عن التشكيلي محمد الأيوبي وتناقضات اللون الأصفر
في مساء خريفي من مساءات نوفمبر عام 2007، لم يكن القدر كريمًا مع محمد الأيوبي، أو مع عائلته ومحبيه، بل آثرت يد الموت الفجيعة إذ كبلت قلبًا صاخبًا بالسكتة، ولونًا حيًا بالصمت، وإنسانًا حالمًا بالنهاية.
إن الناظر إلى وجه محمد الأيوبي (1973-2007) لا يخطئ مسحة الحزن التي تهيمن على ملامحه وقسماته، ما يمنحه غموضًا محببًا وشعورًا ماورائيًا، بل لا يكاد المرء يخرج من تلك المشاعر حتى تستحوذ عليه ملامح أعماله المسكونة بهواجس أكثر حدة، صارت عناوين عريضة لمجمل لوحاته في ما بعد.
لقد استطاع الأيوبي استثمار هذا النوع من الأحاسيس البشرية في تشكيل معماره الفني الخاص، ولعل المتابع لتطور أعماله في عشر سنوات، حتى وفاته، يدرك مقدار الجهد الذي بذله الراحل للوقوف على شفرته الخاصة بمرجعيته اللونية، وخصوصيته التعبيرية، وتعدد معانيه لدى متلقيه.
صديق أصدقائي
خلال فترة حياته، لم يكن الفنان الراحل صديقي، إنما كان صديق أصدقائي (ومن بينهم زوجتي هبة بوخمسين). تبادلنا التحايا عبرهم، كما قدموا لي أعماله وقتذاك من باب مبدأ تشاركية الإطلاع وتقاسم الجمال، السائد بيننا.
يومذاك كنت أقطن السويد، بينما هو في الكويت يفحص الحياة معنويًا ويشتغل على أكثر من اتجاه لتطوير مشروعه التشكيلي الفارق، رسمًا ونحتًا، إذ سار بخطى واثقة نحو فرادة تليق به.
آنذاك وقعت عيناي لأول مرة على أحد أعماله -المنجز عام 1997- وكان تجريدًا نصفيًا لرجل بثوب عربي، محتشدًا بالألوان النارية والخطوط الداكنة، ومنفتحًا على التأويل دون إغفال ميزة المحلية غير المزيفة ولا الطارئة؛ تلك الميزة كان يجيد الانطلاق منها متمثلة عادة في جو اللوحة العام أو الزي السائد فيها أو الإشارة المكانية المباشرة أو غير المباشرة.
البدايات والمعلم
قسَّم الراحل ذاته بين دراسة الهندسة الميكانيكية، وطموحه بتلبية نداء موهبته الحية، ولو كان قد درس الفن حصرًا؛ لاختصر سنوات طوال أنفقها في مسك العصا من المنتصف بين الدراسة في مجال والحياة في آخر تمامًا.
تتلمذ الأيوبي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي في رابطة الحرف اليدوية بالكويت، وكان للنحات المهم سامي محمد (الكويت 1943) أثر حاسم على موهبته النحتية، حتى كادت بعض أعمال الراحل النحتية تشكل صلة حوار بليغ مع بعض منحوتات الفنان سامي محمد، الذي كان قريبًا منه وراعيًا لموهبته، وصديقًا بالطبع. وفي نفس الوقت، طور من موهبته في مجال الرسم عبر احتكاكه المباشر بالمشهد الفني في الكويت.
نزعتان فنيتان
عند تحليل مدلول أي عمل فني، والوصول به إلى جذوره الأولى، فلا شك أن الفن إجمالًا (وبوسعي القول: الشعر كذلك) ستتناوشه نزعتان متناقضتان: الحس والتصوف، لكن واحدة منهما سوف تسود على تأويل العمل الإبداعي مهما تدثرتا بدثار ورموز وطلاسم تجعل الحياد في التأويل مشروعًا.
إن معظم أعمال الأيوبي تنطلق من أساس أن الرسم والنحت وسواهما من مجالات الإبداع التشكيلي مجرد إشارات ذهنية في الأساس، وُضعت في سياق رمزي من الخطوط والألوان، يمكن رصدها وتتبعها وقراءتها كما يمكن تفسيرها وإعادة تأويلها بقدر ما يتوفر لنا من وسائل عن العمل ومبدعه.
على أنه من المهم لديّ الإشارة إلى أنه قد يساء تفسير بعض لوحاته إلى الدرجة التي يُظن معها أن ثنائية الرجل والمرأة في أعماله (وهي ثيمة متكررة) ربما تشير إلى شيء من تلك النزعة، وهو غير صحيح في تقديري.
