مطلق الذيابي: رجل الإثراء الفني الذي حجبته الصحوة
على منصة ساوند كلاود، أحيانًا تختارك الأغنية إذا استسلمت للاختيارات التلقائية التي تقترحها الخوارزميات. بهذه الطريقة تعرفت إلى مطلق الذيابي وهو يغني كلمات غازي القصيبي بصوت فخم واستثنائي:
«وحيدين في رحلةٍ لا تحب الدموع ولا تنتشي بالكدرْ
وحيدين نسمع رجع الضجيج فنضحك من فلسفات البشرْ»
ومع القليل من البحث اكتشفت أن هذا الصوت الفخم ليس صوتًا فحسب: «ربنا وهبه هبات، فهو شاعر وملحن ومطرب، وعازف عود ممتاز، وعازف كمان ممتاز، ومذيع ممتاز، وممن اتجه إلى المشاركات الفنية منذ بداية الإذاعة السعودية» - الفنان جميل محمود لقناة روتانا خليجية.
من هو مطلق الذيابي؟
هو مطلق مخلد حبيب الله الذيابي الروقي العتيبي، ولد في 1927، عُرف باسم سمير الوادي لأنه من عائلة محافظة ترفض الفن، مما اضطره لاختيار هذا اللقب رفعًا للحرج عن أهله، وطلب تعلم الموسيقى أثناء طفولته، وقوبل طلبه بالرفض الشديد من والده.
قضى مطلق سني حياته الأولى في الأردن، لأن والده مخلد كان يعمل في فض المنازعات بين القبائل والعشائر مع الملك عبد الله بن حسين في الديوان الملكي. درس في مدارس العاصمة الأردنية، حيث اكتفى بالتعليم الابتدائي وعاش بالقرب من والده، فتعلم نظم الشعر منه، وحضر معه المجالس الأدبية في القصر الملكي، مما رفع من مداركه.
عادت عائلته إلى السعودية في الخمسينيات واستقرت في مكة. وفي عمر 27 عامًا، عمل وكيلًا لفرع الجوازات، قبل أن يكون مذيع أخبار ومقدم برامج في الإذاعة. لم يكن صعبًا عليه كسب هذه الوظيفة لما امتلكه من إمكانيات لغوية وصوتية. يقول علي فقندش، أحد أهم الصحفيين الذين وثقوا السيرة الفنية في السعودية: «مطلق الذيابي واحد من أهم رجال الإعلام والفن السعودي منذ سطوع حياة الإعلام الحديث».
تعاون الذيابي مع مطربي الصف الأول في الوطن العربي، من أمثال وديع الصافي وابتسام لطفي ومحرم فؤاد، بالإضافة أنه من الذين أسهموا في اكتشاف الفنان محمد عبده عندما قدم أغنية «سكبت دموع عيني» كأول أعماله الفنية، والتي هي في الأصل أغنية مطلق من كلماته وألحانه.
بلغت البرامج التي أعدها في الإذاعة 40 برنامجًا، ما بين برامج مهتمة باللغة العربية مثل «ثمرات الأوراق» و«ومضة» و«حصة ينتظرها المستمع»، وبرامج شعبية تهتم بالشعر النبطي مثل «من البادية». ومما خدم الذيابي في هذا المجال أنه كان بدويًا ويحب الصحراء ويفهم أهل البادية وقواعدهم. بالإضافة إلى برامج متنوعة مثل سهرة المنوعات، وبرامج فنية.
الذيابي الشاعر
«بلا مقدمة
أهدي بكل حب
قصائدي المتواضعة
إلى كل من أحب بصدق»
هكذا يقدم لنا الذيابي ديوانه «أطياف العذارى»، الذي يتكون من نحو 114 قصيدة قصيرة لا تتجاوز الواحدة في الغالب عشرة أبيات. ويعرَّف لنا الحب في إحدى صفحات الديوان فيقول: «الحب سهم الله، لا يدري متى يرمي به الخلاق حين يشاء»، وكأنما يحدثنا عن الموت.
