مشاعل الفيصل: ألعابٌ لونية في فضاء غرائبي
أعي سياق تجربة الفنانة مشاعل الفيصل ومكانها في المشهد التشكيلي الكويتي المعاصر، ولدي أيضًا تصور معقول وعادل عن مدى تطورها، وأسلوبها. أتابعها بصمت منذ سنوات، بينما يتابعني تأثير أعمالها بصخب، طارحًا استفهاماته ليخلق من حولي عوالم موازية، بعدد ما يتسنى من تأويلات وقراءات.
الوعي والقصدية
بعد أكثر من قرن على عصف مدارس الفنون التشكيلية الجديدة بواقع وتراث تلك الفنون، وتغييرها إلى الأبد، لم يعد أحد يأخذُ الفن بجدية يرسم لوحة أو ينحت تمثالًا أو قطعة ما، فقط ليروي حكاية بلا تفوق ودون أسرار، يمكن لفتى/ فتاة أن يسبرا كنهها دون عتاد ذهني ورمزي، ونفسي كذلك.
من هنا، صار لزامًا الميلُ إلى خلق علاقة تذوقية متوازنة، مهيأة بالمقدرة على التعامل مع الفن التشكيلي من حيث كونه نتائج إبداعية، وكل إبداع قابل للتأويل والحياة ابن اثنين عندي: الوعي والقصدية. فلا يوجد مكان حقيقي -ذو تأثير يعيش- لفن تنتجه السذاجة والعفوية والفطرية وما إلى ذلك، ولن أقول الموهبة، ذلك لأنني أؤمن بضرورتها في حال تطورت -مع الوقت والتجربة- وما لم تكن شرطًا وحيدًا وجواز عبور إلى «جمهورية» الإبداع.
الشفرة الأولى
ظل الفن المعاصر، الفن الذي تنتمي إليه مشاعل الفيصل، الذي شكل قطيعة بمعنى من المعاني مع تاريخه، ظل وفيًا لأحد أهم مزاياه وأخطر أسلحته، لشفرته البدائية الأولى، للرمز. ولا شك أن الرمز -الذي نتكهن بمستوياته ونعيد تقشير طبقاته المتعددة في وقتنا الراهن- مختلف ثقافيًا واجتماعيًا عما كان سائدًا خلال ظروف تاريخية معينة، سابقة بالضرورة، لكنه يبقى محافظًا على حضوره المعرفي ضمن «أولمبياد» الإشارات والعلامات في العمل الفني، ويبقى أيضًا متصالحًا مع الكثير من مدلولاته الأولى، تلك التي نشأ ابتداء في فضائها.
غوص بودليري
ثمة استفهامات جديدة -تتعلق بالعمل الفني- يجب أن تُطرح مهما كلف الأمر، أو كما يعبر «بودلير» حين يغني للجحيم والفردوس معًا:
نريد الغوص في الهاوية،
جنةً أو جحيمًا.. ما همنا؟
إننا نخترق المجهول لنكتشف الجديد!
تشترك الفنون الإبداعية كالتشكيل (رسمًا ونحتًا) والشعر والموسيقى... إلخ، في إثارة الحساسية البشرية، وأحيانًا الإفراط في إثارتها، ثم حثها على تجاوز راهن اللحظة إلى أفق أكثر رحابة/ضيقًا/عرفانًا/كآبة/غموضًا، عبر آليات وسبل تذوق وتحليل جديدة يبقى تأثيرها لما وراء زمن التلقي الأول، ستطرح -أو تساعد على طرح- استفهامات مهمة: ما السؤال الذي ينطوي عليه العمل؟ لماذ بقي تأثيره حاضرًا رغم خروجه عن دائرة النظر؟ أين أصالة العمل ومواطن الابتكار فيه؟ ما هو زمنه؟ ما هو زمن مبدعه/مبدعته؟ ما هي ثقافة مبدعه/مبدعته؟ هل يُقرأ بتأويلات متعددة أم أنه منغلق على معناه؟ هكذا يمكن لنا فهم ما يعنيه غوص بودلير بحثًا عن المعنى الجديد في تقديري، وتلك هي الاستفهامات التي عنيتها.
