تجربة شخصية: كيف أنقذتني سعاد عبدالله من حياة الفهد؟
وقفت البنات الثلاثة وراء والدهن، يرتدين جلابيبهن الخضراء المتماثلة. يقفن في صف واحد كطابور عسكري، منكسات الرؤوس، يقلن بصوت واحد ينزع قلب الفردانية: «الشور شورك يا يبه». يبتسم الوالد بفخر، إلا أن الجحيم قد تجسد له على هيئة ابنته الصغرى، لا ترتدي مثلهن، لا تقف معهن في الصف، لا تشبههن في شيء، فالرأي رأيها و«الشور شورها». كان يحترق كلما سمعها تقول «لا»، كلما قالت له «لا تسويني مثل خواتي».
تلك الفتاة كانت «دلال» التي أدت دورها سعاد عبد الله في مسلسل «خرج ولم يعد»، الفتاة التي تمردت على تقاليد عائلتها وتزوجت رجلًا متزوجًا، هربًا من بيت أبيها وإخضاعه لها، لتمارس حتى في البيت الجديد لعبتها في التمرد على القواعد.
كنتُ طفلة تلمع عيناها وتفتح فاها انبهارًا، متسمرة أمام التلفزيون المصدر الوحيد الذي يمكّنها من معرفة العالم. طفلة كانت تخرج عبره من واقع يقول لها بأن واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، وأن الولد يساوي بنتين، وأن جمال «سندريلا» هو ما أنقذها من البؤس.
لكن سعاد، سندريلا الشاشة الخليجية كما يلقبونها، وحدها التي كانت تنظر إليّ من وراء الشاشة لتقول لي بأن القواعد تُكسر، وأن الواقع يتغير، وأنها جميلة، جميلة جدًا بشعرها المنسدل، وضحكتها المبهجة، وابتسامتها الواسعة، وأنها رغم هذا تأخذ حقها من الحياة بذراعيها، لا تنتظر أن يعطيها جمالها نقاط تقدم. وكلما ملأ التحدي عينيها قلت في نفسي كما يقول خالد الشيخ: «أنا لا أملك في الدنيا إلا عينيكِ وأحزاني».
لماذا سعاد؟
لا أذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها سعاد عبد الله على التلفزيون، لكن يذكر التاريخ الفني للخليج أنها حقيقة ثابتة منذ الستينيات، حين ظهرت للمرة الأولى في برنامج «ديوانية التلفزيون»، وانتقلت بعدها للمسرح والاستعراض والغناء والدراما وتقديم أهم الأعمال الفنية في المنطقة الخليجية، فشكلت مع عبد الحسين عبد الرضا أهم ثنائى في الخليج، ومع حياة الفهد الثنائي النسائى الأهم، ومع حياة وغانم الصالح ثلاثي قدم أهم الأعمال التي لا تزال تحصل على مشاهدة وإعجاب الأجيال المتعاقبة.
سعاد لا تعرف أنها صديقتي، لكنني أعرف ذلك جيدًا. رافقتني في كل المراحل، كان لها تأثير على كل منها، وأظنها فعلت، دون أن تدري، ذات الشيء مع آخرين من أجيال مختلفة. لكني كنت أرى في سعاد حبل إنقاذ، يخبرني بأن على الضفة الأخرى حياة مختلفة جذريًا.
في «خرج ولم يعد»، يقف المشاهد أمام نموذجين من النساء: «دلال» و«غنيمة»، فقل لي إلى أيّ منهما تنتمي، أقل لك من أنت.
في «خرج ولم يعد»، والذي بالمناسبة كان فكرة سعاد عبدالله، كانت حياة الفهد في بطولة ثلاثية مع سعاد وغانم الصالح، تلعب دور المرأة البلهاء الغنية المتزوجة من رجل يستغل مالها وغباءها. كانت حياة في دور «غنيمة» ساذجة لا تعرف سوى طاعة الزوج وتصديق ما يقول، تحاول بكل ما تملك أن تكون على قدر ما يتطلب. يضحك عليها زوجها «سليمان أبو الريش» الذي أدى دوره غانم الصالح بكلمتين، وتقع فريسة سهلة جدًا لكذبات ابنتها وصديقتها، وألاعيب الزوجة الثانية سعاد عبد الله.
«غنيمة» كانت مثالًا لكل شيء لا أريد أن أكونه، كل شيء لا أريد لأي فتاة أن تكونه. رغم كوميديا المسلسل، والأحداث التي تدفعك للضحك، والمشاهد التي ما زالت ثابتة في عقل أقراني حول غنيمة المضحكة وما يحدث لها، فإنني كنت غاضبة جدًا منها، يستفزني خوفها، وخنوعها، وقدرتها الهائلة على بذل الطاعة العمياء والثقة التي لا بصيرة لها. أتعاطف معها أحيانًا، وأعود لغضبي في أحيان أخرى.
