موت ستالين: رثاء ساخر للديكتاتور
في الليلة الأخيرة التي سيقضيها في بيته الريفي بـ«كونتسيو». الجورجي ذو الشارب الكثيف الذي يكره إظهار قصر قامته في الصور، «جوزيف ستالين»، سيعمل ثلاثة أشياء لم يكن على علم بأن تلك هي فرصته الأخيرة كي يفعلها: أولًا التوقيع على قوائم المطلوبين الجديدة، والتي يقدمها له «لافرينتي بيريا»، قائد جهاز «شرطة الشعب»، وثانيًا إصدار أمر عبر الهاتف بتسجيل أسطوانة للحركة الثالثة من «كونشيرتو 23»، لـ«موتسارت»، والتي كان يستمع إليها عبر إذاعة «راديو موسكو» بينما كان يناقش اسمًا موضوعًا في القائمة مع بيريا، وثالثًا مشاهدة واحد من أفلام رعاة البقر الأمريكية (النوعية المفضلة لديه) رفقة أصدقائه من أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي.
حينما يرحل هؤلاء، وينفرد ستالين بنفسه كي يستمع إلى موتسارت مجددًا عبر الأسطوانة التي تأخر وصولها من محطة راديو موسكو، وبينما يقرأ رسالة كانت مُرفَقة بها من عازفة البيانو «ماريا يودينا»، يُحدث ارتطام جسده الثقيل بالأرض صوتًا يرفض جنديا الحراسة على باب غرفة نومه، التحقق منه خوفًا من القائد الذي يكره أن يزعجه أحد في أثناء النوم.
قبل ذلك كان مدير الراديو قد دخل في حالة من الذعر حينما اكتشف أن الحفل الذي طلبه الرفيق ستالين عبر الهاتف لم يُسجَّل، بينما اصطدم مايسترو الأوركسترا بدلو إطفاء مُعلَّق على الحائط حين أدرك أنه نطق اسم ستالين دون أن يسبقه بالرفيق أو القائد الذي قد يتنصت عليه في تلك اللحظة.
يعاد تسجيل الحفل وإرساله إلى منزل القائد الذي سيحمله رفاقه في الصباح التالي إلى سريره بعد أن فقد وعيه وبلل بنطاله والسجادة التي كان يرقد عليها. وحينما يشتكي أحد الرفاق من ثقل جسد القائد يستدرك نفسه سريعًا ويضيف بأنه ثقيل مثل الذهب.
القائد الآن نصف ميت. رفاقه، أو من تبقى منهم، سيستدعون من بقي من أطباء موسكو اليهود الأكفاء الهاربين، والذين أعدم ستالين كثيرًا منهم في ما مضى بحجة محاولة اغتياله، ليكتشفوا أنه يعاني من نزيف في المخ. سيفيق ستالين فجأة وهو على سريره عاجزًا عن الحديث، مشيرًا إلى لوحة «فتاة تسقي الحَمَل» على الحائط. رفاقه المُتحلِّقين حول السرير سيفسرون ذلك بأن الحليب في اللوحة هو الاشتراكية، والحَمَل هو الشعب.
الأكيد أن محاولة إضفاء طابع جاد أو حكمة ما على إيماءات الزعيم الروتينية أو التافهة من سمات الحكم الشمولي. في النهاية سيكتشفون أن ستالين كان فقط يريد أن يشرب، لكن نجاح محاولاتهم العبثية لتفسير الطلب الأخير في حياته تأخرت جدًّا، ومات من دون أن يتحقق له ذلك.
بيروقراطيون لكن ظرفاء
يظهر أبطال الفيلم من أعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي كشخصيات فكاهية عكس الصور السينمائية السائدة عنهم.
يعرض فيلم «موت ستالين» أحداث الصراع على السلطة، والتي تلت رحيل زعيم الاتحاد السوفييتي، وأحد أبرز الحكام الشموليين على مر التاريخ، «جوزيف فيساريونوفيتش» الشهير بـ«ستالين». لا يحكي الفيلم حقائق تاريخية كاملة، لكن قصته مبنية على الرواية الفرنسية المصورة بنفس الاسم، والتي تحاول بنكهة كوميدية سوداء إبراز حالة الشك والرهاب التي سيطرت على عهد الرجل الحديدي وما بعدها، والذي أرسل كل من اشتبه في مُعارضتِه، إما إلى الموت، وإما إلى المنفى، وإما إلى معسكرات العمل القسري «غولاغ».
أبطال الفيلم مجموعة المُقربين من ستالين من أعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي: «جورجي مالينكوف»، «نيكيتا خروتشوف»، «بولغانين»، «مولوتوف» وزير الشؤون الخارجية، و«لافرينتي بيريا» قائد الشرطة، إضافة إلى قائد الجيش الأحمر، وبطل الحرب السوفييتي، الجنرال «غوركي جوكوف».
جميعهم يتحركون مثل الدمى المُدرَّبة على خطابات مجهزة مسبقًا، وفي عقولهم شيء واحد فقط: من سيخلف الرجل في قيادة «الكتلة الشرقية»، وإلى أي جانب سينحازون بعد اختيار «مالينكوف» و«مولوتوف» و«بيريا» لتولي السلطة ومحاولة الأخير الانفراد بالحكم، بينما يظهرون على مدار الفيلم كشخصيات فكاهية لديها حس دعابة قوي، وتبدو على ملامحها، في مشاهد كثيرة، تعبيرات هزلية على عكس الصور السينمائية السائدة عن مسؤولي الاتحاد السوفييتي، والتي أظهرتهم دائمًا في صورة رجال متجهمين لا يجيدون إطلاق النكات.
