الإنشاد الصوفي في المغرب العربي: تضرُّع إلى الله عبر الموسيقى
تخترق الموسيقى جميع الفضاءات وتوحِّد معظم الطوائف والأديان، فالجميع سواسية أمامها لأنها تلِجُ القلوب عبر بوابة الأحاسيس، وتسحرنا بما تثيره فينا من مشاعر فياضة وهيام وتعلُّق بالمجهول وتَوْق إلى الخلاص.
الأغاني الدينية والأناشيد الصوفية تحضر بقوة في البلدان المغاربية ولها جمهورها العريض، ولعل خير دليل على ذلك غزارة الإنتاج (في المغرب وتونس خاصةً)، ومحاولات التجديد على مستوى الكلمة والموسيقى.
يعتني المنشدون بالنصوص ويعكفون على دراستها محاولين إضفاء بُعد جديد عليها، مع المحافظة على رونقها بطريقة تجعل المستمع مستمتعًا بالألحان والإيقاعات ومتَّعظًا متمعِّنًا في الكلمات في آن واحد.
هذه مهمة صعبة يحاول من خلالها المنشد الخروج عن دائرة المألوف والمعتاد، ليصبح الإنشاد والغناء الصوفي معتمدًا على التوزيع والبحث الموسيقي والتوضيب الركحي الذي يخدم، في أغلب الأحيان، الجو العام الذي تضفيه النصوص وتؤثثه، فيقع الالتجاء إلى أزياء موحدة والاعتناء الخاص بالإضاءة على المسرح مع التحركات الدقيقة.
إنها بمثابة كوريغرافيا (فن تصميم الرقصات) متكاملة، تحمل الغناء الديني والإنشاد الصوفي من مجال المنطوق (أي التغنِّي بالكلمات) إلى مجال المرئي (أي التركيز على عنصر الفرجة والإبهار)، فما أبرز ملامح المشهد الإنشادي في البلدان المغاربية؟
الإنشاد الديني في البلدان المغاربية
تُحيلنا الموسيقى الدينية مباشرةً إلى أشكال تعبير مرتبطة أساسًا بالطُّرُق الصوفية، التي رغم تعددها تنبع من نفس السياقات والظروف التاريخية.
ثَمَّة تطابق في الطقوس والرؤى التي نشأت خلالها هذه الطرق، سواء في تونس أو المغرب، فقد لعب التباعد الجغرافي بين عالم المغرب ومركز الدين الإسلامي دورًا مهمًّا في ازدهار حركة الإنشاد الديني عبر القصائد والمدح، التي كانت ترجمانًا لشوق أهل المغرب لزيارة مكة.
اقرأ أيضًا: تاريخ الصوفية في مصر من عصور الفراعنة إلى شيوخ الطريقة
الطريقة الشاذلية: أبو الحسن الشاذلي
أبو الحسن الشاذلي رائد الطريقة الشاذلية، ويمجِّده دراويشه ويعبِّرون عن حبهم بالأشعار والأناشيد.
تعتبر الطريقة الشاذلية في تونس أبرز الطرق على الإطلاق، وتعود إلى أبي الحسن الشاذلي (593 - 656 من الهجرة / 1196 - 1258 من الميلاد)، الذي يُعد أحد رواد التصوف في تونس الذين سعوا إلى ترسيخه.
يتلو المتصوفة على الطريقة الشاذلية آيات قرآنية بطريقة منتظمة وباعتناء كبير بنسق التلاوة واهتمام بمخارج الحروف، مع إنشاد «الأحزاب» التي تعتبر أدعية ألَّفها أبو الحسن الشاذلي مناجاةً للَّه، مع أدعية وابتهالات.
يعتبر أبو الحسن الشاذلي رائد هذه الطريقة الصوفية، ويمجِّده دراويشه ويُجلُّونه، ويعبِّرون عن حبهم بمجموعة من الأشعار والأناشيد التي تمدحه، ومن أهمها حزب البحر وحزب الحمد.
تتضمن حصص الذكر عند الشاذلية تلاوة ما تيسر من القرآن وقراءة الأحزاب والأدعية، التي يتناوب فيها المنشدون ويشتركون في أدائها على إيقاعات آلة البندير أو بدونها.
الطريقة السلامية: عبد السلام الأسمر
أسَّس الطريقة السلامية عبد السلام الأسمر (1475 - 1573 من الميلاد)، وطريقتهم في الأداء خلال حلقات الذكر تختلف عن الطريقة الشاذلية، فهم يستهلُّون الحلقات بقِسم خالٍ من الإنشاد والموسيقى، ويكتفون بتلاوة سورة الفاتحة وتليها قراءة حزب الفلاح للشيخ الأسمر.