في «خرج ولم يعد»، يقف المشاهد أمام نموذجين من النساء: «دلال» و«غنيمة»، فقل لي إلى أيّ منهما تنتمي، أقل لك من أنت.
لم يكن دور سعاد في مسلسل «خالتي قماشة» أقل تمردًا ولا ذكاء. هنا كانت الكيميائية التي تحاول أن تخلق لنفسها إنجازًا علميًا، بينما يزج بها والدها في حضن أول رجل يأتي لخطبتها للتخلص منها والتفرغ للزواج بدوره، فتقع تحت سيطرة والدة زوجها المتسلطة «قماشة» التي أدت دورها حياة الفهد.
وعلى عكس بقية زوجات أبنائها كانت هذه أكثر ذكاء وحيلة، اكتشفت ما لم تكتشفه الأخريات. ورغم أن حياة نوعت من أدوارها (فها هي في دور جديد ومختلف)، فإنها ككل المرات قدمت لي النموذج الذي يخبرني بصراحة أن أهرب وأنفر منه، فيما أخذتني سعاد في دور «محبوبة» بأحضانها مجددًا.
في مسلسل «على الدنيا السلام»، كانت سعاد «مبروكة» التي قلبت الطاولة على عمها الظالم وزوجته في ليلة زفافها من ابنهما حين قالت «أنا مجنونة واللي فيه خير يلحقني»، لتجري إلى مستشفى الطب النفسي الذي أُودعت فيه أختها ظلمًا، وراحت تخيط الحيل لتعيد إرث والدها المسروق. مبروكة كانت ذكية، ساقت كل المكائد للهرب من المستشفى والعودة إليه، ومساعدة الآخرين، والانتقام من عمها وزوجته على طفولتها المعذبة معهما.
إلى جانبها كانت تقف أختها «محظوظة»، تحاول بغبائها المعتاد وطيبتها ورعونتها وسرعة انفعالها أن تساعد أختها في خططها لرفع الظلم. أُدخلت إلى مستشفى الطب النفسي ظلمًا، لكنها بقيت هناك، لم تحاول الهرب إلا بإحساس أمومي بحاجة أختها إليها. وفي مشهد كوميدي يوضح لك شخصية محظوظة، ترمي حياة بنفسها من نافذة المستشفى كأسهل طريقة للهرب وأول ما يخطر على بالها.
شكلت لي حياة الفهد كل المخاوف التي أهرب منها: الضعف، والحاجة، والتبعية، والموت البطيء.
مبروكة كانت نجمتي التي نظرت إليها بعين العابد، فحتى في انكساراتها، في لحظات ضعفها حين هُزمت في خدمتها المنزلية لامرأة متسلطة، كانت حقيقية. ورغم كل مكرها وذكائها، لم يكن بالإمكان أن ينتشلها من سقوطها إلا حنان أختها، وهو ما يشبهني حين أنظر إلى أختي رغم صغرها، كخيط النور الوحيد الذي أتشبث به في الليالي المظلمة. أحب محظوظة، وأحب حنانها وأمومتها واحتضانها لأختها، لكني أخاف، وأخاف جدًا ألا أكون مبروكة.
حين دخلت سن المراهقة، كانت سعاد هناك تضحك بنزق على دعابات عبد الرضا، تصده بدلع في «مداعبات قبل الزواج»، وتضع خطة ليقبل به والدها في «أوبريت شهر العسل»، بينما كانت حياة تطأطئ رأسها خوفًا من إخوتها إثر حب وقعت فيه خلال صباها في مسلسل «ليلة عيد».
تميزت أدوار حياة الفهد التي قدمتها خارج إطار الكوميديا بكونها المرأة المغلوبة على أمرها، المعذبة، التي تتحمل صنوف العذاب من عائلتها والزمن، بعيدًا عن أدوار الشر التي تؤديها بين فترة وأخرى. لكن اسم حياة ارتبط بالحزن والمظلومية في السنوات الأخيرة، وكبرتُ مع حياة وأنا أخاف أن أكونها، أرى مثيلاتها من نساء عائلتي ممن يبذلن حياتهن للآخرين ولا يكسبن إلا النَّهر.
شكلت لي حياة الفهد كل المخاوف التي أهرب منها: الضعف، والحاجة، والتبعية، والموت البطيء. ربما تكون في الواقع شخصًا قويًا مختلفًا عما تبدو لنا عليه، لكني لا أرى في وجهها إلا مخاوفي.