وعن قيد الحب:
«العين هنالك يا حزني وأنا بالدمع هنا أغرق
والقيد أراه يكبلني فلماذا أسموني مطلق»
في قصائد الذيابي يتكرر الله والحب في جملة واحدة، رابطًا الحب بالمشيئة الإلهية:
«قمريتي يا منية الخفاق يا نفحة الإلهام في أعماقي
لولاك يا أنس الحياة لغالني همٌّ تولاني بلا إشفاق
ولقد أطلَّت منكِ عينٌ زانها لطف الإله بصنعة الخلاق
يا فوز يا نبض الجنان على الهوى لكِ ما شعرت تزقه أوراقي»
حجب الذيابي
على الرغم من كثرة المصادر التي تشيد بأعمال مطلق الذيابي وتؤكد وفرتها، فإنك لن تجد له إلا أغان معدودات، فبعد وفاته في عام 1982، أبرق ابنه محمد إلى مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز يطلب منه أن يوجه إذاعة جدة بعدم بث أغاني والده، وهذه كانت عادة آنذاك، فإذا مات الفنان تُحجب أغانيه بطلب من ذويه، باستثناء طلال مداح لأن ابنه عبد الله رفض الفكرة.
والمؤسف أن الحجب لا يزال ساريًا. وعبّر سعود ابن الفنان عن رفضه لتلك الفكرة لصحيفة عكاظ السعودية: «كان يغني العفيف من الشعر، ولم يكن فاحشًا»، إلا أن بقية الأهل مع قرار الحجب. وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ففي حفل تكريم الذيابي في نادي جدة الأدبي، نقل سعود إلى الحضور طلب الأهل عدم الإشارة إليه كفنان.
هذا الفنان الذي عاش للفن وصارع ذويه للفن ومات للفن، لو كان بيننا اليوم هل سيرضى بالحجب؟
صارع الذيابي القبيلة وصعد باسم مستعار واصلًا به إلى الفنان محمد عبد الوهاب، حتى قال عنه في أحد الحوارات الإذاعية إنه لو اختار أن يلحن لفنان سعودي فلن يختار غير الذيابي: «صوته فيه حرارة ونبرة جديدة وانطلاقة الكلمة فصيحة».
عندما نُظم قبل عدة سنوات برنامج الملك عبد العزيز لمزايين الإبل، قدمت إذاعة جدة أغاني مطلق فتعرف إليها الجيل الجديد، وفوجئوا ببرامج تعيد طلب الأغاني. وبعضهم يقول بأن السعوديين يدندنون أغنية «المقناص» ولا يعرفون أنها لمطلق:
«يالله أنا طالبك حمرًا هوى بالي ... لين روّح الجيش طفاحٍ جنايبها
وإن برّك الجيش حادي أشهب اللّالي ... لاهي تورد وسيعٍ صدر راكبها»
«لقد أثقل قلبه إثقالًا في خدمة المحتوى الإعلامي في شتى المجالات»، لم تكن كلمات الأديب محمد حسن تقي عن الذيابي مجازًا.
«تلقى الذيابي خطاب إشعار بالتقاعد من وزارة الإعلام، وبالتحديد من إذاعة جدة، وأصيب بعدها بأزمة قلبية، وبعدها بشهر توفي». يقول ابنه سعود هذه الكلمات في أحد لقاءاته بعتب مُبطن، وكأنه يربط بخجل وفاة والده بإخطار التقاعد.
هذا الفنان الذي عاش للفن وصارع ذويه للفن ومات للفن، لو كان بيننا اليوم هل سيرضى بالحجب؟ وهو الذي يقول:
«دعني أغني في الهوى شعري ... واسمع غنائي في الهوى العذري
فالشعر أنغامٌ نرددها ... فيها عشقنا روعة الدُرِّ»
هاجر المطيري