لا بأس، لا أريد أن أكون سعيدة: في نقد خطاب السعادة
بدا لي دائمًا أن «انعدام السعادة» ذنب أتحمله وحدي، وأنا المسؤولة عنه حصرًا، عندما ألفيتُ نفسي أتبنى خيارات وأنماط حياة لا تكون في معظم الأحيان مستساغة أو «طبيعية» بالنسبة للمجتمع الذي نشأت فيه. لقد كان سؤال الألم واليأس والحزن بالنسبة لي مثل دوامة، ألقيت نفسي فيها بإرادتي، وعليّ لذلك أن أتحمل إخفاقي هذا وعواقبه.
حتى أنني تمثيل موجز لمقولة الكاتب المصري وجيه غالي في يومياته: «أفهم إحباطاته السابقة ويأسه (...) وأفهم أيضًا عدم إدراكه لسعادته، مثلي، متخيلًا أنها من المستحيل أن تحدث له (إنني لا أشكو)».
تفكيك وعد السعادة
تستعرض ليزا ويمز في مقال لها أبرز الأفكار التي وردت في كتاب «وعد السعادة» للكاتبة النسوية سارة أحمد، وتجد أن السؤال الأساسي الذي تنطلق منه معالجة سارة لموضوع السعادة هو «ماذا يعني أن تكون مستحقًا للسعادة؟»، إذ يتضح أن هنالك ارتباطًا كبيرًا بين مفهوم السعادة والاتجاهات (الفكرية، الأيديولوجية، الفسيولوجية)، إذ يُنظر لبعض الهويات الناتجة عن هذه الاتجاهات على أنها سبب للتعاسة، أو قتل البهجة كما تعبر سارة أحمد في أكثر من كتابة لها.
تعمل هذه الاتجاهات على تهديد الركود المتناغم للنظام الاجتماعي، وهكذا يتجاوز الوعد بالسعادة صفته النفسية ليصبح ما هو أكثر من ذلك، ويتخذ صفة سياسية واجتماعية، عندما يصبح هذا الوعد بمثابة واجب أخلاقي ينطوي على توفير تصحيحات فردية واجتماعية من أجل استعادة الخير البديهي للأسرة المعيارية والنموذجية أو المجتمع أو الدولة أو الأمة. إن السعادة في هذه الحالة مشروطة بأن تكون منسجمًا مع المواطَنة المناسبة التي تحددها لك معايير هذه الفضاءات.
بحسب ويمز فإن سارة أحمد لا ترصد أدبيات السعادة، ولا تحاول تكوين تعريف جديد يحسن من هذا المفهوم، لأن فعل ذلك يعني التغاضي عن السلطوية المنظمة في «وعد السعادة»، الذي يعمل في أوقات وأماكن مختلفة. بل إنها تحاول استجواب هذه السعادة ونقدها، عند اعتبارها «واجبًا» أو «صفة» أو «سببًا» أو «نتيجةً»، إذ أن السعادة في سياق بحث سارة أحمد هذا ما هي إلا توجيه، يرمي إلى وضع الشخص في مسار محدد سلفًا إذا توجه هذا الشخص نفسه نحو الشيء المناسب. أي وباختصار شديد، يتوازى تحقيق السعادة مع خياراتك واتجاهاتك السياسية والاجتماعية.
كيف يوجهنا الوعد بالسعادة؟
يكتب شون غراتان حول أن الوصية الاجتماعية بأن تكون سعيدًا تحيط بنا على الدوام، لكن هل يمكن أن نجادل حول الخير في هذه السعادة التي يريدونها لنا؟ هذه السعادة المشروطة ثقافيًا، والتي غالبًا ما تُطرح في سرديات: الأسرة السعيدة، العامل السعيد، المواطن السعيد. إن سارة أحمد تسعى هنا لمقاومة الابتسامة أو الإيماءة الإجبارية.
تقول ويمز إن وعد السعادة هذا يصبح جزءًا من الخطابات الواسعة، بما في ذلك الفلسفة الأخلاقية والسياسية والتحليل النفسي والنظرية النسوية والكويرية ودراسات المنفى، وعلم النفس الإيجابي الناجح تجاريًا. وبواسطة هذه المجالات تفحص سارة كيف تُعرض التعاسة والبؤس والمعاناة على أجساد وهويات معينة. فالنسوية ليست سعيدة، والمهاجر شخص كئيب، وبهذا يتعرض الكثير من الأشخاص للإبعاد عن نصوص اجتماعية تعنى بالسعادة والأمل والنجاح، فيضطرون إلى تحويل المشاعر السيئة لمشاعر جيدة فقط من أجل الحفاظ على وعد السعادة المزعوم. وهنا إما أن نضطر لحجب معاناتنا، أو تفسيرها بطريقة تتلاءم مع وعد السعادة الذي تريده السلطة، أي سلطة كانت.
