«فان غوخ» يقابل «ياو مينغ»: «الميمز» تعيد تقييم الفن
يقول الفيلسوف والناقد الفني الأمريكي «آرثر دانتو» (Arthur Danto)، في كتابه «معجزات»، إن الفن لا يوجد اليوم من أجل جامعي التحف وحدهم، ولا من أجل جمهور يشارك الفنان ثقافته أو جنسيته، بل إن عولمة الفنون تعني أن يحاورنا الفن باعتبارنا بشرًا.
ويبدو أن دانتو، الذي تنبأ بنهاية الفن في العصر الحديث، لم يكن وحده الذي سعى لفهم تأثيرات الثقافة الحديثة على ممارسة الفن وتلقيه، إذ كتبت الناقدة الأدبية الشابة «كاتي فوستيتش» (Katie Fustich) مقالًا لموقع «Salon»، تناولت فيه العلاقة بين مجالين يبدوان للوهلة الأولى مختلفين تمامًا: الفن الرفيع، ممثلًا في لوحات «فان غوخ» وليوناردو دافنشي، و«الميمز» (Memes)، أو الصور التي يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل عادةً محتوًى ساخرًا.
هل يمكن أن توجد أصلًا أي علاقة بين الاثنين؟ والأهم من ذلك..
هل مات الفن حقًّا؟
عندما توضع الأعمال الفنية بجوار «الميمز» ربما يُعاد اكتشافها من جديد.
تلفت فوستيتش انتباهنا أولًا إلى أن طرق التلقِّي التقليدية للفنون تقل تدريجيًّا، إذ تناقصت زيارات المتاحف باطراد في السنوات العشر الأخيرة، وهذا ربما يكون بسبب ابتعاد المتاحف المستمر عن الثقافة الرقمية للقرن الحادي والعشرين.
ربما تبدو لوحة فان غوخ «ليلة النجوم» جميلة إذا علقها أحد الشباب على حائط حجرته، لكن هل تلعب اللوحة في حياته دورًا آخر غير كونها زينة بسيطة؟
تعتقد الكاتبة أن الفن لم يتغير، لكن ما تغير فعلًا هو نظرتنا إليه. ننظر عادةً إلى الفن الرفيع كما لو كان جافًّا ومنعزلًا عن حياتنا اليومية، ويؤدي هذا إلى إفقاره حتى يفقد كل صلة بعالمنا الواقعي، لكن عندما توضع الأعمال الفنية بجوار «الميمز» ربما يُعاد اكتشافها من جديد.
اقرأ أيضًا: كيف تشارك الثوريون والفنانون في إطلاق «السريالية»؟
فان غوخ يغني «بوب»
نشر موقع «الميمز» الشهير «9gag» صورة يظهر فيها مغني البوب الأمريكي «دريك» (Drake) جنبًا إلى جنب مع بورتريه لفان غوخ بيد الرسام الأسترالي «جون بيتر راسل» (John Peter Russell)، وقد اتخذ الاثنان الهيئة نفسها تقريبًا.
للوهلة الأولى لا يظهر أي تشابه بين الرجلين، لكن بنظرة أعمق، تعتقد فوستيتش أننا نستطيع ملاحظة تماثلات كثيرة.
أولًا، يشترك الرجلان في كونهما فنانَيْن من الذكور الشباب (أواخر العشرينات)، كما يشتركان في إنتاجهما لفن يعتمد بصورة كبيرة على التأمل في الذات مع نزعة رومانسية محبَطة. ويشترك الاثنان، بحسب فوستيتش، في تعبيرهما الفني عن مشاعرهما بصراحة تناقِض الثقافة الذكورية السائدة، ويؤدي وضع الصورتين معًا إلى رؤية كل منهما من جديد، وبطريقة لم نفكر بها من قبل.
لم يكن قصد «9gag» أن ننظر إلى «الميم» بهذا العمق أو أن نأخذه بجدية، وإنما كان المقصود فقط أن نضحك على التشابه السطحي بين هيئتي الرجلين، على خلفية التناقض الكبير بينهما.
لكن كاتبة المقال تعتقد أن هذه «الميمز» تؤدي بدلًا من ذلك إلى كشف الطابع الإنساني للفنون الرفيعة، الذي نسيناه عندما تركت اللوحات مواطنها الأصلية وتاهت بين جدران المتاحف.
قد يهمك أيضًا: ما الفن وقد استُهلكت كل الأفكار؟
تائه في العالم.. منذ 1817
لإعطاء بعض الأمثلة على الدور الذي يمكن أن تلعبه «الميمز»، تلفت فوستيتش نظرنا إلى مجموعة من الصفحات الرائجة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تدمج الفنون الرفيعة بالثقافة الجماهيرية، وتبدأ بالإشارة إلى صفحة «Fly Art Productions» على موقع «تمبلر»، التي تضع كلمات أغاني «الهيب هوب» على لوحات كلاسيكية.
