بعيدًا عن العاصمة، قريبًا من الهامش: محاولات الاستقلال الثقافي في تونس
سمحت الثورة التونسية بمزيد من الحرية للشباب التونسي، وبالتالي بمزيد من الفعل. وأخذ الفعل الشبابي التونسي أبعادًا احتجاجية وثورية كتنظيم مسيرات والالتحاق بمنظمات وجمعيات، وسياسيًّا مثل الانضمام إلى أحزاب سياسية ونقابات طلابية، وثقافيًّا باعتبار الثقافة وسيلة للفعل والتغيير الاجتماعي.
المراكز الثقافية المستقلة هي الوجه الجديد للفعل الثقافي في تونس، بعد أن تجاوزت الثقافة أسوار المؤسسات العمومية، ودور الثقافة الحكومية التي لم تعد قادرة على استقطاب الشباب وفهم احتياجاتهم الثقافية المتطورة.
فهل يحقق الشباب فكرة استقلال الثقافة عمليًّا؟ وهل يمكن أن يتخلصوا من الوصاية الحكومية والتعبير بحرية عن أحلامهم وأفكارهم؟ وأي نوع من الثقافة أو المعرفة سيقدمها أصحاب المراكز الثقافية؟
يتحدث كريم الخرشوفي، شاب له تجارب في الإخراج المسرحي، عن تجربة فتح مركز ثقافي، موضحًا أن الدافع الأساسي من إنشاء مركز «المسرح الصغير» يتجاوز الدافع الذاتي. فالسبب الأكبر هو تزايد ظاهرة الهجرة غير القانونية بمدينته مِدنين (تقع في الجنوب الشرقي لتونس)، وبخاصة أن الملقين بأنفسهم في مراكب الموت، كانوا من أبناء حيِّه من الشباب المُحبَط الذي يرفضه المجتمع وتتجاهله الدولة.
تعاني هذه المدينة الواقعة بين جبال قرية بني خداش وسواحل جرجيس وجربة، استبعادًا مقصودًا منذ استقلال البلاد التونسية، من طرف الطبقة الحاكمة، وهي منطقة هامشية بسبب موقعها الجغرافي. إنها بعيدة عن العاصمة والمدن الكبرى، لذلك قد تكون المراكز الثقافية منفذًا لخلق ظروف اندماج جديدة والتبادل الثقافي بين المدن الصغرى والمدن الكبرى والعاصمة.
يوضح كريم أن الدافع الأساسي لتأسيس مركز ثقافي في مدينته، توفير إطار هامشي للفعل الشبابي لأنهم الفئة الأكثر عرضة للهجرة غير القانونية والتطرف والانحراف، ثم الأطفال، «لمساعدتهم على بناء شخصية دينامكية وحيوية ومتحررة، وزرع القدرة على التعبير عن أفكارهم بطلاقة»، وأخيرًا، الكهول «كجمهور متابع لعروض المركز والمهرجانات المقامة فيه».
في المدينة نفسها، أسست يُسر بلغيث، شابة جامعية درست التسويق والإدارة المالية، مركز «وِرْغِمَّة» للأنشطة الثقافية، ومركز آخر للعمل الجماعي في الآن ذاته.
ترى يُسر أن تأسيس مركز ثقافي، فكرة مهمة لصنع مكان يلخص مبادئ التغيير الاجتماعي، إضافة إلى أنها فرصة لنشر ثقافة المبادرة الفردية، تقول: «أوفر للشباب مركزًا للمطالعة والدراسة والعمل والاستمتاع بوقتهم، ونشارك في تظاهرات مهمة مع جمعيات محلية ومنظمات عالمية». مؤكدة أنها تسعى إلى إتاحة مركزها إلى كل الفئات، وبخاصة الفئة الشبابية الأكثر نشاطًا في الحياة الجمعياتية.
تعاني يُسر من عدم الاعتراف الاجتماعي بما تنجزه، لأنها تخالف الدور الاجتماعي المطلوب منها كامرأة.
يتفق كريم ويُسر على مضمون الرسالة التي يحملها مركزاهما الثقافيان، وتتلخص في قول كريم إنه «لا خيار للتقدم الاجتماعي إلا بالفعل الثقافي»، وبخلق «جيل منتِج وليس مستهلكًا» على حد قول يُسر.
إذا رأينا أن «الإنسان كائن ثقافي»، على حد قول «كلود ليفي ستراوس»، فإن تَمثُّلات الشباب للثقافة هي المعنى الذي يضيفونه إلى فعلهم الثقافي.
في هذا السياق، ترى يُسر أنه فعل شاق ومكلل بالصعوبات الاجتماعية والثقافية، ما يجعلها عرضة للانتقادات والمضايقات، وبخاصة أنها أول امرأة تؤسس مركزًا ثقافيًّا بالمدينة. تقول: «البيئة الاجتماعية المحافظة من أكبر الصعوبات التي تعرقل سير بعض الأنشطة، وتجعلني في موضع الانتقاد الدائم من الذهنية الذكورية التي ترى أن تأسيس مشروع وإدارته وتسييره خصائص تخضع لمعايير اجتماعية صارمة، وعادة ما يختص بها الرجل».
تعاني يُسر من عدم الاعتراف الاجتماعي بما تنجزه. إنها تسعى إلى التغيير في بنية اجتماعية متكلسة مثلها مثل الذي يسير ضد التيار، لأنها تخالف الدور الاجتماعي المطلوب منها كامرأة، ولا تعير اهتمامًا كبيرًا للأنماط السلوكية التي تحكم دورها الاجتماعي.