وجوه بشرية
أنجز الأيوبي، نهاية تسعينيات القرن الماضي، مجموعة لوحات لوجوه وأجساد بشرية بوضعيات مختلفة وكتل لونية وضوئية متباينة في ما بينها، حمل كل وجه من تلك الوجوه اسمًا لبعد من أبعاد النفس البشرية، من قبيل: (تأمل، تناقض، حسد، تعبير، استهزاء، تربص... إلخ).
المتأمل في حال تلك اللوحات، الوجوه تحديدًا، يلمس مقاربة أسلوبية مع البريطاني فرانسيس بيكون (1909-1992)، الذي توفي هو الآخر بالسكتة القلبية، ولكن في سن الشيخوخة. كما سيلمس المتأمل أمرين حاسمين في تلقي مدلول كل لوحة من تلك اللوحات. أما الأول فيتعلق بسينوغرافيا مقتصدة إلى حد الاكتفاء أحيانًا بمشهد الوجه أو الجسد. بينما يتعلق الأمر الثاني بأسلوب التحريك والتكرار الذي ينتهجه الراحل مع معظم الوجوه، وكأنه يلاحقها أو يعطي لمتلقيه تصورًا عما سيؤول إليه حالها.
لا يبحث الأيوبي عن إصلاح الأوضاع، ولا عن تجميد اللحظة الفنية والانتقال من حيز لآخر، ولا عن تقليد صورة شمسية على بطاقة هوية. إن كل ملمح من نسج الخيال هو في الواقع لمحة من الحقيقة تستقر في عمق الفنان، بعيدًا في مكان لا ينكشف على أحد، لمحة تبحث عن أختها حتى تكتمل وتتمثل في وجه يقف أمامه الناظر فيقول: هل هذا وجهي؟
في هذه السلسلة من اللوحات، ثمة استرجاع خفي لصرخة تریستان تزارا (1896-1963) قبل قرن من الزمان: «الرسم الجدید لا یرسم العالم، بل یخلق عالمه الخاص». ولعل هذا ما اجتهد الأيوبي لتحقيقه، إذ كان يبحث عن وجهه بين كل تلك الوجوه.
تناقضات الأصفر
لقد أنفق الدارسون والعلماء والفنانون قرونًا في التحليل والبحث والتنقيب، حتى استقروا على ما تعنيه الألوان حقيقة ورمزًا ومجازًا، في الحياة والحب والحرب والموت، وكان للأصفر حصته من تلك الدراسات التي استقرت على أنه لون الحياة والكمال والطاقة (الشمس)، والخير (السنابل)، والنقاء غير القابل للفساد (الذهب)، والقوة الإلهية (تماثيل وآثار الفراعنة والهندوس). كما أنه يدل على الخيانة والحسد وفتور المشاعر والبرودة إجمالًا.
أعتقد أن اختيار لون يحمل متناقضاته في جيناته كاللون الأصفر، لم يكن عشوائيًا من قبل الفنان الراحل، دون أن أخدش مبادئ التلقائية والعفوية التي لا شك أنها حاضرة في أعماله، لكن سيادة هذا اللون في أكثر من 80% من اللوحات التي اطلعت عليها، يقودني إلى القول إن وعي الأيوبي ولاوعيه كانا مثقلين بأفكار الزوال والخلود وهواجس الخير والشر.
تلويحة عمرها 15 عامًا
يومًا ما قال الفيلسوف الوجودي الروسي ليف شيستوف (1866-1938) إن «الفلسفة وُجدت لإزعاج الناس ولیس لطمأنتهم»، وهذا ما أشعر به تجاه قراءة أو تحليل أي عمل إبداعي، إنه أمر مزعج للناس وليس مريحًا لهم، أعني أولئك الذين يودون الاستمتاع بانطباعتهم الشخصية دون توجيه؛ لذا لم أخض طويلًا في هذا المقال في تلك الأمور، وإنما وددت للأمر أن يبدو كتلويحة تأخرت لا غير.
قبل وفاته بعام تقريبًا، كنت أنوي الكتابة عن محمد الأيوبي، ولم أفعل، ثم حلت مأساة وفاته فألجمتني لسنوات طوال، وكلما خطر على بالي اسمه أو مرت من أمامي صورته في موقع إلكتروني أو جريدة، كنت أتذكر أني مدين لهذا الصامت الأنيق بتلويحة صار عمرها اليوم 15 عامًا، وبنخب كأنما هو دمعة في كأس تفيض: السلام عليك أخي محمد.
سعد الياسري