «أحيانًا أشعر بأن الأغنية تترسخ بداخلي، ثم تجد طريقها للخروج دون إرادة مني».
بداية الحياة الفنية
أصدر جارا ألبومه الأول في عام 1966 بعنوان «ترنيمة للإنسان». وأظهر في بداية مسيرته موهبة مضايقة التشيليين المحافظين، فقد أصدر أغنية كوميدية تقليدية تسمى «La Beata» (المُبارَكة)، تصوِّر امرأة متدينة معجبة بالكاهن الذي تعترف له بخطاياها.
حُظِرت الأغنية من المحطات الإذاعية، وأُزيلت من متاجر التسجيلات. لكن هذا الجدل أضاف إلى شهرة جارا بين التشيليين المتحررين. الأكثر جدية في نظر الحزب اليميني التشيلي هو اعتراف جارا الدائم بانتمائه إلى الحركة اليسارية بقيادة السياسي الاشتراكي سلفادور أليندي. وبعد زياراته إلى كوبا والاتحاد السوفييتي أوائل الستينيات، انضم جارا إلى الحزب الشيوعي. التقت شخصيته السياسية بماضيه الإنساني، وظهرت في أغانيه عن الفقر الذي عانى منه مباشرة.
كانت أغلب أغاني جارا تُصنَّف في حركة الموسيقى التشيلية الحديثة، وعدد من المغنيين في أمريكا اللاتينية كتبوا وغنوا بنفس الطريقة، إلا أن جارا كان الوحيد الذي برز وتمرَّس في هذا النوع، فكان من مؤسسيه.
انتشر جارا وأغانيه خارج تشيلي، ولم تعد شعبيته إلى مهاراته في كتابة الأغاني فحسب، بل إلى قوته الاستثنائية خلال أدائها. اتخذ منعطفًا حاسمًا في موقفه السياسي بأغنيته «أسئلة حول بويرتو مونت» (Preguntas por Puerto Montt)، التي استهدفت مسؤولًا حكوميًّا كان قد أمر الشرطة بمهاجمة مدنيين في مدينة بويرتو مونت، وحدثت فيها مجزرة وثَّقها جارا في الأغنية.
تدهور الوضع السياسي التشيلي بعد اغتيال هذا المسؤول الحكومي، الأمر الذي دفع حزب اليمين إلى التهجم على جارا وضربه في إحدى المناسبات.
كتب جارا أغنية «Venceremos» (سننتصر)، وكانت الأغنية الرئيسية لحركة الوحدة الشعبية بتشيلي، ورحب بانتخاب أليندي لرئاسة تشيلي في 1970.
كان جارا وزوجته جوان مشاركين أساسيين في النهضة الثقافية التي اجتاحت تشيلي، ونظَّما أحداثًا ثقافية لدعم الحكومة الاشتراكية الجديدة. لحَّن جارا قصائد الكاتب التشيلي «بابلو نيرودا»، وأداها في حفل تكريم نيرودا بعد أن حصل على جائزة نوبل للأدب في 1972. ظل محتفظًا بوظيفته في تدريس المسرح في الجامعة التقنية في تشيلي وسط تذمر أعضاء حزب اليمين وغضبهم.
جارا: قتل في الاستاد
من المستحيل أن ينسى الشعب التشيلي، أو العالم، ما حدث في الملعب الوطني لكرة القدم في العاصمة سانتياغو وقت الانقلاب. لكن الأمر عند جوان يكتسب صبغة ذاتية، وتحكي عنها بصيغة مريرة في كتابها.
استخدمت السلطة العسكرية ملاعب كرة القدم لاحتجاز أي أحد أبدى معارضة للانقلاب. نحو 40 ألف شخص اعتُقِلوا في الملعب الوطني، وفقًا للناجين وإحصائيات منظمات السجناء السياسيين السابقين. ورغم صعوبة التأكد من صحة هذا الرقم، فإن المؤكد أنه جرت اعتقالات جماعية في كل أنحاء البلاد. خصص المجلس الانقلابي 12 ملعبًا وعددًا من المباني لاعتقال آلاف المعارضين.
