«مَنّا»: مروية أنين لشتات التوارق للصدّيق حاج أحمد

حنان سليمان
نشر في 2023/05/14

التصميم: منشور

رواية جديدة في أدب الصحراء تنافس على جائزة البوكر العربية هذا العام حاملة لقارئها خصوصية ثقافية عن التوارق الذين جاء غلافها معبرًا عنهم، وهم قبائل أمازيغية تُسمي نفسها «إيموهاغ» أي «الرجال الشرفاء الأحرار»، يتوزعون في الصحراء بين مالي والنيجر وليبيا والجزائر وبوركينا فاسو، فيما يُطلق عليهم المستشرقون «الرجال الزُرق» لارتدائهم ملابس زرقاء.

اختار الكاتب الجزائري الصدّيق حاج أحمد في روايته «مَنّا.. قيامة شتات الصحراء» عن دار الدواية للنشر والتوزيع والطبع عام 2021، أن يلخص المأساة التارقية بالحديث عن العام الشين (السيئ) وهو عام النَّشف باعتباره الفاجعة الكبرى في تشتيت الأزواد بعد قهر الطبيعة، الذي لم يستطيعوا مقاومته على العكس من أي اشتباك مسلح. وقد أهدى نصه إلى شتات صحراء مالي في ذكرى وجيعة الجفاف التي تتم عامها الخمسين في 2023، وفي اللغة التارقية، تعنى كلمة «مَنّا» القحط والجدب. 

يعرف العرب عام 1973 بحرب أكتوبر، بينما يغيب عن الكثيرين أنه كان ذروة القحط في منطقة الساحل الإفريقي، وفيها مالي الواقعة على الحدود الجنوبية للجزائر ناحية الغرب. إثر طامة الجفاف، بدأ فصل الشتات الأكبر لقبائل الرُحّل وانتقل التوارق إلى الشمال العربي لتبدأ فصول أخرى من المعاناة.

لغة الرواية ليست سهلة، إذ الغالب عليها اللسان التارقي سواء المفردات والعبارات - وإن تُرجم بعضها للعربية - أو طريقة النطق المختلفة للحروف. يُراوح السارد في كتابة أسماء أعلام وأماكن وقبائل باللسان العربي والتارقي متعدد اللهجات وإن اعتمد لهجة أو اثنتين منها في النص. للقارئ العربي غير المختلط بالتوارق، تبدو اللغة طلاسم وألغازًا، بخاصة أن الكاتب لا يشرح بعض ما يسطره في نصه، وإن شرحه لا يسهل متابعة فكّه كلما ورد.

لتقريب الأمر، حرف العين مثلا يُنطق غينا والثاء سينا والحاء خاءً، فيُقال غُسمان بدلًا من عُثمان بشكل يُربك القارئ العربي في المُجمل عند المتابعة وهو حديث العهد باللغة المُتحدَّثة. هناك أيضًا أسماء غير مُستساغة مثل سوخا وهُكَتا وأخَمْنو، بخلاف أسماء تدليلهم، بما يتسبب في تباطؤ وتيرة القراءة في محاولة للإلمام بالكلمات الصحيحة واستيعاب المقصود.

كلمة «توارق» نفسها مختلف على كتابتها بالتاء أو الطاء، لكن الكاتب انحاز للحرف الأول. اعتمدت الرواية التاء في التسمية وهي الأولى فبحسب بعض المؤرخين الاسم مأخوذ من كلمة «تاركة» وهو واد في منطقة فزان بليبيا. أما من يعتمد الطاء فينسب الاسم إلى طارق بن زياد التي تذهب بعض المصادر التاريخية إلى كونه أمازيغيا. 

في الرواية وصف للتوارق منقول عن الرحالة الأمازيغي ابن بطوطة كالتالي: «هم قبيلة من البربر، لا تسير القوافل إلا في خفارتهم، والمرأة عندهم أعظم شأنًا من الرجل. هم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل... ونساؤهم أتم النساء جمالًا، وأبدعهن صورًا مع البياض الناصع والسمرة، طعامهم حليب البقر، وجريش الذرة».

وتنقل الرواية أيضًا عن عالم الاجتماع الشهير ابن خلدون قوله عنهم: «أطلق عليهم اسم صنهاجة الملثمين، كونهم يضعون على وجوههم لثامًا، تميزًا لهم عن غيرهم من الأمم».

يؤنسن الكاتب قضية الأزواد في سردية ذات عدة محطات بدءا بقيامة الجفاف التي أطلق عليها الكاتب اسم «عرصات يوم القيامة»، كأنهم يشهدون في هذا الوقت العصيب مواقف وأهوال يوم الحساب.

الشتات الأكبر

تبدأ الرواية بتمهيد نفهم منه أن ما سيلي ليس إلا «سانحة منام» أي خاطرة منام أو حلم، منقول من كتاب وهمي يحمل عنوان «التبر المنسي في أخبار صحراء تيلمسي».

