تراب الماس: معادلة الفيلم والرواية
شاهدت فيلم «تراب الماس» بعقلية قلقة نوعًا ما، مع أنني لم أقرأ الرواية، لكن قلقي كان مبنيًّا على نوع الفيلم ومدته.
في أغلب أفلام الجريمة والغموض تكون المدة طويلة، ويقع العبء على كاهل المخرج كي لا يسمح لك بالشعور بالملل خلال مدة الفيلم التي قد تتجاوز ساعتين. تتضاعف المخاطر حينما يكون العمل مقتبسًا من رواية، سواءً كانت مليئة بالتفاصيل الصغيرة تقبع في التحقيقات كروايات «دان براون» على سبيل المثال، أو روايات غارقة في شخصياتها وحواراتها وصراعاتها الداخلية.
الفيلم مكمل للرواية أم مستقل عنها؟
لا أنسى إطلاقًا خيبة أملي في بداية فيلم «The Da Vinci Code» حنيما شاهدت أعدادًا هائلة من الصفحات تتلاشى أمامي في غضون ثوانٍ معدودة، تفكير بطلها «روبرت لانغدون» الفذ والمركب، والذي كقارئ جديد للروايات البوليسية سيسحرك حينها، كان يُتجاهل بشكل كامل دون أدنى اهتمام.
يضطر المخرج أحيانًا لإضافة صوت راوٍ كي لا تذهب سُدى تلك الصراعات والفلسفة الداخلية.
الأمر قد يكون أسوأ حينما تكون الرواية شخصية للغاية، وتمتلك العديد من الحوارات النفسية، وقتها ستشاهد فجوة ضخمة بين أي حوار روتيني في الفيلم وبين ما تتذكره من أفكار وهواجس لنفس الشخصية في الرواية.
ليس ذلك فحسب، بل قد يضطر المخرج أحيانًا لإضافة صوت راوٍ كي لا تذهب سُدى تلك الصراعات والفلسفة الداخلية، والتي هي أساس الشخصية. وإضافة صوت الراوي في حالات كثيرة يفشل ويظهر بشكل مبتذل، لا يعكس عمق الشخصية الذي كان موجودًا في الرواية. وأحد أواخر الأمثلة العربية مسلسل «واحة الغروب»، فبعد الثراء اللغوي البديع المقدم في رواية بهاء طاهر، تلاحظ منذ بداية المسلسل التفاوت الفظيع بينه وبين الرواية، وتظهر المونولوجات الشخصية شاذة وغير مرتبطة بشخصياتها.
أرى المخرج الأمريكي «ديفيد فينشر» أستاذًا في هذه الناحية، فهو يتعامل مع الروايات البوليسية بكل حرفية ويأخذ وقته معها، بل يملك من الجرأة ما يكفي لإضافة لمساته الخاصة، جاعلًا من الفيلم كائنًا مستقلًّا بذاته عن الرواية.
فبينما ينجح في صناعة فيلم «The Girl with the Dragon Tattoo»، نشاهد المخرج «فيدي ألفاريز» يفشل كليًّا في صناعة الفيلم الثاني من السلسلة. وبينما يبرع في اقتباس الرواية الصاعقة «Gone Girl»، يفشل المخرج «غيليز برينر» بعد سنة فقط في اقتباس «Dark Places» لنفس الكاتبة.
بالطبع لا أغفل هنا الأفضلية التي لدى فينشر، إذ عملت الكاتبة «جيليان فلين» معه في الفيلم. لكن حتى إذا تجاهلنا مشكلة النص في «Dark Places»، تبقى عدة مشاكل لم يستطع برينر أن يجد حلًّا لها، على رأسها اختيار أبطال الفيلم، وعدم القدرة على نقل جو الغموض والترقب في الرواية، الذي يتصاعد تدريجيًّا مع اقترابك لخط النهاية. وبالتأكيد لا ننسى طريقة اختلاف السرد في الرواية التي كانت تركز إلى 3 شخصيات رئيسية والقصة من منظورها، وهو ما تسبب في خلل سردي واضح في الفيلم، لكننا هنا لا نتحدث عن فينشر، بل عن مروان حامد.
عن مروان حامد
لست متابعًا جيدًا للسينما المصرية، ولا أعتقد أني رأيت من قبل أي فيلم للمخرج مروان حامد، وشاهدت هذا الفيلم فقط بناءً على توصية صديق. لذلك، من الحري بي القول إنني لم امتلك توقعات أو آمال مبنية على الفيلم، ليس لشيء غير الجهل.
«تراب الماس» ليس فيلمًا متكاملًا بالطبع، وليس خاليًا من العيوب، حاله حال عديد من الأفلام، لكن ما أعلمه أنه إذا استطاع فيلم جريمة إبقاءك لمدة ساعتين ونصف مشدودًا وعلى حافة مقعدك، وحتى لو كانت النهاية متوقعة (وهو الحال في فيلمنا هذا)، فهذا بغض النظر عن كل شيء نجاح.