ملامح وإشارات وعناصر لافتة
ثمة عوالم خيالها جامح، تؤثثها شفاه غلاظ خرساء، أو تكاد، تنحاز إلى التكرار والتناسخ. بينما العيون جواحظ تتناسل حدقاتها الناتئة داخل حدقاتها الناتئة، مرهقة بين استسلام واستنفار. أما الأطراف فكلها مبتورة، فلا يخرج من أكمام الثياب سوى الفراغ والعجز وقلة الحيلة. عوالم تتوارى خلف مختبر ألوان تتضارب بعنف منفر لتتمازج بوحشية جاذبة، لا يمكن لها إلا أن تكون مقصودة.
لطالما كانت العين رمزًا للمعرفة الكلية والحقيقة المطلقة والانفتاح على الأبدية.
إذا كانت مشاعل الفيصل لا تفرط في تأثيث مشهديتها، سواء بسبب من وعي سينوغرافي أو غير ذلك، فإنها تفتح بابًا سيميولوجيًا واسع التأويل لعلاماتها وإشاراتها، ضمن مشهدية تتميز باحتشاد الرمز الواحد تناسخًا كما في حالة العينين، وحضورًا وغيابًا كما في حالة الأطراف البشرية، وحيادًا أخرس -قد يبدو فائضًا عن الحاجة- كما في حالة الأفواه، ومسارًا لونيًا ثريًا كما في استخدماتها اللونية.
بالإضافة إلى أنني لاحظت في لوحاتها التي رُسمت مستقلة أو تلك المستعملة في أعمال أدبية مطبوعة، حضور عناصر لافتة تحيل إلى خطاب ذي نزعة يسارية أحيانًا، أو على الأقل يتمرد على اللحظة «البرجوازية» -ربما بالشكل فقط- ليؤسطر المهمَل والمنسي والكادح، ويحتفي بمفاهيم اجتماعية خاصة من خلال الأزياء، والشخوص، والعائلة كنواة، وحضور الموسيقى بآلات وعازفين كتعبير عن منتَج طبقي، وتدلي النجوم الحمر، واستحضار شخصيات ذات بعد نضالي... إلخ.
سأكتفي بهذا القدر من الإشارة لتلك الأمور، لأحاول التركيز على بعض الرموز المهيمنة في كل أعمال مشاعل الفيصل من خلال طريقة رسم العيون والأطراف والأفواه، بالإضافة إلى وعيها الخاص بالألوان.
وعي تحت مهرجان اللاوعي
بقيت العين موضوعًا ثقافيًا خالدًا خلود الكائن البشري العاقل، وعلى مدى تاريخه المدون على هذا الكوكب. ولطالما كانت العين رمزًا للمعرفة الكلية والحقيقة المطلقة والانفتاح على الأبدية (جسدًا وحكمة وألوهية ورعاية)، بالإضافة إلى بعض تأويلاتها الرعوية والقبلية الدارجة، كالفضول والتلصص والرغبة والاشتهاء والخيانة والحسد وغير ذلك.
بالطبع، لا يمكن الوصول إلى وعي –أو ما تحت وعي- مشاعل الفيصل لحظة انحازت إلى هذا الطيف من التجريد في رسم العين، لأجل فهم مقاصدها، ولكن حتى أعتى السيرياليين ضراوة كان سينطلق من منطقة وعيه ابتداء، لاستجلاب مهرجان اللاوعي المنشود.
ويمكن لنا أن نعتقد أنها حين قررت رسم العين البشرية بهذا الشكل، لم تكن تفكر في كل هذه التأويلات التي أتينا عليها، وإنما هيمنت عليها أجواء من الحسرة والمحدودية، سنربطها لاحقًا بشعور العجز الواضح في ثيمة الأطراف المبتورة/المختفية، لتراكم في المحصلة أكداسًا من الأفواه والعيون العاجزة في حقل لوني.