الخطاب النسوي المتعدد بين سعاد وحياة
تقول الكاتبة السعودية هند السليمان في مقال لها بعنوان «ما بين سعاد عبد الله وحياة الفهد.. كيف نعرف النسوية؟»، إن حياة مثلت واقع القضايا النسوية للمرأة الخليجية المطحونة، بينما سعاد لم تقدم ذلك. وتشير إلى أن جمال سعاد مقارنة بحياة الأقل جمالًا (حسب المعايير المجتمعية) أسهم بشكل كبير في تحديد نبرة كل منهما في طرح القضايا.
حياة الأقل لفتًا للنظر من الناحية الجمالية نبرتها أكثر علوًا وسخطًا على المجتمع، بينما سعاد تأخذ أدوارًا أكثر أناقة، فيها من الصراعات ما فيها، لكن بنبرة أكثر هدوءًا وأقل صدامًا للمجتمع. وحسب قول الكاتبة، «من المتوقع ألا تحصل المرأة الأقل جمالًا على ذات الخدمة والتعامل، وبالتالي عليها أن تعلي من صوتها ليسمعها ويراها الآخرون، وإن لم يسمعوا صوتها المنخفض عليها إذًا أن تصرخ قليلًا، لتنتقل بعد ذلك للصراخ عاليًا».
ترى السليمان بأن «كلًا من حياة الفهد وسعاد عبد الله تقدم خطابًا نسويًا ولكن وفق تجربتها ورؤيتها، فلكل فرد تجربته وتاريخه الخاص الذي يصنع خطابه، وعلينا أن نحترم تجارب الآخرين وبالتالي أصواتهم». وتختم مقالها قائلة إن «النسوية في عمقها رفض لخطاب الصوت الواحد، فكيف يكون خطابها التحرري خطابًا بصوت واحد فقط؟ صوت محصور في مقابلته للخطاب الذكوري، وليس في خطاب ينطوي ويتسامح مع خطابات مختلفة ومتعددة؟ عمق الخطاب النسوي يكمن في أن صوت المرأة ليس عورة، وأن هذا الصوت مختلف ومتعدد، ومن هنا فإن من تقدم خطابًا تصالحيًا أو من تقدم خطابًا متمردًا على المجتمع، كلتاهما تقدم خطابًا نسويًا، وعلينا إن كنا نؤمن بالنسوية أن نقبل بتعدد الأصوات أيًا كان رفضنا الفكري الخاص لبعض تلك الأصوات».
ربما أختلف مع بعض تفصيلات المقال الذي كتبته هند السليمان، لا لشيء سوى للزوايا التي ننظر بها للأعمال الفنية لكلتا الفنانتين. أنا لا أرى في خطاب سعاد تسامحًا مع المجتمع، فحتى في أعمالها الأخيرة كمسلسل «أم البنات» كانت هي الأم الخاضعة في محاولة لتغيير نوعية أدوارها، إلا أنها لم تعلن توبتها الكلية، ففي منتصف حلقات المسلسل تجدها تخلع رداء الخضوع وتعود لتمردها وغضبها.
أعتقد أن جمال سعاد لم يحصرها في أدوار متصالحة مع المجتمع، إلا أن هند حللت اختيار الفنانتين لأدوارهما من زوايا شخصية بشكل مثير للانتباه، فالجمال والشكل قد يكونا مؤثرين اجتماعيين لطريقة كل منهما في طرح أفكارها. وأضيف على ذلك ما في الحياة الشخصية لكل منهما، فهناك احتمالية أن ما قاسته حياة في حياتها مع عائلتها بسبب دخولها المجال الفني كان كفيلًا بأن تظهر بهذا الشكل من الأسى والخوف أغلب الوقت.
الخطاب النسوي الذي تقدمه حياة الفهد هو خطاب تريد من خلاله أن تُظهر المعاناة وتعكس الانهيارات والانكسارات، بينما خطاب سعاد عبد الله يدعو لتجاوزها، لجبر الكسور والنهوض مجددًا، خطاب رافض للواقع. وأنا، تلك الطفلة التي تتعلم الحياة، والمراهقة الغاضبة، والمرأة التي تبحث عن الثبات، أشكر سعاد جدًا، وأشكر خطابها الذي أنقذني من أن أكون ما تمثله حياة، لأصنع مساحتي الخاصة، والحدود بيني وبين الآخرين، وأتخذ القرارات التي تخصني دون تدخل من أحد، مع تحمل كافة نتائجها، ورفض الخضوع، ومساعدة الأخريات على تحسين أوضاعهن.
سعاد، كعامل من عوامل خلق بذرة الرفض، شكرًا كبيرة.
شيخة البهاويد