حول الفن والهوية في عُمان
«هل لا يزال الفن طريقة أساسية وضرورية تحدث بها تلك الحقيقة التي تعتبر حاسمة لوجودنا التاريخي، أم أن هذا الشيء لم يعد موجودًا؟» - مارتن هايدغر.
يعود خطاب الهوية بين الفينة والأخرى إلى السطح والتداول وتصدر المشهد، بطرق مختلفة ومتعددة. من أهم هذه الطرق علاقة الفن بالهوية موضوع هذا المقال، والذي يثير الكثير من الجدل بشكل مستمر في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتبر مؤشرًا جيدًا في الكثير من الأحيان لمعرفة ما يعتمل في المجتمع، وما يسعى الكثير من الأفراد للحصول عليه من تأييد ودعم شعبي لأفكارهم وتوجهاتهم المختلفة، الأمر الذي يعني تأسيس طرق جديدة للتفكير والنظر للأمور، من شأنها أن تدعم توجهات فكرية معينة في مقابل خفوت وتلاشي وجهات نظر أخرى. يتجلى هذا النمط الفكري في التصورات الجديدة لأفراد المجتمع تجاه بعض السلوكيات الفنية البشرية المتوارثة، والتي أصبحت تلقى رفضًا كبيرًا من جماعات وفئات تتزايد بشكل مستمر، وذلك تحت عناوين ومسميات متفاوتة.
يناقش هذا المقال في المقام الأول أهمية الفن باعتباره طريقة وجودية من طرق تعبير الإنسان عن نفسه، كما يتطرق ثانيًا إلى التصورات المختلفة والمتداولة عن الهوية، وأنها ذات مسار واحد لا تقبل الغيرية، بل وترفضها تحت عناوين كثيرة. في حين يتناول الجزء الثالث المفهوم الواسع والواقعي للهوية، والذي يتبلور بين فترة وأخرى بعيدًا عن الأيديولوجيات والتحزبات المختلفة.
الفن (الاستطيقا) والوجود البشري
لا شك أن الفن يستوعب الكثير من المفاهيم المتداخلة والمختلطة في كثير من الحالات، فهو يسمى أحيانًا «فلسفة الفن»، وأحيانًا «الجماليات»، وأحيانًا أخرى «فلسفة الجمال» أو «نظرية الجمال»، وتارة «الاستتيقا» أو «الاستطيقا» أو «فلسفة الذوق»، وغيرها من المصطلحات والترجمات المختلفة.
تشير كل هذه التسميات، أو بالأصح الترجمات، إلى تنوع وتعدد زوايا النظر لهذا الموضوع من أبعاد مختلفة وتساؤلات متجددة. ومن أهم هذه التساؤلات تلك الأسئلة الفلسفية التي طرحها الفيلسوف مارتن هايدغر حول «أصل العمل الفني» عام 1950، والتي تتلخص في الفرق بين الأشياء الموجودة في الواقع والعمل الفني، فـ«الحجر في الطريق شيء، وكتلة التراب في الحقل شيء». غير أن الإنسان في مقابل ذلك ليس شيئًا، كما أن الشيء يتحدد بحسب ماهيته، وجوهره، وبحسب ظهوره وتجسده. في حين أن العمل الفني له طبيعة مغايرة عن ذلك، فهو صنعة بشرية، وإنتاج يعبر به الفنان عن حقيقة معينة، وعن فكرة محددة.
وبعيدًا عن الأصول والتطورات التاريخية لمصطلح الجماليات أو الأستطيقا (Aesthetics)، والتي ابتدأ الحديث عنها منذ عصر الإغريق عن الجميل، والجمال، والفن، والفنون، نجد أن هذا المفهوم لم يظهر كما هو متداول حاليًا إلا مع الفيلسوف الألماني باومجارتن (1714-1726)()، وما تبع ذلك من تحديدات لاحقة على يد الفلاسفة الإنجليز أيضًا. لكن كل هذه المباحث صارت تقليدية أو كلاسيكية حين ظهر الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804)، وتحديدًا كتابه «نقد ملكة الحُكم» عام 1790، والذي أثار الكثير من النقاش اللاحق بين هذا المصطلح وعلاقته بالمحسوسات والذوق من جهة أولى، وتفرعه عن مباحث أخرى مثل المنطق والميتافيزيقا والإتيقيا من جهة ثانية، وإخضاع الجميل للحكم العقلي واقتصاره على علاقة أو رؤية الذات بالجمال من زاويتها الخاصة من جهة ثالثة.
