حكاية نصوص مدفونة في غابة نرويجية لم يولد من سيقرأها بعد
يخرج مترو مدينة أوسلو من النفق، وفي غضون دقائق معدودة يدخل بالركاب إلى غابة كثيفة يقطعها مجرى مائي متلألئ، وعند هذه النقطة المتميزة يسرح الخيال إلى مطارح أخرى، وأزمان سحيقة سبقت مجيء البشر، وأوقات بعيدة قد تأتي بعدهم، فيتساءل العقل: كيف ستذكر الأجيال القادمة التي لم تأتِ بعد هذه الأيام؟ وأي القصص ستحيا؟ ومن سيقرأها؟
تلك هي الأسئلة التي أتت بالكاتب الصحفي «تيد هودغكنسون» إلى النرويج، ليشهد مشروع مكتبة المستقبل الذي انطلق في عام 2014، كي يدعو كاتبًا واحدًا كل عام، ولمدة قرن كامل، إلى كتابة نص أدبي لن يكشف منه سوى عنوانه، وسيُدفن في غابة في النرويج إلى أن يحين موعد نشره عام 2114.
يستعرض مقال منشور على موقع «نيو ستاتسمان» لمحات من تلك الرحلة المثيرة التي خاضها الكاتب إلى غابات النرويج للمشاركة في احتفالية لا مثيل لها.
مشروع فريد
الفنانة الإسكتلندية «كاتي باترسون» هي صاحبة فكرة مكتبة المستقبل، وترغب عن طريقها أن يضع البشر ثقتهم في أكثر عمل يتميزون به في رأيها: خلق الطقوس والعادات والقصص التي تتخطى الحاضر إلى المستقبل.
كانت الكاتبة «مارغريت أتوود» أول المشتركين في مشروع مكتبة المستقبل، وكتبت نصًّا بعنوان «Moon Scribbler».
يلقي المشروع الضوء على قدرة البشر على التطلع إلى ما هو أبعد من المصلحة الشخصية القريبة، بالتخلي عن فضول قراءة النصوص التي يبدعها الكُتَّاب المشاركون، وبالتخلي عن رغبة هؤلاء الكتاب في نشر أعمالهم وتلقي آراء الجمهور بشأنها.
يتطلب هذا المشروع الفريد من الكتاب المشهورين المشاركين أن يسافروا عبر الزمن إلى مستقبل ربما يكون أقل ترحيبًا بهم، ويضعهم أمام التساؤل عن أي إبداعاتهم سيتمكن من قهر الزمن والاحتفاظ بالنجاح والصدى الواسع رغم مرور الوقت.
اقرأ أيضًا: نُبوءَة «نهاية الكتاب المطبوع» تفضح خوفنا من التغيير
أول المسافرين بأفكارهم عبر الزمن
جمع مشروع مكتبة المستقبل أناسًا من بقاع الأرض المختلفة من اليابان إلى أمريكا.
كانت الكاتبة والشاعرة الكندية «مارغريت أتوود» أول المسافرين عبر الزمن، فكتبت نصًّا بعنوان «Moon Scribbler»، وتلاها الكاتب البريطاني «ديفيد ميتشل»، صاحب رواية «Cloud Atlas»، أما هذا العام فيشهد أول إسهام من دول الشمال الأوروبي، عن طريق الشاعر الأيسلندي والروائي والشاعر الغنائي «شون»، الذي سيسلم مخطوطته ثم يكشف عن عنوانها في حفل سيقام في الغابة.
يحكي كاتب المقال أن شون قال له ليلة رحلتهما إلى الغابة إنه شرع في الكتابة معتبرًا ذلك التحدي «لعبة سريالية امتزجت بحكاية شعبية أيسلندية»، ويرى شون أن القفز إلى المستقبل يصحبه خوف من أن لغته، رغم تاريخها الأدبي الزاخر، قد تكون عائقًا أمام ترجمة عمله وفهمه بعد مرور قرن بأكمله.
مشاركون من بقاع شتى
يقول كاتب المقال إنه لدى اقتراب المترو من موقع الحفل، ظهر حُجاج المستقبل المشاركون في المشروع، وكانوا يرتدون سترات مميزة تشبه تلك التي يرتديها أمناء المكتبات، وبدوا كما لو كانوا يتحدون الزمن. ورغم التشابه في ملبسهم، كان واضحًا أن المشروع جمع أناسًا من بقاع الأرض المختلفة، من اليابان إلى أمريكا.
سار كاتب المقال يقوده شون، الذي ارتدي بدلة تزينها زخارف متعرجة أنيقة، ونزلا من المترو، ثم ما لبث شون أن علَّق قائلًا: «هذا هو الزي الذي يرتديه الأيسلنديون عند ذهابهم إلى الغابة».
بعد نصف ساعة من المشي، وصل الكاتب وشون إلى منطقة من الغابة مقطوعة الأشجار، وهناك وجدا مجموعة من الحراس يلبسون قمصانًا برتقالية وأمامهم أوعية قهوة كبيرة الحجم على نيران مكشوفة. هذه هي المنطقة التي أزيلت أشجارها من أجل زراعة بذور ألف شجرة أخرى، ستوفر الورق الذي ستُطبع عليه النصوص التي أبدعها الكُتَّاب.
قال أحد الحراس لشون إنه لا يشعر أن مئة عام فترة طويلة، إذ أن حراس الغابة معتادون على فكرة أنهم لن يعمِّروا ليروا الأشجار تكبر أمامهم.
قد يهمك أيضًا: توجهاتنا السياسية تحدد العلوم التي نفضل قراءتها
ستعرف رأي الجمهور، لكن بعد مئة عام
إن انتظار رأي جمهور القراء طويلًا أمر غريب على الكاتب، الذي اعتاد أن يرى رد فعل قرائه على ما يقدم من أعمال فورًا. ورغم أن شون يكتب في الأساس إشباعًا لذاته، فإنه اعترف لكاتب المقال، وعلى وجهه ابتسامة باهتة، أنه سيفتقد عدم مشاركة ما كتب مع بعض قرائه.
كانت أجواء الاحتفال حلوة ومُرة في آن واحد، وكأنها تعلن الانتقال إلى أرض مجهولة لن تراها سوى النصوص التي كتبها المشاركون وأشجار الغابة، وجيء بقيثار (هارب) إلى داخل الغابة لتُعزف عليه تهويدة أيسلندية، بينما تلا شون عنوان مخطوطته بالأيسلندية ثم الإنجليزية.
على غرابته، يذكرنا مشروع مكتبة المستقبل في النرويج بأن نفكر في الأجيال القادمة، ونفكر في ما سنتركه لها من إرث، يسعدها أو يشقيها.
دينا ظافر