الأطراف مبتورة = المؤوَّل مبتور
لطالما نُظر إلى الأطراف البشرية (أعني اليدين والقدمين) على أنها تتمتع بحضور ثقافي بالغ العمق، خاص بها. وقد استطاعت هذه الأعضاء -من الجسد البشري- أن تستحوذ على عناية قل مثيلها، منذ عصر الإنسان الأول ورسومات الكهوف، مرورًا بالحضارات الكبرى على ضفاف أنهار العراق ومصر واليونان والرومان والصين والهند والمايا والأزتك وغيرها، وصولًا إلى حضور تأويلها القوي في الأديان المشهورة على اختلاف منابعها وشهرتها.
لقد أفرد خبراء الرمز والإشارة وعلماء التفسير والتأويل عشرات المعاني للكف البشرية، وأصابع اليد، والذراع إجمالًا، وأصابع القدم، والقدم، وكعب القدم... إلخ، تبدأ من السلام والتحية والدفاع عن النفس والسحر والجنس والرسوخ والحرية والنفوذ، ولا تنتهي عند الصلاة والتوسل والمباركة والاتحاد والإهانة والهروب والهم والإعاقة.
باستثناء لوحة وحيدة (لعلها تنتمي إلى بدايات مشاعل مع هذا الأسلوب) شهدت فيها موضوع امرأة دون يدين، ترتدي ثوبًا أرجوانيًا مشوبًا بظل أزرق. امرأة تتكئ إلى جدار مسكون بالوجوه والذاكرة ومحاولات الخلق والتخطيط غير المكتملة. امرأة بدت لي كئيبة -وهذا جيد من باب أن الكآبة عندي مديح في الإبداع- لها ساقان تمتدان من أسفل الثوب إلى آخر الكادر، كما لو كانتا تؤطران حدود العمل السفلية. باستثناء هذه اللوحة فإنني لم أشهد أطرافًا بشرية واضحة في أعمال الفنانة، مما يعزز رأيي في أن المسألة «قد» تنطوي على شعور جارف بالعجز يهيمن على كائناتها المقاومة/المستسلمة، يقودها إلى المعاينة والصمت إن صح التعبير، دون مقدرة على صنع تغيير فعلي في الواقع المربك. هكذا تبتُر مشاعل الفيصل -بصورة مقصودة وواعية- عشرات التأويلات عبر بتر المؤوَّل، وهو ما يعني حرمان كائناتها العجائبية من إضمامةِ تأويل رحبة، وإرغامها على الاكتفاء بالمراقبة.
أفواهُ تتناسخ، وصمتُ يقول
يحضر الفم، وما يتبعه من أسنان ولسان، بشكل حيوي في الأسطورة والفن. ويمكن لنا أن نأتي على بعض معانيه كالحياة والحكمة والعبور والبوابة والتلذذ والوشاية والتقبيل وما إلى ذلك. ولست على يقين مما عنته مشاعل الفيصل من إضفاء هذا الشكل المتراخي على عضو حيوي كالفم، واستنساخه أحيانًا كما فعلت مع العين، أو من تخطيط تضاريسه المألوفة بالشكل الذي بدا فيه ببعض الأعمال وكأنه مخيط بخطوط عشوائية، لكنني على يقين من أنه مثل «الصرخة الساكتة» في أقل أحواله تعبيرًا.
ألعاب لونية معجونة بالبراعة
يُجمع العلماء اليوم، علماء النفس قبل غيرهم، على استحالة وضع قاعدة نهائية القيمة جماليًا للألوان في الأعمال الإبداعية. لكن، ومن منطلق أهمية اللون كأحد أكثر الدوال المحفزة على التأويل اتساعًا، لما يمتلكه من إيحاء خصب، فقد يصح القول -مع الحذر من تسطيح الفكرة- إن اللون منزل الفنان وحامل جوهره ومعناه، على غرار القول بأن اللغة منزل الشاعر ومرآة ما كشف وأضمر.
وكما في الشعر، حيث تعمل اللغة على إنتاج وتسريب ثقافة الشاعر وأسرار خطابه دون أن يشعر أحيانًا، ففي الرسم كذلك يعمل اللون بالإضافة إلى عناصر أخرى، على إنتاج وتسريب ثقافة الفنان ومواطن عنايته وفحوى رؤاه، أو بعض ذلك على أقل تقدير.
