«مويضي البرازية»: القوة والشجاعة والغناء

فاطمة عبد السلام
نشر في 2021/06/18

الصورة: جريدة الرياض - التصميم: منشور

الحَكايا إرث الإنسان منذ الأزل، يتوارثها كمحاولة أبدية للفهم. بداية الخلق حكاية، ونهايته حكاية أخرى، وما بينهما حكايا لا تنتهي، ولا شيء يُخلد الحكايا مثلما يفعل الشعر.

لطالما كان الشعر بابًا يفضي للحكايا بتفاصيلها. لكل قصيدة حكاية، وكل حكاية، وإن لم تنتهِ بالشعر، قصيدة مؤجلة حتى ينكشف عنها الستار. يأخذنا الشعر من المقعد الذي نشاهد منه الحكاية إلى الكواليس، ويجعلنا، للحظة، أبطال حكايا لم نعشها، حينما يردم المسافة بيننا وبينها.

تمتلئ الذاكرة بأبيات شعرية خلدها الزمن، بعضها يرتبط بحكايا خالدة، والبعض الآخر لم ينكشف عنه الستار. ولعل خلود القصيدة لا يعول على شيء سوى صدقها، إذ للقصيدة روح يستطيع القلب تمييزها. هنالك الكثير من الأصوات الشعرية التي تجاوزت الزمان والمكان لتستقر في الذاكرة، نستحضرها بين الحين والآخر، ونستدل بها. تزدحم شبه الجزيرة العربية بهذه الأصوات، وكان للمرأة العربية صوت يسجل التاريخ حينما يعلو بالقصيدة. القصيدة التي تشبه آلةً للسفر عبر الزمن، نسافر بها إلى الماضي، لنسترق النظر إلى المستقبل.

لم تقتصر التجربة الشعرية للمرأة على كتابة القصيدة باللغة العربية الفصحى، إذ شهدت البادية الكثير من النساء اللاتي كتبن قصائدهن بلهجتهن، ودونَّ حكاياهن في تلك القصائد، وظلت أصواتهن تتردد حتى وصلت لمسامعنا، تندس بين تفاصيلنا في ما يشبه الأمثال، كالبيت الشهير للشاعرة نورة الحوشان: «اللي يبينا عيت النفس تبغيه، واللي نبيه عيا البخت لا يجيبه».

هنالك الكثير من الأصوات الشعرية النسائية التي شقت طريقها في البادية والتقينا بها في الطريق. وقد يتعثر الصوت أحيانًا ليتراجع نحو الصمت، لا سيما إن كان صوت امرأة، لكن للقصيدة طريقتها في الوصول والارتحال من زمن لآخر، تمامًا كصوت امرأة شجاعة.

في البادية، ومن النساء اللاتي عرفن مشقة الارتحال وارتوين بالشعر حينما اشتد بهن العطش، برزت الشاعرة موضي البرازية، والتي تُدعى مويضي، كتصغير يشير إلى التلطيف. عاشت الشاعرة في ظل الدولة السعودية، ومن الصعب تحديد الفترة التي عاشت فيها، إذ يشير البعض لمنتصف القرن الثاني عشر الهجري، بينما يشير البعض الآخر لفترة لاحقة تقارب القرن الثالث عشر أو الرابع عشر الهجري.

لم تكن موضي البرازية الشاعرة الوحيدة آنذاك، لكنها برزت بصوتها، ربما لأنها كانت تتحدث بلسان القلب، بما يتضمن القوة أحيانًا، والضعف أحيانًا أخرى. كانت موضي ذات شخصية قوية، ولأنها امرأة، دفعت ثمن هذه القوة. تزوجت مرتين، في المرة الأولى برجل ذي شخصية شجاعة ومعرفة واسعة، اسمه حجول، كان الآخرون يستعينون به في السفر واستكشاف الطرق، حتى صار اسمه مصاحبًا لمن يحمل هذه الصفات. كان يقول عن نفسه مستشهدًا بمعرفته بالطريق:

«دليلتهم وأنا حجول

لا غطى المرقاب نوا

أصدرهم وأوردهم دحول

بلا علامة ولا رجم مسوا»

كان حجول كثير السفر، مما كان يشعر موضي بتقصيره تجاهها، وحينما تحجج بأنه يوفر التمر والسمن واللبن وسائر احتياجاتها ليشير إلى عدم تقصيره، ردت لتبدي رغبتها في الطلاق منه:

«حتيش لو حطيت فتخه وباكور

مع جوخةٍ تكسى قطات العبيه

اقطك وسمنك كنه الشري ممرور

لا طاب مقلوعك فعود عليه»

طلقها حجول، وتزوجت رجلًا آخر ذا شخصية لينة، ويقال إن سبب طلاق موضي من زوجها الأول هو قوة شخصيتها، إذ لطالما كانت قوة المرأة في نظر الكثيرين تستوجب الاعتذار.