تشير الكاتبة إلى «ميم» أنتجته هذه الصفحة، بأن وضعت كلمات المغني الأمريكي «كانييه ويست» (Kanye West) «تائه في العالم» (Lost in the World)، من أغنيته بنفس الاسم، على عمل الرسام الألماني «كاسبر ديفيد فريدريش» (Caspar David Friedrich) الشهير «متجوِّل فوق بحر من الضباب» المرسوم عام 1817.
فجأة، تصحب اللوحة أصوات الطبول والبيانو المستخدمة في أغنية ويست، وتندمج كلمات الأغنية، التي تحمل معاني الوحدة والشعور بالجلال في آن واحد، مع اللوحة لتنتج موضوعًا فنيًّا جديدًا ومختلفًا عن كلٍّ من الأغنية واللوحة منفصلتين.
إذا كانت أغنية ويست، مثلها كلوحة فريدريش، تترك في المرء سؤالًا عن معنى الوجود في عالم بهذه الضخامة، فإن العملين يصبحان وسيلة لغاية واحدة في رأي فوستيتش، لكن دمج الاثنين يعيد تقديمهما تحت أضواء جديدة.
تشير الكاتبة إلى مثال آخر لإيضاح ما تقصده: صفحة «We're All Memes» على إنستغرام، التي تضع صور الفنانين المشهورين بجانب أعمال فنية كلاسيكية، كما في نموذج «9gag» الأول.
في واحد من منشورات الصفحة، تظهر لوحة الرسام البريطاني «ويليام هنري مارغتسون» (William Henry Margetson) «جنية الماء» بجانب صورة لكيم كاردشيان تمارس السباحة، مأخوذة من برنامج تليفزيوني.
ترى فوستيتش أن هذا الوضع «الفاضح»، المتمثل في وجود نجمة تليفزيونية لا تحمل قيمة فنية أو ثقافية حقيقية إلى جوار عمل فني كلاسيكي، ليس فاضحًا حقًّا إلى هذه الدرجة.
يجعلنا الأمر نعيد تقييم لوحة مارغتسون نفسها، بمناسبة التشابه الذي جعل هذا «الميم» ممكنًا، لنكتشف أن الرسام البريطاني لم يسعَ هو الآخر لإيصال أي معنًى في لوحاته، بل حاول فقط تقديم نساء جميلات لإثارة عين المشاهد، وهو ما تفعله كاردشيان بالضبط رغم الاختلاف التام بين جمهور هذه وذاك.
قد يعجبك أيضًا: هل علينا أن ندرس الفنون؟
فن غير نخبوي
«الميمز» تُنزل الأعمال الفنية من على جدران المتاحف، لتحمل معنًى عاديًّا وتنصهر مع حياتنا اليومية.
لن يندهش أحد لرؤية كلمات من أغنية «هيب هوب» على رسم «غرافيتي»، كما لا يتعجب أحد عندما يرى مقولة لشكسبير تصاحب رسمًا للفرنسي «كلود مونيه» (Claude Monet)، لكننا نندهش إذا رأينا «غرافيتي» لشكسبير، أو أغنية «هيب هوب» مع لوحة من لوحات «مونيه»، لأننا نميل إلى الاعتقاد بأن هذه الفنون الرفيعة لا يمكن دمجها بالفنون الجماهيرية «الأدنى».
ترى فوستيتش أننا تعودنا احترام اللوحات فقط إذا كانت معلَّقة على جدران المتاحف، والضحك عليها إذا صاحبتها كلمات أغاني «البوب» على الإنترنت، لكننا لا ننتبه إلى التأثير الحقيقي الذي تُحدثه «الميمز» بإنزالها الأعمال الفنية من على هذه الجدران العالية، وإخراجها من حجرات المتاحف، لتحمل معنًى عاديًّا وتنصهر مع حياتنا اليومية.
كان هذا أهم مقصودات الفن من البداية، فالناس الذين أبدعوا هذه اللوحات رسموها تعبيرًا عن لحظات الفرح واليأس التي مرُّوا بها، وحمَّلوها بمشاعرهم وأحلامهم، وهي المشاعر والأحلام الإنسانية التي يشتركون فيها مع جمهور موسيقى «البوب» اليوم.
تذكرنا «الميمز»، في رأي فوستيتش، بهذه الحقيقة بينما تنزع عن الفنون الرفيعة طابعها النخبوي، وتكشف جوهرها الإنساني الذي يشترك فيه فان غوخ مع كانييه ويست.
أحمد الشربيني