يمتلك مروان حامد نفس الأفضلية التي امتلكها فينشر في «Gone Girl»، فأحمد مراد كاتب الرواية كتب له السيناريو، لكن ذلك لا يعني النجاح المباشر لاقتباس الرواية، ولا يعني بالطبع النسخ الحرفي لكل ما حصل في الرواية دون أي حضور محسوس للمخرج، ولعل أول تغيير فعله حامد كان مشهد البداية، حين يدخل «طه»، الذي أدى دوره آسر ياسين، شقته المتواضعة ليُفاجأ بجثة والده «حسين الزهار» (أحمد كمال) ممددة على الأرض. وحين يلتفت، يتلقى ضربة على رأسه تفقده وعيه، وينتهي المشهد هنا.
تعمد مروان حامد إبقاء الجثة خارج إطار الصورة، وكان المشهد يبدو كأي مشهد طبيعي روتيني لشخص يصل إلى شقته، ليتسارع الرتم فجأة وينقطع دون سابق إنذار.
لم تبدأ الرواية بنفس النسق السريع الذي بدأ به الفيلم. وبرغم أنها رواية مثيرة، فإن ما فعله مروان حامد كان ضروريًّا، فهو يريد شد انتباه المشاهدين منذ البداية وإلى أدق التفاصيل، من حالة الشقة التي يرثى لها، والغرفة التي قُتل فيها حسين، بل وحتى تاريخ حدوث الجريمة، لعلمه أن جزء الفلاش باك الأول من الفيلم (المتعلق بطفولة حسين) لن يكون بنفس الإثارة والشدة، بالرغم من أن أساس الفيلم كله يبدأ من هذا الفلاش باك.
بعد نقطة التحول وانكشاف خبايا الماضي، تأخذ غريزة النجاة عجلة القيادة، وتدور المحركات في رأس طه.
يتوقف مروان حامد هنا عن التلاعب في أحداث الرواية، التي كان أسلوب السرد فيها مباشرًا أكثر منذ بدايتها، وكانت تسرد أحداث الفلاش باك منذ أولى صفحاتها. يبقى حضور المخرج فقط في الصورة. وفي رأيي، تميز المخرج الأكبر في الفيلم كان خلق الجو المناسب لكل شخصية. وتغيير هذا الجو على مدار أحداث الفيلم وتغير ظروف الشخصيات هو معادلة لا تنجح إلا بتوافق جهود المخرج والممثل. ولا حاجة للقول إن توافق مروان حامد مع طاقم التمثيل حقق نجاحًا لافتًا.
نأخذ شخصية طه على سبيل المثال، الصيدلي عازف الدرامز، الشخص العادي الذي تضعه الظروف في مواقف غير عادية. عنوان شخصية طه «غريزة النجاة»، فهو لا يريد أن يقتل أحدًا، ولا يريد أن يتورط مع الأشخاص الخطأ، ولا يريد أن يغير نمط حياته الذي يتمحور حول البِر بوالده، وعمله في الصيدلية، والاستمرار في عزف الدرامز. لكن بعد نقطة التحول وانكشاف خبايا الماضي، تأخذ غريزة النجاة عجلة القيادة، وتدور المحركات في رأس طه معلنةً أنه غير مستعد للتنازل عن مكانه في الهرم، ويضطر بالتالي لارتكاب الجريمة تلو الأخرى للدفاع عن حقه في الحياة.
تتحول طريقة تصوير مَشاهد طه بمرور الفيلم فتصير أكثر عتمة. أغلب مشاهد الشقة بعد وفاة الوالد كانت ليلًا، باستثناء حينما تكون حبيبته «سارة» (منة شلبي) معه. ترتفع نسبة الارتياب والرعب النفسي المتواصل، ويبقى الجرح المفتوح في رأسه تذكيرًا قاسيًا بجريمة قتل والده، ويكاد يكون محسوسًا حتى للمشاهد.
لا تشرق الشمس في الشقة إلا بعد ارتكاب أول جريمة، في صورة أشبه ما تكون بإعلان فجر جديد لطه الزهار.
شخصيات تتكيف وتتلون وتتطور
ارتكاب طه لأول جريمة قتل يذكرني نسبيًّا بأول جريمة قتل ارتكبها «وولتر وايت» في مسلسل «Breaking Bad». ولا أعني إذابة الجثة في محلول الأسيد، بل الدافع الأساسي لارتكاب الجريمة: غريزة البقاء الطاغية على بقية الأفكار والتوجهات والمبادئ. وايت دخل عالم المخدرات بنية جني الأرباح لا أكثر، لكن بمجرد تعرض حياته للتهديد يرتكب أول جريمة قتل دون تردد.