أيتام الديكتاتور
يتسابق الجميع للتودد إلى «سفيتلانا»، ابنة القائد، العاطفية والساذجة و«فاسيلي» الابن مدمن الفودكا الذي لا يقدر على إلقاء خطاب في جنازة والده.
جزء أساسي من الكوميديا أنها تعمل على تعرية القدسية التي تحظى بها الأفكار أو يحظى بها الأشخاص. والأشخاص في تلك الحالة رعاة حكم الفرد ومعاونوه المخلصون، هم مهرجو النظام القمعي الذين يبحثون عن مبرر لقتل 1500 شخص اخترقوا حدود موسكو فقط لأنهم أرادوا حضور جنازة القائد.
يتطور الصراع على السلطة بعد ستالين من خلال محاولات بيريا الانفراد بالحكم مع معارضة سرية من جوكوف وخروتشوف (أحد أشهر قادة الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة في ما بعد) الذي يظهر هذه المرة كمنظم للجنازات يختار الورد، ويراجع قوائم المدعوين.
كان ذلك جزءًا من محاولات بيريا إبعاد خروتشوف عن أي سلطة حقيقية بعد وفاة ستالين. هنا يظهر ذكاء خروتشوف الذي سيتفق مع الجنرال جوكوف على التخلص من بيريا إلى الأبد بتهمة تواطئه مع الولايات المتحدة الأمريكية.
يُطل علينا الجنرال جوكوف كالعادة، وعلى صدره متحف من النياشين والأوسمة، لكنه يظهر هذه المرة كشخص خفيف الحركة يتمتع بحس فكاهة بارز يكسر طابعه العسكري المتزمت والكئيب الذي تراه دائمًا في عروض الساحة الحمراء، بينما يتسابق كل هؤلاء في التودد إلى «سفيتلانا»، ابنة القائد، العاطفية والساذجة بعض الشيء، والتي تبكي كثيرًا، والحزينة على انتحار والدتها، و«فاسيلي» الابن مدمن الفودكا المتهور الذي لا يقدر حتى على إلقاء خطاب رزين في جنازة والده، بل يتمادى بشكل مفصل في ذكر أسماء البلدان داخل الاتحاد السوفييتي، والتي تيتَّم أبناؤها بعد وفاة والده كما يصف، وهو غير مرشح لخلافته بالمرة.
لا تنخدع، فالأخ الكبير ما زال يُراقبك
الفيلم مليء بالمفارقات التي تُلائم كون اتحاد الجمهوريات الديمقراطية الاشتراكية (هذا الاسم الرسمي له) من دون ديمقراطية، ويخضع لحكم الحزب الواحد. يحاول الفيلم بالطبع إبراز بشاعة الحياة تحت رقابة الحكم الشمولي حتى بالنسبة إلى مُعاوني الديكتاتور أنفسهم. لكن على عكس كثير من الأفلام التي قدمت ذلك بجدية، فإن الفيلم يقدم ذلك بنكهة هزلية سوداء نجحت في أن تكون كوميدية ومضحكة بالفعل. ورغم ذلك، فهي تحتفظ برؤية عميقة تؤكد أن ما يُقال على سبيل الدعابة ليس سوى جزء من الحقيقة الجادة. وجاء عرض الفيلم، في 2017، في وقت يمثل فيه السياسيون الشعبويون الذين يروجون لخطابات إقصائية ذات طابع شمولي ظاهرة بارزة حتى داخل أعتق الديمقراطيات الغربية.
الفيلم يحاول كشف انخداعنا بوجاهة حجج هؤلاء الزعماء والسياسيين الذين نراهم مثاليين في الصور والخطابات، شخصيات لا يؤهلها حجم قسوتها أو ادعاءاتها لأن تكون ذات شأن يصل إلى حكم اتحاد بلاد بأكملها، أو حتى حكم بلد واحد، إلى جانب أنها تصدر الأوامر ببناء السجون وإعدام المواطنين أو إبعاد الناس إلى المنافي، فهي تظل شخصيات ذات اهتمامات تافهة مثلنا تمامًا.
على سبيل المثال، يظهر «جورجي مالينكوف» مُنشغلًا بالتقاط صورة كاريزمية لا تَبرز فيها عظام وجهه، وتُبرزه كزعيم حقيقي، أو وهو يبحث عن الفتاة نفسها التي التقط معها ستالين منذ سنوات صورة من شرفة الكرملين، ولا يرضى بشبيهة الفتاة كي يلتقط نفس الصورة التي ستستخدمها الدعاية في تصديره للناس كزعيم مستقبلي جيد.
يحدث ذلك في الوقت الذي يتحالف فيه أعضاء المكتب السياسي، بزعامة خروتشوف وجوكوف، في مؤامرة للإطاحة ببيريا. في النهاية ينجحون في رميه بالرصاص، وإحراق جثته بعد محاكمة هزلية لم تستغرق دقائق يتحول بعدها بيريا إلى رماد هش وخفيف يتخلص منه أحد الجنود السوفييت بينما تراقبه عدسة الفيلم بدقة وهو يطير.
جميع البشر تحت هذا النوع من الحكومات مُراقب، وجميعهم معرضون لأن تنتهي حياتهم في أي لحظة، مصادفة أو عن طريق الخطأ الذي يصير هو القاعدة. حتى المسؤولون الذي يُوقّعون على تنفيذ تلك الأخطاء، ويخططون لها بدقة، مُعرَّضون كذلك في أي لحظة للإطاحة بهم من مسؤولين سيحلُّون مكانهم في ارتكاب الأخطاء الجديدة التي تسجل أعدادًا جديدة في قوائم ضحايا التسلط والقمع.
أمين حمزاوي