أما بالنسبة إلى كريم، فالأمر مختلف نسبيًّا، فالصعوبات التي تعترض طريقه اجتماعية، مثل الذهنية المحافظة لسكان الحي الذين يرى بعضهم أن ممارسة المسرح كفر وإلحاد. يكشف كريم عن القلق الذي يعتريه في بعض الأحيان جراء سلوكيات بعض أفراد الحي الذين ينتقدونه باستمرار، بل يسارعون أحيانًا إلى تكفيره.
لذلك، يحاول كريم تسخير جهوده لدحض الأحكام المسبقة والتوقعات السلبية التي يواجهها كمسرحي، ويعمل على كشف الغطاء عن المشكلات الاجتماعية دون خوف من التابوهات، بل ويقدم حلولًا للشباب تمس نمط حياتهم وتزيد من وعيهم.
يقول كريم: «أواجه صعوبة في التواصل مع شريحة اجتماعية واسعة، إذ ما زال الحضور متذبذبًا وضعيفًا، لأن منهم من يرى في ممارسة الفنون مضيعةً للوقت، إضافة إلى الصعوبات المادية ونقص في المعدات التقنية وغياب الدعم».
لا ينفي كريم توفُّر مواهب واستعدادات ذاتية وفضول يراود بعض شباب الحي ممن يريدون المشاركة في أنشطة المركز.
ينفي كريم فكرة استقلالية المراكز بشكل كامل عن الدولة، لأنها تتلقى دعمها المادي من الدولة، وهي في طريقها إلى بناء ثقافة مختلفة عن السائد.
يُعرِّف «روبرت بيرستد» الثقافة بأنها «ذلك المُركَّب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نفعله أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع».
تعد ممارسات أصحاب المراكز الثقافية الشبابية انعكاسًا لواقع الشباب بعد ثورة 14 يناير 2011، من غضب عن السلطة واحتجاج أخذ طابعًا تعبيريًّا فنيًّا ثقافيًًّا ومحاولة لتغيير الواقع الاجتماعي بصفة عامة، وواقع الشباب بصفة خاصة.
عندما تصطدم ثقافة المجتمع بالثقافة التي يحملها الشباب الجديد، هل يمكننا الحديث عن إعادة إنتاج للموروث الثقافي بالمدينة، أم عن تجديد ثقافي، أو عن قطع كلي مع ميكانيزمات الثقافة الموجودة؟
سألت الشباب: «حسب رأيكم، هل استقلالية المركز الثقافي عن الدولة تكفي لتأسيس فكر وثقافة مستقلين؟».
ينفي كريم فكرة استقلالية المراكز بشكل كامل عن الدولة، لأنها ما زالت تتلقى دعمها المادي من الدولة، وهي في طريقها إلى بناء ثقافة مختلفة عن السائد. يضيف: «صحيح أن المراكز الخاصة تابعة لشركات إنتاج مستقلة، لكنها تبقى في تبعية مادية للدولة ما دامت المموِّلة لغالبية أنشطتها».
يعي كلٌّ من يُسر وكريم خطر الهجرة عن طريق مراكب الموت بحثًا عن حلم الجنة الضائعة: «اللامبيدوزا-إيطاليا»، وخطر الالتحاق بالجهاد في سوريا وبالمتطرفين، والفعلان: الهجرة والجهاد، يهددان شباب المدينة. لذلك يسعيان إلى استقطاب الشباب من خلال توفير نوادٍ وورش إبداعية وإنتاج أعمال فنية محترفة وتنظيم مهرجان «مسرح الأحياء» يشارك فيه أبناء الأحياء الشعبية.
ترى يُسر أنها شابة مؤثرة في محيطها المحافظ على قيم الانغلاق ورفض الجديد، فهي تسعى جاهدة إلى هدم القوالب الجاهزة، وزعزعة أُسس هذه الذهنية من خلال أنشطتها، مثل حث الشباب على المشروعات والمبادرات الفردية دون استجداء عطف الدولة.
على الرغم من قسوة الأحياء الشعبية، يحاول الشابان أن يبعثا روح الأمل والتجديد فيها، وبخاصة أن كريم يستلهم إنتاجاته المسرحية من معاناة شباب الحي اليومية وهامشيتهم. إنه يحاول إقناع الشباب المنقطعين عن الدراسة والباحثين عن عمل بالانضمام إلى مركزه الثقافي، ويعدهم بتوفير الرعاية الكاملة لهم، وخلق هامش للفعل من خلال تنظيم دورات إبداعية، ومهرجانات، وفعاليات يشاركون فيها بالاستعانة بمختصين في المجالات الفنية.
بين حوافز الشباب واستراتيجيات الدولة، توجد هوة كبيرة تتمثل في شعور أبناء الأحياء الشعبية بعدم الانتماء إلى مكان لا يعبر عن معيشتهم وتطلعاتهم. في المقابل، يبرز دور المراكز الثقافية كمكان جديد يمنحهم الشعور بالانتماء ويُولِّد لديهم الرغبة في إعادة تشكيل هويتهم وذواتهم.
تكمن أهمية الفعل الثقافي بالنسبة إلى يسر وكريم، في تجسيد المعارف التي اكتسباها. وهما بذلك يتيحان الفرصة لتمكين الشباب من الفعل والخلق وتشجيعه على حرية الإبداع والتعبير، وبخاصة أن الشباب بعد ثورة 14 يناير 2011، لجأ إلى خلق وعي بديل تبرز في اعتباره الثقافة وسيلة للتعبير عن الغضب والاحتجاج، وبالتالي خروج المراكز الثقافية عن المنطق المؤسساتي البيروقراطي، واعتبار أن الثقافة يمكن أن تُمَارَس خارج حدود الدولة، ولا يمكن أن تكون حكرًا على فئة أو نخبة معينة.
أمل هازل