آسر ياسين أثبت أن اختياره لتمثيل الدور كان في محله، ويمكن تخيل ممثل آخر في مكانه يبالغ في أداء الدور بسبب كمية الأحداث والتقلبات التي تحصل لشخصية طه، لكنه أبقى انفعالاته تحت السيطرة. وحتى في لحظات انتقامه، كان يبقينا تحت انطباع أنه يريد الخروج من الأمر بأقل الأضرار، ولا يفعل ما يفعله إلا لأنه مضطر.
بينما سارة صوت العقل والضمير، الذي يربط طه بإنسانيته وحياته الطبيعية السابقة لكل هذه الأحداث. سارة هي النور في آخر النفق بالنسبة له، النور الذي يستمر في الإلحاح على أن طه ليس قاتلًا متسلسلًا كما كان والده حسين. لذلك حينما تكون سارة مع طه كانت الشقة تشع بإضاءة أفضل، دلالةً حرفيةً على تأثيرها في حياته.
بالطبع تمر سارة بمراحل مشابهة لما حصل لطه: المنتجة اللامعة، التي تحضر حفلات زاهية فوق أسطح ناطحات السحاب، تتحول حياتها إلى الرمادي بعد اغتصابها، وتتحول الفتاة المفعمة بالحياة إلى كائن هادئ وفاقد للأمل.
من المثير للاهتمام ملاحظة التأثير المتبادل والمتوازن بين سارة وطه، فقد نجحت في وضع حد لجرائمه وعدم إكمال رحلة والده، لكن كان ذلك بثمن: تنفيذ انتقامها بنفس طريقة طه. ففي محاولاتها المستمرة والدؤوبة لإبقاء طه الإنسان الذي تعرفه، خسرت جزءًا من نفسها.
قيمة الممثل تكمن في راحته خلال أداء عمله، أن يكون مرتاحًا لدرجة تشرُّب الشخصية وتنفيذها وكأنه لا يمثل دورًا.
لا حاجة للقول إن منة شلبي تكيفت مع متطلبات الدور، وتلونت بألوان كل فصل من فصول شخصيتها حسب ما يتطلبه الأمر.
لا أريد ختم كلامي عن الممثلين دون الإشادة بعادل كرم وإياد نصار، الوحوش الضارية التي ترتدي أثمن وأرقى الملابس، وتتمتع بكاريزما منقطعة النظير، والتي على بعد كلمة خاطئة واحدة من الانفجار كليًّا وتدمير كل شيء في محيطها.
لكن في رأيي، نجومية الفيلم يحظى بها ماجد الكدواني في دور المقدم «وليد سلطان». أعتقد أن قيمة الممثل تكمن في راحته خلال أداء عمله، أن يكون مرتاحًا لدرجة تشرُّب الشخصية وتنفيذها وكأنه لا يمثل دورًا. وحتى الكاريزما التي امتدحتها في كرم ونصار، لدى الكدواني مثلها وأكثر. يتحرك في مشاهده بانسيابية، ويفرض حضوره في كل مشهد، ويُظهر كل المشاعر المطلوبة منه في الوقت المناسب مثل أي «سايكوباث» محترف. تجده متعاطفًا مع الضحية وقت التعاطف، حازمًا دون شفقة مع من يريد منهم إنجاز أمر يحتاجه، وينفجر غضبه بأكثر الطرق هدوءًا، ليتناسق مع سلاسة شخصيته ومرحه في أحلك المواقف.
لا يخلو الفيلم من العيوب بطبيعة الحال، أحد أبرزها المبالغة في إبراز شَر شخصية وليد سلطان، وترى لمحات من جنون مبتذل من ممثل هو أبعد ما يكون عن الابتذال، ولا أرى أنه من العدل الإلقاء باللوم على ماجد الكدواني هنا.
لا أنسى بعض العيوب السردية التي لا أعلم هل هي موجودة في الرواية أساسًا، أو أنها طرق مختصرة استعملها المخرج ليقلص مدة الفيلم. فمن غير المنطقي مثلًا أن يُفصح «محروس برجاس»، السياسي الفاسد وأحد ضحايا والد طه، بما حصل بينه وبين حسين الزهار وهو يحتضر على فراش الموت لشخص لا يعرفه ولم يلتقه من قبل، ولا يبدو قابلًا للتصديق أن «السيرفيس» يزور طه في شقته ليهدده، ثم يقبل دعوته لتناول كوب من الشاي وكأن شيئًا لم يكن.
أنا أنظر إلى الصورة الكاملة، وحينما أتراجع لأستوعب الفيلم ككل، أشاهده فيلم جريمة ممتعًا ومتماسكًا بصورة كبيرة، لا يُشعرك بالملل، ويبقيك مشدودًا منذ البداية.
عبيد التميمي