يمكن أن نكتشف بسهولة بحسب ويمز كيف أن هذه السعادة تنطوي على الحكم علينا، وكيف أننا مضطرون لتحجيم السعادة الفردية من أجل الصالح العام لمجتمعنا الأكبر. وبهذا تصبح مؤسساتنا بداية من الزواج والأسرة معملًا لإعادة إنتاج السعادة الطبيعية، وفي هذه الحالة ينبغي وفقًا لسارة أحمد إعادة «الاضطرابات» إلى طاولة الأسرة كعمل ثوري يخلخل هذه الفضاء.
يرمي خطاب وعد السعادة هذا بحسب غراتان إلى شكل من أشكال التأديب، فـ«لماذا عساك ترفض أن تكون سعيدًا؟»، ويضع الحدود بين الشخص المشاغب والشخص الذي يحسن التصرف. السعادة إذًا مرتبطة بتضييق الآفاق، كما أن هنالك صلة وثيقة بين الحالة الطبيعية التي تحددها المنظومة التي تعيش فيها والسعادة.
يظهر لنا بذلك سؤال في غاية الأهمية: ما هي الإمكانيات والاحتمالات التي يمكن أن تصنع عالمنا إذا لم نتقيد بخطاب وعد السعادة هذا؟ بالنسبة لسارة أحمد «النضال ضد السعادة كضرورة هو أيضًا صراع من أجل السعادة كاحتمال». إن ظهور إمكانية التعاسة والسعادة والمجموعة الواسعة من التأثيرات المحتملة الأخرى هو التحدي السياسي والأخلاقي الرئيسي لوعد السعادة.
ثورة إعادة السلبية لطاولة الحوار
لقد تأثرتُ بصورة خاصة بمقالة إسلام الخطيب حول ما بدا بالنسبة لي تطبيقًا لدعوة سارة أحمد، المتمثلة في اعتبار الألم والحزن والحداد جزءًا ضروريًا من الخطاب العام، وإعادته لطاولة الأسرة.
تكتب الخطيب: «يُنظر إلى الحداد والرثاء عمومًا كمشاعر سلبية، أو على الأقل مشاعر لن نختارها إن كان بوسعنا الاختيار. وفي أحيان كثيرة، في سياق مناقشة التحديات التي تواجه العالم، يسارع الناس إلى صد الأفكار السلبية والتركيز على تلك الإيجابية. وبغض النظر عن أهمية إيجاد ثغرات الأمل، فإن التركيز على هذا الفعل بشكل حصري هو في حد ذاته جزء من الإنكار الجماعي، في وقت نحتاج فيه إلى البحث بشكل عاجل عن طرق تتيح للمجتمع تحمّل المشاعر المؤلمة المحيطة به والاعتراف بها».
وانطلاقًا من هذه الفكرة، تحاول إسلام ربط النسوية بالرثاء وممارسة الحداد كفعل سياسي، وتقول إنها وجدت ملاذًا وملجأ في كتابات المحللة النفسية النسوية ميلاني كلاين، في سياق كتابتها عن الكآبة والرأسمالية، وخاصة وصفها الحزن كحالة اجتماعية وجماعية، بمعنى أن الكآبة على علاقة تأثير وتأثر متبادلة مع هياكل القمع المجتمعية المختلفة.
وبدورها تكتب وديعة فرزلي عن حالات التعب والسقوط والوصول لحافة اليأس، التي تدفع الشخص إلى السؤال عن السعادة، عن فقدانها فلا يجد نفسه سوى أمام كم هائل من الأطروحات التي تحاول تحفيزه أو لومه على التقصير في حق نفسه، فتقول عن كتاب سارة أحمد: «هذا الكتاب لا يعلمنا التقبل والتكيف والامتنان والتسليم بالوضع الراهن، ما يعني أنه لا ينتمي إلى سوق "صناعة السعادة" الرائج. على العكس تمامًا، يعلمنا هذا الكتاب اكتشاف أسباب انعدام الإحساس بالسعادة».
أخيرًا، إنني أحاول جاهدة التوقف مليًا أمام المواقف التي تحمل قدرًا عاليًا من الإملاءات المرتبطة بالسعادة، وعجزي عن تحقيقها، أحاول أن أقاوم ذلك بتطبيع حالة الحزن الذي أمر به، لأنني لا أستطيع على الإطلاق غض النظر عن كل أسباب التعاسة الفعلية في الواقع الذي أعيش فيه. إنني فعلًا وبحسب وعد السعادة خاصتكم لستُ سعيدة، ولا بأس في ذلك.
أمل السعيدي