بالإضافة لذلك، سيطرت تساؤلات معينة على دفة وجهة الاستطيقا في تاريخه الطويل، وهي محل بحث ونقاش وأخذ ورد، مثل: ما الجميل؟ وما القبيح؟ وما النافع؟ وما الحكم الجمالي؟ وكيف يصدر كل ذلك؟ فإذا كانت إجابات هذه الأسئلة مختلفة ومتنوعة كتعددها، أدركنا جيدًا أن مبحث الاستطيقا يكتسب أهمية فلسفية وتاريخية وذوقية عالية، ليس في السياق الغربي الحديث فقط، بل في كل السياقات التاريخية والحضارية المختلفة، ومنها بطبيعة الحال الحضارة العربية الكلاسيكية، التي ناقش فلاسفتها الجميل بحسب أدواتهم المتوفرة آنذاك. فالجمال أو الحُسن حاضر في النفس البشرية منذ أزل الأزل، والتساؤلات عنه والرغبة العميقة في معرفة كنهه رافقت التفكير الديني أيضًا، على حد سواء مع التفكير الفلسفي والشعري والمعماري أيضًا.
فإذا كانت الأشياء الموجودة في الطبيعة، كالصخور والأحجار والأشجار وغيرها، تكتسب معناها من قصديتها وغرضها المحدد عند الاستخدام، فإن العمل الفني غير غرضي، والتذوق الجمالي غير نفعي. العمل الفني بهذا المعنى يعبر عن «مفهوم خاص أو محدد للوجود»، يخرجه الفرد بطريقة مختلفة عن الكلام، أو المنطق، أو العلم، أو غيرها من التعبيرات الوجودية المختلفة، التي تعتبر بحسب هايدغر مواضيع أو نتائج للبينة الميتافيزيقية الذاتية الحديثة، أي أشياء ومواضيع جاهزة مسبقًا، يجري التعبير بها وعنها.
مهما يكن الأمر، فإن العمل الفني أو هذا المبحث الجمالي خضع للكثير من النقاشات والتفرعات المعرفية التي تبدأ ولا تنتهي بسهولة، غير أن هدف الجزء الأول من هذا المقال توضيح أن الفن بكل ما يحتويه من معانٍ مختلفة ومتداخلة ومتنوعة، هو شأن ذوقي، وجمالي، ووجودي، وفلسفي، وعقلي أيضًا، يسمو ويرتفع فوق كل التحزبات الأيديولوجية التي ترى تعارضه معها. ذلك أن الجميل لا يقتصر فقط على اللوحة الفنية، أو الرقصة الجسدية المدهشة، أو المنظر الطبيعي الخلاب، أو المقطع الموسيقي الجذاب، أو تلك الفتاة المتأنقة، أو غير ذلك من صنوف الجمال المختلفة. فكلها تقع فوق هذه الأيديولوجيات المتقاطعة والمتعارضة.
بهذا المعنى، يعتبر الفن الجميل حاجة وجودية ماسة، لصيقة بالإنسان منذ بداياته ما قبل التاريخية، وما قبل التنظير العقلي، والمحاولات الفلسفية المختلفة لفهم ومعرفة كل ذلك للوصول لمصدر أو أصل هذه الأعمال أو اللوحات الفنية والطبيعة المختلفة. وهو ما يجعل الحديث عن الفن والهوية بشكل عام مبحثًا يطل برأسه في علاقات الفن كما تناولناه أعلاه بشكل مختصر، بهوية الفرد وثقافته، والتوافقات والتعارضات التي تظهر بين الفينة والأخرى للسطح، وذلك في الفقرة الثانية، عن طريق أخذ الهوية العُمانية كحالة بحثية.