كانت كل التقارير تشير إلى أنه في خلال يومين أو ثلاثة في أقصى تقدير، تمكَّن العسكريون من إحكام سيطرتهم على البلاد. كان التعذيب يحدث بشكل منهجي في مراكز الاحتجاز.
في 11 سبتمبر 1973، ألقت القوات العسكرية القبض على جارا ومئات من الطلاب الجامعيين، وقادتهم إلى استاد تشيلي. حجزوه هناك أربعة أيام، وحُرِم من الطعام والنوم، وتعرَّض للتعذيب: كسر الجنود أصابعه، وأعطوه غيتاره وأمروه بأن يكمل الغناء، كانت آخر أغنية غنَّاها جارا في المعتقل، قبل مقتله، هي «سننتصر» في ذلك الملعب، وتحت وطأة التعذيب، كتب جارا قصيدته أو أغنيته الأخيرة، ليصف المذبحة التي حدثت في الملعب، وهُرِّبت هذه القصيدة في حذاء أحد المعتقلين، كأنها مفتاح النجاة السري. كتب فيها: «عيوننا تحدق إلى الموت/أنا أعيش لحظات لانهائية/حيث الصمت والصراخ صدى غنائي».
ربما في 15 سبتمبر، لا أحد يدري بالضبط، نُقِل جارا إلى منطقة مهجورة، وأطلق الجنود عليه النار، من 30 إلى 40 مرة. ثم نُقِل إلى مشرحة في سانتياغو، ووجدت زوجته جثته بين مئات الجثث مجهولة الهوية بسبب التعذيب. سُمِح لزوجته باسترداد جثته ودفنها شريطة ألا تعلن هذا. بذلت السلطات جهدها لتخفي قصص المجازر التي حدثت، ولتبرئ نفسها من الجرائم، فمنعت أن يُذاع خبر وفاته، أو أن تُعلَّق صورته في أي مكان، فقد كان هو تحديدًا يمثل رمزًا سياسيًّا وثقافيًّا، وكان التشيليون، رغم تمزقهم السياسي، متفقين على حبه.
استمرت الأوضاع في تشيلي على هذه الدرجة من السوء، نحو 15 عامًا، كان فيها الشعب التشيلي مقموعًا وخائفًا ومتمسكًا في الخفاء بصوت جارا وأشعاره وشخصه، كرمز للمقاومة المتسللة، والباعثة للأمل، والمتحدية للألم. غنى في آخر لحظاته على غيتاره بأصابع دامية، وظل صوته مُختفيًا ومفقودًا من تشيلي حتى بعد تحرير البلاد في التسعينيات.
كانت المشكلة هي عدم العثور على التسجيلات الرئيسية، التي أعطتها جوان إلى مجموعة من فنيي التلفزيون السويديين قبل أن تفر من البلاد.
عادت جوان بعد 10 سنوات إلى تشيلي، وأصبحت واحدة من النشطاء الذين أدت جهودهم في النهاية إلى استعادة الديمقراطية هناك.
في عام 1994، أسست زوجته جوان وابنتها مانويلا (من زوجها الأول)، وابنة جارا «أماندا»، مؤسسة «فيكتور جارا»، وهي منظمة ثقافية غير ربحية، الغرض منها ليس تعزيز المعرفة بأعمال فيكتور فقط، بل ومواصلة عمله. وتحتفظ المؤسسة بأكبر أرشيف لحياته، بما في ذلك التسجيلات والكتب والمقالات وأشرطة الفيديو والصور والملصقات.
في أوائل عام 2000، أعادت شركة «Time Warner» إصدار تسجيلات جارا، وأصبح شخصه موضوعًا لعدة ألبومات لموسيقيين لتشيلين تبجيلًا لشجاعته. وفي 2003، سُمي الملعب الذي قضى فيه أيامه الأخيرة «استاد فيكتور جارا».
مريم ناجي