لقد اطلعت على قرابة 70 عملًا للفنانة مشاعل الفيصل، ما بين مرسوم ومنحوت، على اختلاف مراحل تطور تجربتها القصيرة. وقد بدت لي أعمالها الأولى التي تعود تواريخ إنجازها أو تواريخ نشرها إلى ما بين 2011 و2014 غير مهمة على الإطلاق، أو عادية في أحسن أحوالها، دون هوية تمثلها. بينما شهدت الأعوام التي تلت ذلك التاريخ طفرة في الأسلوب واللغة البصرية وتوظيف اللون الذي توليه الفنانة أهمية واضحة، ولا يمكن إلا أن يشد متلقي أعمالها إلى لعبتها اللونية المعجونة البارعة.
لقد تعجل البعض واهمًا، وذهب بسذاجة إلى أن ما تفعله مشاعل الفيصل تشويه.
رغم محاولة مشاعل الفيصل أن تتسم بالعدالة في ما يتعلق باستعمالها واستثمارها لمؤدَّى ومدلول الألوان، ما بين رئيسي وثانوي، وحار وبارد، وطويل الموجة وقصيرها، وعاكس للضوء وممتص له... إلخ، ورغم أنها وُفقت في هذا كثيرًا، فقد أثار انتباهي أن اللون الأحمر بكل تدرجاته يهيمن على نسبة راجحة من لوحاتها، لذا سأقف عليه بعجالة كمثال وأنموذج لما أود قوله حول ألوانها.
الأحمر لون رئيسي وفعال في طوله الموجي، عاكس للضوء. هجومي/طقوسي/فلكي/قرباني/ثأري. لون متقدم جدًا، يحمل في شفرته لمحة من قلب عاشق وعقل قاتل، ونكهة من طعم الدم ومذاق النبيذ. الأحمر نسل سلالة حارة/دافئة، يخدم الذكورة والفحولة كما يخدم الأنوثة والخصوبة. إنه توافقي ومتناقض بشكل مزعج، يعبر عن هوية جنسانية ما بين اعتدال وحساسية، ويشير كذلك إلى نشاط حسي ورغبة جارفة لا يَخفيان.
حسنٌ، قد لا تحضر كل معاني اللون الأحمر (وكذلك باقي الألوان) في لوحات مشاعل الفيصل، وهو أمر بديهي، لكنها تقبض على بعض هذه المعاني لتزج بها في إسار لوني أخير، في انتظار قراءات وتأويلات لا تنتهي لحل رموزها المتشابكة، وإطلاقها من محبسها.
نتلقى الحياة كجرح
ليس دور الفنان والشاعر والموسيقي والمسرحي -الذي يتلقى الحياة كندبة أو جرح على مذهب «لوتريامون» في أناشيد مالدورور الخالدة- إنتاج رغبات الآخرين واجترارها، أو ممالأة الجمهور، بل دوره الحيوي والبديهي يكمن في ممارسة حقه الأصيل والطبيعي بصناعة الذوق وتربية الذهن والارتقاء بالمخيلة.
لقد تعجل البعض واهمًا، وذهب بسذاجة إلى أن ما تفعله مشاعل الفيصل تشويه. بينما هو في رأيي فعل إدانة لواقع ظالم ومشوَّه أصلًا، تجابهه الفنانة بسيريالية في لبوس من التجريد الكاريكاتيري، إذا جاز لي اجتراح «خرافة» كهذه التسمية المانعة الجامعة لتصنيف أعمال اختَطَّت دربًا يكاد أن يكون خاصًا بها، عبَّرت من خلاله عن خطاب واضح بأنساق ثقافية وجندرية وفنية ومجتمعية، لا أشك في أنها أعمال ستنضج وتصبح أكثر تطورًا وخصوصية وأصالة، بل أكثر انحيازًا للموضوعات الكبرى.
تلك في عجالة رؤيتي لفن مشاعل الفيصل، التي لا أخفي اهتمامي بعوالمها وما يسكن كائناتها الحرة/المعذبة من هواجس طرية، آمل لها ألا تذبل أو تزول.
سعد الياسري