يمكن لهذه الفرقة أن تؤدي إنشادًا مصاحَبًا بمجموعة آلات إيقاعية مثل آلة البندير. تعتبر الطريقة السلامية من أعرق الطرق في تونس وأكثرها انتشارًا وأتباعًا، ولها أشعار بالدارجة والفصحى، وأحزاب وأشعار بعضها من تأليف مؤسسها وأخرى وضعها أتباعه.
الطريقة التيجانية: أحباب الله
يطلَق على أتباع تلك الطريقة «الأحباب» أو «أحباب الله»، وهي طريقة منتشرة في كامل البلدان المغاربية، خصوصًا تونس والمغرب.
ظهرت التيجانية مع الشيخ أحمد التيجاني دفين مدينة فاس، وتتميز بغياب الأناشيد واقتصارها على الاستغفار والصلوات على النبي وذكر الله دون موسيقى أو آلات إيقاع، وتسمى تلك الصلوات التي يتضرَّع عن طريقها التيجانيون إلى الله «الوظيفة».
الطريقة العيساوية: محمد بن عيسى
أسَّس الطريقة العيساوية محمد بن عيسى (872 - 933 من الهجرة / 1467 - 1526 من الميلاد)، وضريحه في مدينة مكناس المغربية، وأهم الفرق التي تتبع هذه الطريقة هي عيساوية قابس التي أُسِّست عام 1912، وتضم 30 عضوًا بقيادة الشيخ المختار دبيَّة.
طقوس العيساوية في تونس والمغرب تعتمد على رقص «الجدبة» كعنصر أساسي، وهي حركات شبيهة بالشطحات الصوفية، ويناجي المريدون عن طريقها شيوخ الطريقة، وقد يصل الأمر إلى الإغماء في بعض الأحيان.
الطريقة العزوزية: مزج الصوفية والأندلس
تنتسب تلك الطريقة إلى علي عزُّوز، المتوفَّى عام 1117 من هجرة الموافق 1705 من الميلاد.
يكمُن تفرُّد هذه الطريقة في مزجها بين الموسيقى الصوفية من جهة والأندلسية من جهة أخرى، فنلاحظ خلال حلقات الذكر جمعًا بين آلة الطار والعود.
للطريقة العزوزية ثلاث زوايا، الأولى في العاصمة تونس، والثانية في مدينة بنزرت، والثالثة في زغوان حيث يوجد ضريح مؤسس الطريقة.
الطريقة الرحمانية: عبد الرحمن القشتولي
سُمِّيت الرحمانية نسبةً إلى الشيخ عبد الرحمان القشتولي المتوفَّى سنة 1794، وأشهر زواياها زاوية سيدي علي بوحجر في مدينة الكاف التونسية.
خلال حلقات الذكر، يمكن أن تكون الأناشيد دون أي آلات أو إيقاع، ويمكن كذلك أن تكون مصحوبة بمجموعة آلات أدخلوها، مثل الدُّف والقمبري (آلة وترية) والطبلة والشقاشق والقرقب (آلة نحاسية ذات جرس موسيقي نحاسي)، لذلك تكون حلقات الذكر إنشادًا لقصائد تصحبه موسيقى طاغية على أصوات المنشدين.
آثار التجديد الموسيقي في الإنشاد الديني التونسي
لم يأت تطوُّر الإنشاد الديني في تونس من فراغ، بل نتيجةً لعمل دؤوب وتكثيف البحث والتنقيب في التراث ومحاولات التجديد المتواصلة.
بالإضافة إلى المنشدين المعروفين، مثل أحمد جلمام وتوفيق دغمان وغيرهما، اتجه العديد من الموسيقيين والمغنين إلى النصوص الصوفية ليخرجوها في ثوب جديد، وفي عرض «الحضرة» موسم 1993، سعى المخرج الفاضل الجزيري إلى إضفاء روح جديدة ومعاصرة على خرجات الطرق الصوفية.
أما على المستوى الموسيقي، كان الموسيقار سمير العقربي سبَّاقًا في هذا المجال، إذ أوجد توليفة بين آلات إيقاعية مثل البندير مع نوتات باس غيتار خفيفة في الخلفية بصحبة نوتات البيانو.
لا يكون التجديد مجردًا بدون غاية، بل إن النص يعيد خلق ذاته ويتجدد من تلقاء نفسه.
ركز المخرج الفاضل الجزيري على عنصر الفرجة والحركات المتناسقة مع ذلك الضباب الذي يكتسح الأنحاء ولا يمكن للمُشاهد أن يتجاوزه، لأنه إشارة إلى الغموض والسحر الذي يكتسي الطقوس الصوفية، ويرمز أيضًا إلى الخروج تدريجيًّا من عالم الموجودات والدخول في عالم سحري مُفعَم بالخشوع.