نقرأ في الرواية ذات الـ 376 صفحة، وقائع تاريخية مؤنسنة في قالب روائي تُقدم بفرادة، بدءًا من ثورة كيدال المقموعة عام 1963 والجفاف في السبعينيات، إلى اللهاث وراء سراب الوطن الموعود بعد أن مُدَّ «حبل الطُعم والطَمع» و«الطمّاع لا يقتله إلا الكذّاب».

تقول إحدى أغنيات الحنين أو «آسوف» بالتارقية:

في 63 قد ذهب..

ولكنه سوف يعود..

تلك الأيام قد ذهبت..

وتركت آثارها..

قتلوا الأسطورة القديمة..

والطفل لتوه قد ولد..

انقضوا على المراعي..

وقضوا على الماشية..

في عام 63 قد ذهب..

ولكنه سوف يعود..

لم تبدأ معاناة التوارق في السبعينيات، بل قبل أن يضرب الجفاف بعقد، قُمعت ثورتهم ضد مالي بعد استقلالها عن فرنسا «حتى وكأن الرقم (3)، من عقدي الستينيات والسبعينيات، رقم شؤم!!». تاريخيا، شكّل دخول المستعمر الفرنسي إلى مالي وسطوه على الحكم في عام 1893 بداية معاناة التوارق بتشتيت شمل سكان إقليم أزواد شمالي البلاد من توارق وعرب. وحتى عندما تمردت حركة تحرير الصحراء المدعومة من الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عسكريًّا على مالي في 1990، دعمت فرنسا حكومة باماكو ولعبت دورًا تحريضيًّا في تأليب النيجر على الأزواد حتى لا يتكرر السيناريو معهم.

عبر خمسة فصول، يؤنسن الكاتب الصحراوي قضية الأزواد في سردية ذات عدة محطات بدءا بقيامة الجفاف في صحراء تيلمسي في مالي، والتي أطلق عليها الكاتب اسم «عرصات يوم القيامة»، كأنهم يشهدون في هذا الوقت العصيب مواقف وأهوال يوم الحساب. نقرأ أنه في عام الجدب «ما من شيء إلا جرّبوه، وآية ذلك أن التمسوا من العالم المحيط بهم، ما يُمكن تلهية سُعار الجوع وتعمية عضّاته الموجعة». يصور الفصل طبيعة حياة القبائل من طعام ودواب انتقال ومواشٍ يبكون على هلاكها كما يبكون موتاهم.

نتتبع في الصفحات الصحراوي التيلمساوي «بادي»، ومعناه المقيم في البادية، وهو ينعى لأهل الخيمة في الصحراء نبأ الرحيل القسري فرارًا من سعير الجفاف الذي ضرب مالي، فلولاه ما رحل إنسان الصحراء عن بيئته مهما اشتد قمع حكومتها لهم. يصل الناجون من الموت تحت غبار القوافل إلى جنوب الجزائر حاملين أكفانهم البيضاء تحسبًا لمداهمة الموت في الطريق.

ينتقل الفصل التالي فجأة إلى جنوب لبنان حيث نشهد «رقصة تيلمسي على إيقاع دبكة الشرق». في بلاد الأَرز، قاتل بادي في صفوف فصيل فلسطيني يساري يقاوم العدوان على لبنان أوائل الثمانينيات حتى أُسر في معتقل «أنصار» الإسرائيلي، ثم خرج في صفقة تبادل أسرى عاد بموجبها إلى ليبيا في 1983 حيث «غواية التويوتا والكلاشينكوف» بما تحويه التويوتا «قاهرة الصحراء» من دلالة في قاموس التيلمساوي.

يأتي بعد ذلك فصل الجزائر ومخيم الإغاثة برج باجي مختار حيث «المحرقة التي سرطت كتان الكفن» قبل التيقن من «سمكة أبريل القذافي» ووعوده الكاذبة واستمرار الشتات بعد ضياع «مجد الصحراء» وتغير الأوضاع مع «دخول لفرانسيس شمال دولة لا تعترف بحقي ولا أعترف بوجودها على أرضنا يُقال لها مالي». منذ عام 1980، منذ خطاب القذافي الشهير في السادس عشر من أكتوبر بمدينة أوباري جنوب ليبيا قائلًا «تعالوا.. تعالوا.. أنا منكم.. إنكم عائدون.. أُمنيكم بدولة أزوادية يومًا ما» كما جاء في الرواية.

منذ ذلك الحين ولا يُسمع بأحياء شتات أهل الصحراء بجنوب الجزائر إلا اسم ليبيا، التي حملت الأخبار السعيدة وجاءت بلبوس التجنيد في الجيش الليبي وفي طيه وعد إقامة الوطن الوردي بالأزواد.

