قصة مصورة: قصر العدل، هدم ارتباطنا المعنوي مع الأبنية
قد يعتقد القارئ أننا ننقل هذه القصة المصورة لتسليط الضوء على جمال مبنى قصر العدل، ولكننا نهدف إلى العكس تمامًا. في زيارة إلى قصر العدل، اتضح لنا أنه حتى لو اجتمع كل معماريي الأرض لبناء مبنى جميل، سيكون الأسوأ ما دمنا نستخدم نفس النهج في إهمال الصيانة.
افتُتح قصر العدل في عام 1986، وهو من تصميم المعماري الإسكتلندي البارز باسيل سبينس، لكن تصميمه يتعرض حاليًا للهدم عوضًا عن الترميم. في هذه الصورة يبرز خلف قصر العدل مبنى آخر بارتفاع شاهق، هو قصر العدل الجديد، أضخم صرح قضائي في الشرق الأوسط بحسب ما نشر عنه، يتكون من 26 طابقًا مع إطلالات مباشرة على الخليج العربي، ويضم أكثر من 141 قاعة محكمة، لكنه لم يشهد المراحل الأهم من تاريخ الكويت.
داخل قصر العدل، هذا هو سقف المدخل، زُين بعناية وفن بالنقوش والزخارف الإسلامية، لتعطي انطباعًا للزائر بأنه داخل «قصر»...
… لكن ما أن يحول الزائر رأسه بعيدًا عن السقف، حتى يرى مكانًا يشبه أي شيء آخر عدا القصر.
على مد النظر مثلًا بعد المدخل تشاهد ماكينة ATM غير مقتنعة بمكانها وهي تعطي ظهرها للفسيفساء، غير أجهزة الأمن المبعثرة في منتصف المبنى، والمكاتب العشوائية والرثة تحت السقف الفخم مباشرة. تتصادم انطباعاتك عن المكان مثل شعورك عندما تدخل مبنى حكومي لتنهي معاملة، تترقب لحظة خروجك لتطهر نظرك بمنظر متناسق.
قصر العدل من أواخر أعمال باسيل سبينس، وهو محظوظ لأنه توفي قبل أن يرى إهمال رخام الدرج هذا، والذي لا يحتاج إلا القليل من الشطف حتى يعود جديدًا، ناهيك عن عشوائية ألوان الإضاءة ما بين الأبيض والأصفر.
في المبنى تسعة أدوار بنفس التصميم تقريبًا، ويفصل الممر ما بين الواجهة الخارجية للمبنى والغرف والقاعات. تطل القاعات على الممر، وتتناغم شبابيكها مع الشبابيك الخارجية للمبنى، مما يسمح بدخول الضوء الطبيعي من الخارج إلى الممر إلى القاعات. وعلى جدران الممر يبرز السيراميك ممتنًا لعدم حاجته للشطف والتنظيف مثل الرخام...
... لكنه لم يسلم من هذه الملصقات.
السيراميك كان منتشرًا في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ونجد الكثير من المباني الخاصة والعامة مكسوةٌ حوائطها بالسيراميك، مثل مبنى سوق المناخ وسوق الوطنية.
تحمل الممرات لوحات للتعليمات، ومن ضمنها لوحة توصي بإغلاق التليفون النقال والبيجر، رغم أن اليوم هناك جيل كامل لا يعرف ما هو البيجر، ويبدو أن تاريخية المبنى امتدت حتى في تفاصيله، طبعًا هذا الامتداد نتيجة الإهمال، ولكنها تفصيلة صغيرة تحاول حرث ذاكرتنا ومشاعرنا للتفاعل مع المكان.
أبواب القاعات مزينة بنقوش مشابهة للنقوش التي على واجهة المبنى .
تكسو الشبابيك الخارجية للمبنى مشربية مزخرفة، تعمل على تشتيت أشعة الشمس الداخلة إلى المبنى لمراعاة مناخ الكويت الحار...
... لكن أشعة الشمس المتجهة إلى قصر العدل يصدها ويشتتها اليوم المبنى الجديد.
بعدما أخذنا جولة داخل القصر وخارجه، لم نجد أفضل من هذا المنظر ليعبر بدقة عن ثقافة الهدم التي يعيشها المواطن والمسؤول. تلاحظون تكرار هذا ليس فقط في المباني الحكومية، وإنما حتى في المباني الخاصة، فبدلًا من ترميم المبنى وصيانته بشكل دوري، آثر المسؤولون إهدار المال العام على مبنى جديد عوضًا عن الاتجاه إلى صيانة غير مكلفة وسهلة وتعطي المكان روحًا وأصالة.
قصر العدل مثال للنهضة العمرانية التي شهدتها الكويت ما بعد اكتشاف النفط، وهو دليل مادي على ريادة الكويت في المنطقة آنذاك. جمالية تصميم المبنى العمرانية محل إجماع ما بين المعماريين المحليين والأجانب، فمثلًا في عام 2016 صدر كتاب Modern Architecture Kuwait من تأليف مجموعة من الباحثين الأجانب، والذي يحتفي بعمارة الحداثة في الكويت ومن ضمنها مبنى قصر العدل. استمرار نهج الهدم كل فترة والاستبدال بمبانٍ حديثة يؤدي إلى خلو البلد من المعالم التي تدل على امتداده التاريخي وتطوره. ستظل الكويت دائمًا وكأنها دولة حديثة النشأة، والخوف من أن نهدم كل ارتباطاتنا المعنوية بالأبنية حتى يطغى الجمود على المنظر العام.
هاجر المطيري عبد الرؤوف مراد