فلاش باك: فيلم «Network» الذي تنبَّأ بتحولات الإعلام والسياسة قبل 40 عامًا
أفضل طريقة للعودة بالزمن إلى عصر سابق هي مشاهدة فيلم سينمائي قديم، لكن ماذا عن الانتقال إلى المستقبل؟
لا نتحدث عن أفلام الخيال العلمي، بل عن الأفلام التي تحمل أفكارًا تتحقق بالفعل بعد سنوات من عرضها. هذه الأفلام نادرة وتزداد قيمتها كلما بعدت المسافة بين السنة التي أُنتج فيها الفيلم والحدث الحقيقي الذي عرضه. وبعد مرور أكثر من 40 عامًا على إنتاج فيلم «Network»، يرى مقال نشره موقع BBC أنه تنبأ بالمستقبل.
استعدوا لمشاهدة فيلم صادم
في عام 1976 كان العرض الأول لفيلم «Network»، الذي حمل البوستر الخاص به رسالة قصيرة إلى المشاهدين: «استعدوا لمشاهدة فيلم صادم».
الفيلم من إخراج «سيندي لوميت» (Sidney Lumet) وتأليف «بادي تشايفسكي» (Paddy Chayefsky)، اللذين اشتهرا قبل اتجاههما إلى السينما بالأعمال التليفزيونية خلال مرحلة خمسينيات القرن العشرين، وكان لديهما اعتقاد بأن صناعة الفن، بل والعالم كله، آخذة في التدهور بعد هذه الحقبة، ولذلك جاء الفيلم تعبيرًا عن حالة الثورة والغضب داخل كلٍّ منهما.
الفيلم، الذي ينتمي إلى فئة الكوميديا السوداء، نال كثيرًا من التقدير، وحصل على أربعة جوائز أوسكار وترشيحَيْن، لكن التقدير الأكبر جاء لاحقًا. ففي عام 2006، اختارت «رابطة الكُتَّاب الأمريكيين» سيناريو «Network» واحدًا من ضمن الأفضل في تاريخ السينما، بينما جاء الفيلم في المركز 73 ضمن استفتاء BBC لأفضل مئة فيلم أمريكي في التاريخ.
قد يهمك أيضًا: الأوسكار ثوريًّا: لحظات نادرة من الخروج عن النمط
لكن بعيدًا عن الجوائز، إلى أي حدٍّ حقَّق الفيلم وعده بتقديم عمل «صادم»؟
بالنسبة لتوقيت عرضه، كان دخول الفيلم إلى كواليس التليفزيون لعرض ملامح الفوضى وعدم المسؤولية فيه صادمًا بالفعل، لكن المخيف في مشاهدة الفيلم حاليًا هو أن أكثر شطحاته جنونًا لا تظهر بالنسبة إلينا صادمةً على الإطلاق، وأقصى محاولاته للسخرية تبدو شديدة القُرب من الواقع الحالي وأبعد ما تكون عن القِدَم.
المجنون الذي يعبِّر عن الناس
أندرو محسن
يحكي الفيلم قصة المذيع التليفزيوني «هوارد بيل»، ويؤدي دوره الممثل «بيتر فينش» (Peter Finch)، الذي يعمل في إحدى شبكات التليفزيون الشهيرة المتخيَّلة ضمن الأحداث.
نظرًا لانخفاض نِسَب مشاهدة برنامج «بيل»، فإن القناة تنذره بالفصل بعد أسبوعين. وعقب معرفته بالقرار وخلال وجوده على الهواء مباشرة، يذيع الرجل على المشاهدين قرار فصله، ويؤكد أنه سينتحر أمام الكاميرات خلال أسبوع واحد، الأمر الذي يقلب الإدارة عليه بالطبع.
يتراجع المذيع التليفزيوني عن قرار الانتحار في مقابل السماح له بتقديم حلقة أخيرة يودع فيها المشاهدين. يقبل منتجو البرنامج، فيقدم «بيل» الحلقة الأخيرة ويتحدث فيها بحرية شديدة عن مشكلات الحياة، وهو ما يعجب الجمهور ويرفع نِسَبَ المشاهدة. وفي محاولة من الشبكة للاستفادة منه، يعود الرجل إلى الشاشة تحت لقب «النبي المجنون»، ويُطلَب منه أن يقول كل ما يخطر على باله.