ترصد الرواية كيف استغل القذافي أُحجية الوطن الأزوادي لتوريط التوارق في حروب بالوكالة في لبنان ثم تشاد كمرتزقة على أمل الوطن المنشود. لم يكتفِ بذلك بل ترك آثارًا ملموسة على القضية بإضفاء «بدعة قذافية» تمثلت في تعريب الحركة الشعبية لتحرير الصحراء حتى سميت بالصحراء العربية بعد أن كانت راية الوطن الأزوادي تجمع العرب والتوارق دون تخصيص عرقي، بل وإضافة أيضًا كلمة الوسطى على الصحراء بما يثير ذلك من حفيظة دول الجوار. 

وفق مبدأ «العربية لسان لا عرق»، لا تشترط جائزة البوكر العربية أن يكون الكاتب عربيًا أو حتى من قومية أخرى لها تواجد في بلاد العرب، وهو ما يُحسب لها.

الجزائر الأم

في النص امتنان وافر للجزائر التي يصفها السارد بـ«أُمنا» و«مولاتنا» و«والدتنا الحنون» لما فعلته مع المُهجّرين من «سخاء وعطاء» واعتبارهم مواطنين لهم حقوق وواجبات من تجنيد وتوظيف وخلافه. هذا الامتنان يقابله سخط على «مهلوسات القذافي المركزة» التي شطحت بمن دوّخه سراب الوطن الانفصالي وأمل العودة. 

نقرأ عن الجزائر: «أدخلت أبناءنا المدارس، علّمتهم، سكتت عن فطريات نبات شتاتنا، هي تعلم يقينًا، أننا ماليو المولد والنشأة؛ لكن في أصولنا خيط وصال وعروة من جنوبها، على الأقل معظمنا وُلد بالبوادي والوديان القريبة من صحراء تنزروفت وتين زاوتين وبرج باجي مختار التابعة لها؛ بل منَّا من ولد أبوه أو جده بوديان تيمياوين، وتين زاوتين، ولربما أثناء ترسيم لفرانسيس للحدود بين الجزائر ومالي، ذهب يرعى هناك، وتنقل بخيمته جنوبًا، نحو بوغصة أو بوادي تساليت وتشالغة وتلهندك وغيرها، فعُد في قسمة بمبارة ماليًا».

ربما يكون الكاتب نفسه أحد هؤلاء الذين يتحدث عنهم وتختلط دماؤهم بين مالي والجزائر. هو يُعرِّف نفسه بالجزائري دون ذكر للأزواد بشكل صريح لكنه على الأغلب منهم، عربيًا كان أم تارقيًا، فهو من مواليد محافظة أدرار الجزائرية الصحراوية المشتركة في الحدود مع إقليم أزواد الذي ضمته فرنسا إلى دولة مالي عند استقلالها. كانت نشأته صحراوية في الولاية الجزائرية التي ما زال يقطن بها ويعمل. الصدّيق حاج أحمد هو أيضا مؤسس دار النشر «دواية» التي تولي اهتمامها بالنص الصحراوي وخصوصيته والاستثمار في المواهب الأدبية جنوب الجزائر، وعنها صدرت هذه الرواية المرشحة لجائزة البوكر. يدير الصديق حاليًا مَخْبَر سرديات الصحراء بجامعة أدرار، كما أنه أستاذ التعليم العالي لمقياس اللسانيات العامة ولسانيات الخطاب بكلية الآداب فيها.

وفق مبدأ «العربية لسان لا عرق»، لا تشترط جائزة البوكر العربية أن يكون الكاتب عربيًا أو حتى من قومية أخرى لها تواجد في بلاد العرب، وهو ما يُحسب لها. هكذا تسع الجائزة قوميات عرقية تعيش بين العرب من أكراد أو أمازيغ أو نوبيين وغيرهم، كما ترحب بكل وافد على اللغة وإن لم ينشأ بين العرب من الأساس. قد يعني هذا جزئيًّا غياب متعة القراءة كما هو الحال في هذه الرواية، التي غلب عليها السرد التاريخي في أجزاء كثيرة، إضافة إلى أن طريقة بناء الجُمل العربية لا تجعلها سلسة في القراءة، وهو ما يرجع إلى اختلاف عربية الصحراويين عن عربية الحضر، لكن في المقابل نحظى بمنتج أدبي لا يُضاهى ثراؤه، يعكس التنوع في بلاد العرب ويعبر عنه.

على مدار سنوات الجائزة الستة عشر، يُعتبر الروائي الإريتري حجي جابر الكاتب الوحيد الذي ترشح للجائزة من خارج الدول العربية، لكن يظل الإنتاج الأدبي المكتوب بالعربية هو المعيار.

هذه المراجعة جزء من ملف جائزة البوكر العربية: «منشور» يراجع الكتب المرشحة في القائمة القصيرة.

حنان سليمان