الهوية وغيرية الفن
تبدو مسألة الهوية في انتعاش وصعود مستمرين، وبشكل خاص مع تسارع التواصل الإلكتروني، الذي بضغطة زر واحدة، وصورة أو مقطع فيديو مرفق مع الخبر، من الممكن حصد ملايين التعليقات والآراء المتناقضة. فالهوية تفترض تطابق تصورات معينة مع نصوص وممارسات سابقة لها، تتحول لسلوكيات لا يمكنها أن تخرج عنها، بل من الضروري أن تمشي في مسارها وتتخذ من نصوصها وقنواتها مسلكًا لها. فهي بهذا المعنى لا تستوعب الغيرية، ولا تقبل بالهامشي أو بما هو خارج المركز، مركز تصوراتها ومعتقداتها. وهذا ينطبق على الهوية بالمعاني المختلفة: الديني (وهو المسيطر بشكل كبير)، والعرقي، والتاريخي، وغيرها من صور الهوية المختلفة.
في حين أن الفن خارج عن القوالب والتصورات والأنماط التقليدية، فهو لا يخاطب التحزبات الأيديولوجية، ولا يسعى لاستثارتها أو التلاعب بها، بل يخاطب الجوانب الانفعالية وغير المحسوسة في الفرد، أو تلك القيم اللصيقة بالفرد المتعين، خارج الجماعة، كقيمة الخُلق، والحرية، والقدرة على تأويل الأشياء والمواضيع خارج النمط المعهود والمتعارف عليه.
عن طريق العمل الفني، كما يقول الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير، «نختبر حقيقة لا يمكننا تحقيقها أو التعبير عنها بأي طريقة أخرى». فهذا النمط التعبيري للفن يتميز، بخلاف الأنماط التعبيرية البشرية كالدين والعلم والمنهج وغيرها من الأنماط، بأنه لا يمكن استنفاد فهمه أو الوصول لحقيقته إلا عن طريق التجربة، الأمر الذي يعني أن الفهم ليس عملية ذاتية، بل عملية تشاركية أو حدث مشاركة، أو بلغة غادامير: عملية انتقال يجري فيها التوسط بين الماضي والحاضر باستمرار.
يقودنا هذا إلى الحديث عن الفهم، وأنه لا يصبح أبدًا معرفة مطلقة، وذلك بالنظر للطبيعة التأويلية للوجود، ولكنه يحدث من خلال نموذج الحوار أو المحادثة. ذلك أن الأنماط السابقة للحديث والفهم قائمة على التقليل من التأويل واتباع المنهجيات الصراطية المنهجية، التي تضع الخطوات في وضع متسلسل يؤدي لنتائج محددة ومعروفة سلفًا، وهو ما يتطابق مع الجانب الهوياتي بشكل كبير. فالأعمال الفنية «ليست كيانات مغلقة ومختومة وثابتة، بل أحداث ديناميكية نشارك فيها من خلال التجارب التأويلية، وذلك من خلال التوسط في المعاني، وعن طريقها يظهر الفهم». وهذا لا ينطبق على نمط فني واحد، بل يشمل اللوحات الفنية والرقص والطرب، وغيرها من الأنماط الفنية الحديثة التي أسهمت وتسهم الآلة الحديثة في صنعها. فهي كلها لا تعبر عن حقيقة واحدة، بألف ولام التعريف، بل عن حقائق مختلفة ومتعددة، تختلف حسب فهم كل فرد وتجاربه المختلفة والمتنوعة، وهو ما لا تقبل به، بشكل عام، الأديان ونسقية العلم المنهجية.