قد يعجبك أيضًا: كيف حوَّل التليفزيون السياسة إلى عرض ترفيهي؟
يرفض رئيس قسم الأخبار استغلال حالة انهيار «بين» لزيادة نسب المشاهدة، فتصنع إحدى المنتجات برنامجًا جديدًا من أجله، يضم عدة فقرات إخبارية وترفيهية منها فقرة لتوقُّع الأخبار التي ستحدث في اليوم التالي. كانت حجة تلك المنتجة أنه حتى لو كان «بين» ليس مستقرًّا نفسيًّا بالفعل، إلا أنه يعبِّر عن الغضب في نفوس الناس، ولهذا اختيرت عبارته «أنا غاضب للغاية، ولن أحتمل بعد الآن» ضمن قائمة معهد الفيلم الأمريكي لأفضل عبارات الأفلام.
نبوءة بما يحدث الآن
خطبة «العالم تديره مجموعة من الشركات الكبرى»
بنظرة على بعض برامج التوك شو و«نجوم» مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الحالي، سندرك كيف اقترب الفيلم بشكل كبير من التعبير عن واقعنا الآن، عن كثير من الشخصيات المؤثرة التي تعبِّر عن الناس من جهة، ومن جهة أخرى تتحكم فيها شبكات التليفزيون. نبوءة «لوميت» و«تشايفسي»، مخرج ومؤلف الفيلم، تحققت بالفعل على أرض الواقع.
وليست هذه هي النبوءة الوحيدة، ففي أحد مشاهد الفيلم، وبعد أن يلقي «بيل» خطبة عن أهمية عودة اقتصاد الدولة إلى الشعب، يرد عليه رئيس الشبكة بخطبة أكبر عن أنه لم يعد هناك شعب ولم تعد هناك دولة، بل فقط مجموعة من الشركات الكبرى يُدار العالم من خلالها.
هل هناك زمن تنطبق عليه الجملة السابقة أكثر من العصر الحالي؟
لكن أكثر ما يثير الدهشة في الفيلم فكرة أخرى خطرت لمنتجة البرامج «ديانا»، التي قامت بدورها «فاي دوناوي» (Faye Dunaway)، وهي لمسلسل يتابع الجرائم التي تنفذها إحدى الجماعات الثورية بشكل حي. بعبارة أخرى: اخترعت «ديانا» برامج الواقع التي صارت موضة حاليًا.
جاءت الفكرة ديانا بعد مشاهدتها مقطع فيديو لعملية سرقة صوَّرها اللصوص أنفسهم، أفلا يذكرنا هذا بشيء؟
كان هذا قبل ظهور التنظيمات الإرهابية الشهيرة التي تصوِّر جرائمها وبجودة عالية أيضًا. إما أن الفيلم كان استشرافيًّا للغاية، أو أن الإرهابيين شاهدوه وأعجبتهم الفكرة.
اقرأ أيضًا: كيف تستخدم الدنمارك علم النفس في مواجهة «داعش»؟
شريرة الأمس بطلة اليوم
غير ذلك، صوَّر الفيلم ديانا كشخصية شريرة يحركها الطموح فقط، أما بمقاييس الوقت الحالي، ستصير شخصًا سابقًا لعصره.
وبينما يمكن أن تتحول شخصيات الفيلم، بعد 40 عامًا من عرضه، من ثائرين إلى أشخاص تقليديين، فإن شخصية ديانا ستتحول من شريرة إلى بطلة الفيلم؛ فهي امرأة قوية وطموحة وتعشق عملها وتدرك احتياجاتها، ولم تتأخر في استغلال اضطراب «بيل»، وعندما بدأت مشاهداته في الانخفاض مرة أخرى لم تتورَّع عن محاولة اغتياله، وهو ما يجعلها أكثر شخصيات الفيلم إثارةً للإعجاب اليوم.
إن مشاهدة فيلم «Network» تمنحنا شعورًا بالأسف على الحالة التي وصلت إليها صناعة الإعلام، ولكن مع مشاهدة ديانا بكل حيويتها وأفكارها وكسرها للأشكال النمطية، يتحول الشعور بالأسف إلى رسالة متفائلة.
بالتأكيد لم يكن هذا ما قصده صُنَّاع الفيلم، وربما لو ضمَّت شبكات التليفزيون أشخاصًا أكثر مثل ديانا لما وصل الوضع إلى ما هو عليه الآن. لكن من يدري، لربما صار أسوأ.