كان لموضي أخت اسمها بنَّا، متزوجة من رجل ذي شخصية قوية، وكانت شاعرة هي الأخرى. ذات يوم، بينما كانت تتباهى بزوجها أمام موضي، بحس دعابة يثير المقارنة بين زوجيهما، قالت لموضي:

«شوقي غلب شوقك على هبة الريح

ومحصل فخر الكرم والشجاعة

ركاب شوقي كل يوم مشاويح

وإذا لفى صكوا عليه الجماعة

يالبيض شومن للرجال المفاليح

ولا تقربن راعي الردى والدناعة»

وكانت موضي ذات لسان سليط، فاستغلت الفرصة للرد على أختها قائلة:

«ما هوب خافيني رجال الشجاعة

ودي بهم مير المناعير صلفين

أريد مندس بوسط الجماعة

يرعى غنمهم والبهم والبعارين

وإذا نزرته راح قلبه رعاعة

يقول يا هافي الحشا ويش تبغين

وإن قلت له هات الحطب قال طاعة

وعجل يجيب القدر هو والمواعين

لو أضربه مشتدة في كراعة

ما هوب شانيني ولا الناس دارين»

في رد موضي ما يشير إلى معاييرها الخاصة لاختيار زوجها، بينما تتنافس الأخريات على المعايير السائدة للزوج. ولأنها امرأة قوية، لم تستجب لمعايير بيئتها، وإنما فرضت معاييرها الخاصة على البيئة التي هي فيها.

كانت موضي تحب الطرب كما يُحكى عنها، وكان طربها يمطر على الصحراء، لتبتل بالقصائد وتزهر بالأغنيات. وذات يوم بينما كانت تغني بين صديقاتها، مر بعض المتدينين، واستفزهم علو صوتها، فشكوها إلى الأمير حتى تتوقف عن الغناء وتصمت. أرسل الأمير خادمه سلامة ليأمر موضي بأن تتوقف عن الغناء، لكن الصمت لم يكن خيارًا لامرأة قوية كموضي، فظلت تغني، كأنها تحتج بالغناء، مما أثار غضب سلامة، فكان رده القاسي لا يتماشى مع صوتها الرقيق، إذ أمر بجلدها ليضطرها للصمت، وصمتت موضي حينها.

وفي يوم ما، انتبهت موضي للهديل الذي يعلو في الصحراء، فتتبعت الحمامة التي خافت عليها من السوط، ونبهتها للتحليق لئلا تقع في شباك الصمت، كأنها تتمنى بذلك لو كان لها جناحان تطير بهما إلى حيث تستطيع الغناء، وكانت قصيدتها للحمامة تشي بوجع الحكاية، حينما قالت لها:

«يا سعد عينك بالطرب يالحمامة

ياللي على خضر الجرايد تغنين

عزي لعينك وإن درى بك سلامة

خلاك مثلي يا الحمامة تونين

كسر عظامي كسر الله عظامه

شوفي مضارب شوحطه بالحجاجين

وإن كان ودك بالطرب والسلامة

عليك بالفرعة ديار الوداعين»

وكأن طرب الحمامة استفز شوقها للغناء، ونفض الغبار عن شغفها، حتى خرجت عن الصمت.

كانت قصيدتها للحمامة امتدادًا لرغبتها في التحليق بعيدًا. وكان للشعر الدور الأول في إعادة سرد الحكاية، وتجديد صوت موضي بعد صمتها: الحكاية التي شغلت حيزًا من الذاكرة، حينما نطقت موضي بالقصيدة، وامتد معناها لبطلات أخريات، يختلفن في الحكايا ويتشابهن في نهاياتها.

لموضي أبيات شعرية أخرى تتضح فيها فلسفتها، كبيتها الشهير: «اللي يتيه الليل يرجي النهارا، واللي يتيه القايلة من يقديه»، والذي قد لا يرتبط بحكايتها الموجعة، ولكنه يفي بالعجز المصاحب لها، إذ يتلاشى النور في الخارج حينما يتسلل الظلام للداخل، ويتلاشى معه الأمل.

توقفت موضي عن الغناء، لكن ما زال صوتها يتردد في الصحراء، ويلوح لأصوات نساء أخريات. لم يكن لموضي جناحان يأخذانها إلى حيث تغني، لكنها حلقت في سماء القصيدة، وظل صوتها يتردد كأغنية أبدية، تثير الطرب في القلب، وترمز لأجنحة النساء.

فاطمة عبد السلام