كل هذا يتوَّج بحركات من المنشدين ومَن وراءهم، فتارةً يلتفتون إلى اليمين وطَوْرًا إلى الشمال دون توقف، إحالةً إلى حالة عدم الاستقرار التي يكون عليها الباحث عن الحقيقة، والطامح للقاء وجه ربه.
في نفس العرض، وخلال مقطوعة «على الله دِلالي»، يحاول المغني التونسي كريم شعيِّب أن يطوِّع خامته الصوتية لتتماشى مع النص ونسق الموسيقى وإيقاع البندير، هذا الصعود والنزول بطبقات الصوت هو روح التجديد وكسر الإيقاع المعتاد، ليصبح المستمع وكأنه أمام نص وليد عصره.
بعبارة أخرى: لا يكون التجديد مجردًا بدون غاية، بل الهدف الرئيسي منه وضع المتلقي أمام حقيقة لا جدال فيها. أي أن النص يعيد خلق ذاته ويتجدد من تلقاء نفسه، وهي إشارة الى الفلسفة الصوفية القائلة بتجدُّد الروح في كل مرة تبلغ فيها العلياء وتلتحم بالذات الإلهية، كأن هذه الصورة تنعكس على حالة المستمع لحظة إنشاد النص.
هذه الحركة التجديدية في الفرق والطُّرُق الصوفية لم تقتصر على تونس فقط، بل تجاوزتها إلى المغرب.
التجديد الموسيقي في الإنشاد الديني المغربي
ينقسم فن السماع الصوفي إلى شقين: باب مديح الرسول، وباب كلام الصوفية وشروط التربية الروحية.
حركة تجديد الإنشاد الصوفي في المغرب نشيطة وديناميكية، فقد أسس الدكتور محمد توهامي الحراق مجموعة «الذاكرين»، التي أضافت إلى الطرق الكلاسيكية وعرَّفت بفن السماع الصوفي، الذي يعتبر موسيقى في إطار روحي ظهرت منذ القرن السابع هجري (الثالث عشر الميلادي)، وبدأت مع بداية الاحتفال بذكرى المولد النبوي في المغرب.
يقوم فن السماع أساسًا على إنشاد وترتيل الأشعار وفق الطبوع الأندلسية وأساليبها في التنغيم والإيقاع.
في البداية كانت حلقات الإنشاد خالية من الآلات الموسيقية، لكن تدريجيًّا وقع المزج وانفتح هذا الفن على الآلات الإيقاعية.
في فن السماع شِقَّان: باب مديح الرسول مثل قصيدة البردة للبوصيري، وباب كلام القوم، أي كلام الصوفية وشروط التربية الروحية، كالأشعار التي تشمل الترميز، مثل «تغزلات الحقيقة» أو رمز الخمر، ويسمى هذا الغرض «التغزل الصوفي».
يمكن أن نذكر فرقة ابن عربي، التي اعتمدت هذا المنهج بإضفاء نَفَس جديد إلى الإنشاد الديني بطُرُق مبتكرة. ذلك ما نلاحظه من خلال توليفات موسيقية تخرج بالإنشاد الصوفي من دائرة النمطية والمتوقَّع إلى الارتجال والتحرُّر من القيود.
ألحان «خفيفة» نسبيًّا مقارنةً بثِقَل النصوص، مع تركيز تام وإعطاء أولوية مطلقة لصفاء الصوت ليحتل مساحات لا تصلها الموسيقى بأداء متقن. هذا ما جعل فرقة ابن عربي متفردة في مجال تلحين القصائد، مع اهتمام بالأداء يجعله يأخذ في أغلب الأحيان مكانة اللحن.
لا يعني هذا إهمال الأبنية اللحنية، بل أن تكون ألحان العود والقانون بمثابة تمهيد للمنشد، الذي يُضفي على النصوص رونقًا خاصًّا عن طريق تفخيم الحروف وحركات المد والارتجاليات المعقدة، مثل إعادة البيت مرات وبطُرُق مختلفة وبأداء صوتي عذب ولعوب.
يحتل الإنشاد الديني في البلدان المغاربية مكانة مهمة، ففي تونس والمغرب نلاحظ حضورًا قويًّا للصوفية بسبب التراكمات التاريخية والحضارية، وإقبال العامة على الاستماع إلى الأناشيد واستحسانها. وتعززت هذه المكانة عن طريق المحاولات التجديدية، التي أدت إلى تنوُّع على مستوى الأداء والموسيقى.
ضياء بوسالمي