من هنا يأتي الفن كما يرى الفيلسوف سانتياغو زبالا منقذًا لنا من التأويلات الجامدة والحقائق المفروضة علينا من القوى الميتافيزيقية والسلطوية المختلفة. وبالرغم من ذلك، فإن للفن أو الجماليات المختلفة كما يرى بعض الفلاسفة «وظيفة مهمة في تحرير العقل العملي من هيمنة العقلانية الأداتية (نفسه)»، وهو ما يلتقي مع بعض الدعوات التي ترى أن الفن والجماليات في كثير من الأحيان أكثر أهمية من الحقيقة نفسها، أو من الفكرة التي يعبر عنها الفن بحد ذاته. غير أن السؤال هنا: ألا تستوعب الهوية مهما كانت أحادية وتميل للتطابق الجوانب الفنية الأنطولوجية التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها؟ أم أن هناك هويات متعددة هي الأخرى منفتحة ومنغلقة؟
الهويات المنفتحة والانشقاق المجتمعي
يقودنا السؤال الأخير إلى الحديث عن الهويات المنفتحة والأخرى المنغلقة، والتي تنتمي لفضاءات ثقافية ذات مصدر واحد، أو منابع متقاربة، كما هو الحال في الهويات الإسلامية المتعددة التي ترى أن الفن يتعارض مع الدين، في حين أن هويات إسلامية أخرى لا ترى ضيرًا في الجانب الفني، بل وتراه عاملًا من عوامل إمكانية تأقلم النظام الديني مع التحولات المختلفة للمجتمع.
نجد أن هناك تيارات مختلفة داخل المجتمع الواحد، يتبنى بعضها الجانب المنفتح، في حين تتبنى الأخرى الجانب المنغلق، الأمر الذي يجعل الصراع الهوياتي عاملًا من عوامل التراجع في بعض الأحيان، في حين أنه من الممكن أن يصبح عاملًا من عوامل استيعاب المتغيرات في أحيان كثيرة. وهذا يعني أن الهويات أو التصورات الذاتية عن المجتمعات ليس نهائية ومنجَزة وغير قابلة للتغير بحسب السياق والمؤثرات الخارجية، بل في كثير من الأحيان تسعى بعض الأصوات لزيادة مساحة الجانب الفردي والجمالي في المجتمعات والخروج عن السياقات والنصوص السابقة من جهة، وتعزيز البعد الشخصي الاختياري أمام الجانب الجمعوي من الجهة الأخرى.
هذا الفعل ليس مجانيًا، بل يواجه صعوبات مختلفة، أهمها اللجوء الدائم والمستمر للنصوص التي تدعم هذه التوجهات، بما تمثله من دروع معنوية للكثير من أفراد المجتمع، وتجاهل البعد الاجتماعي والوظيفي الذي من الممكن أن تقدمه التوجهات المغايرة.
هذه التوجهات المغايرة للهوية الجمعية لم تنشأ بالضد من الهوية الدينية، بل جاءت لما توفره من أبعاد اجتماعية ووظيفية مختلفة. ذلك أنها توفر من الناحية الوظيفية والاقتصادية تحديدًا، عاملًا من عوامل الرأسمالية الاجتماعية التي تختلف جذريًا عن الرأسمالية المالية والاقتصادية، من حيث أنها تعبر عن ذلك الهامش البشري الذي يرغب في الانشقاق عن المجموع بما يعنيه من تطابق وتماهي مع الفئات المجتمعية المختلفة، المنصاعة للتعليمات والأوامر.
خاتمة
لا يشكل الحضور الجمالي والفني خطرًا على الهوية، وبشكل خاص في عُمان، إذا أخذنا في الحسبان الهجرات الجماعية التاريخية من جهة، والتنوع الطبيعي الداخلي الذي تحظى به المجتمعات من جهة أخرى. بل إن الخطر يأتي في سياق التفاعل الاجتماعي بين الأصوات الرافضة والأصوات المحفزة للفعل الفني، من سطوة وهيمنة صوت ما على الأصوات الأخرى، بفعل امتلاك هذا الصوت للكثير من السلطات المختلفة، التي تجعله أحادي التوجه من جهة، ومهيمنًا على التصورات الأخرى من الجهة الأخرى. الأمر الذي يعني توفير الأدوات المتساوية لمختلف الأصوات للتعبير عن نفسها بما يتلائم مع تفاعلها الداخلي الخاص، وآلياتها التي تنشأ من تفاعلها من السياق المحيط.
علي الرواحي