من خمر العبقرية إلى ماء السماجة: كوميديا «محافظة مسامير»
أرض «محافظة مسامير» متغيرة باستمرار، فبسرعة فائقة يحدث نوع من التغيير الفانتازي، تحركه صدفة صغيرة، أو حدث قد يبدو تافهًا مقارنة بالأثر الذي يتركه. قد يحلم بندر بـ«الآيس كريم»، ليجد نفسه حفار قبور في جيش داعش، أو عامل توصيل لمصلحة مطعم «دونات» وندًا لعصابة غسيل أموال متوحشة. إلا أن هذا التحول جزء من صنعة المسلسل، ويلعب دورًا في تشكيله لمحاكاة ساخرة، تتضمن مزيجًا قويًا من التعاطف والعبث.
من يوتيوب إلى نتفليكس
انتقلت مسامير من موقع يوتيوب الذي حققت عليه نجاحات منذ 2011 إلى منصة نتفليكس. يقول مالك نجر وعبد العزيز المزيني كاتبا المسلسل، في لقاء مع راكان الشايع حول «محافظة مسامير»، إن هناك إدراكًا لاختلاف المنصة في صناعة العمل، الأمر الذي دفعهم إلى العمل على التحرير والجودة البصرية. تتيح نتفليكس مساحة حرية أكبر، لذلك يقدم هذا العمل للبالغين، وهو ما يفسر التنويه الذي يظهر في البداية: «هذا العمل غير مناسب للأطفال، وأحداثه خيالية وإن بُنيت على الواقع».
يؤكد مالك نجر على هذا في حوار أجري معه على موقع إيلاف «سياستنا في ميركوت – شركة الإنتاج - هي أننا لن نقبل أي إملاءات حول ما نضعه من محتوى في إنتاجاتنا، نعم نحترم رغبة الرقيب إذا أراد إزالة شيء من العمل، ولكن لا نقبل أن يفرض علينا إضافة أو وضع أجندته».
هل يتوقع المشاهد تبعًا لذلك اختلافًا في معالجة المسلسل؟ ربما لن يلمس محبو حلقة «تحريات كلب» اختلافًا كبيرًا، عدا أن قصر الحلقات يجعل قصصها مكثفة على نحو أكبر، وتستخدم تلميحات جنسية غير مناسبة للأطفال، الأمر الذي لم نعتد عليه في مشاهدة مسامير. بحسب تفسير نجر، فإن يوتيوب منصة يشاهدها الصغار باستمرار، بينما نتفليكس منصة مغلقة وأكثر قدرة على تحديد الجمهور المستهدف، لكن جوهر المعالجة الذي يعتمد على كوميديا عالية ومنطلقة بإيقاع أكثر حيوية، أساسي في معالجة «محافظة مسامير».
كوميديا خالصة
قد يراهن البعض على هذا النوع من الإنتاج التلفزيوني في هذه المرحلة من التغييرات الضخمة بقطاع الترفيه والاهتمام بالثقافة والفنون في السعودية، بأنها قد تكون أقرب إلى التقليدية، أو محاولتها مقاربة القضايا الاجتماعية كضربة موفقة سلفًا، مما يعني بالضرورة التنازل عن المستوى الفني المندفع نحو تحقيق استحواذ من نوع خاص، لكونه كوميديًا على سبيل المثال ليس إلا.
المفارقة أن إحدى الحلقات الثمانية التي قُدمت من المسلسل كانت حول الإنتاج التلفزيوني، وفيها يتمكن منير الذي يعمل منتجًا تلفزيونيًا من تقديم أعمال محلية تصل إلى العالمية، وتتراجع مشاهدات إنتاجات أكبر الشركات في العالم مثل HBO، ليقع منير ضحية مؤامرة خطط لها كبار التجار والمستثمرين لإفشال المحتوى الذي يقدمه. هذه الحلقة جاءت بعنوان «تحويل خمر العبقرية إلى ماء السماجة»، الأمر الذي يحطم منير ويجعل مزاج المدينة الذي تحسن مع إنتاجاته يعود بائسًا وداعيًا للغثيان الجمعي.
هذا النوع من الإحساس الفوقي بالقدرة على التفرقة بين الجيد والرديء المضمر هنا، هو جزء عضوي آخر في شخصية «محافظة مسامير» الهزلية، لكنه ليس بريئًا في المطلق، خصوصًا أن الشخصيات التي جسدت بعض الأدوار تعد امتدادًا لجدل دائر في المشهد الإنتاجي السعودي، فهل شخصية المنتِج البديل في هذه الحلقة لا تشابه حسن عسيري، الذي لطالما أثارت انتاجاته جدلًا واسعًا؟
تلميحات خاطفة
في «محافظة مسامير»، حيث ينعدم الاستقرار الذي تفرضه سريالية الأحداث، والتي تصنع منطقها الخيالي الخاص الذي يبدو في محصلته متشائمًا بشدة لكنه مبهج، هناك شاب يريد إيداع أمه المستشفى ولا يجد سريرًا شاغرًا لحالتها المتداعية، فيقول إن لديه تأمينًا «برونزيًا»، وهو لا يغطي بطبيعة الحال الوضع الذي وصلت إليه أمه، لأنه في مرتبة أقل من أن يحصل على تأمين «بلاتينيوم» الأعلى، فيتساءل: «كيف يمكن أن يكون ذلك معقولًا؟ الأصح لأن راتبي أقل أن أحصل أنا على التأمين الأعلى».
في الوقت نفسه يقف جمهور واسع ويهبط طيار من رحلته إلى جدة بالمنطاد، ليصوت في حملة تشخيص «حبة» ظهرت أسفل ظهر شخصية اشتهرت على يوتيوب. قد يطرح هذا النوع من الإسقاطات والتلميحات سؤالًا لطالما أثار مشاهدي هذا النوع من الإنتاج الكوميدي، لا في السعودية فحسب بل حتى على مستوى العالم مع مسلسل «Rick and Morty» مثلًا، وهو: هل هذا العرض موجه لطائفة الأذكياء وحدهم؟
إلا أن الاعتماد على مراجع الثقافة الشعبية من ضمنها اللهجات المنوعة في المسلسل، والرسومات الحية الممثلة لمسرح الحياة اليومي ذات الطابع المحلي، والتمثيلات المباشرة لشخصيات نمطية، مرسومة بإحكام تمامًا، كما لو أننا نميز شخصية بأنها «تسمع شيلات، وتشرب حمضيات، وتفحط، وتميل الشماغ»، إلا أنها هنا لها مميزاتها الخاصة، وأحكامها المتوافقة مع دورها الذي تؤديه.
يطرح العمل مسارات جديدة للاستقطاب داخل المجتمعات ذات الطبيعة الاستهلاكية، فبعد صراع الليبراليين والمتدينين، نشهد صراعًا بين عبيد الكرة وعبيد فرقة BTS الكورية، الأمر الذي يدعو إلى التفكير في الشكل الحديث من الروحانية التي تتوافق مع الطابع الاستهلاكي لكل شيء في عالمنا اليوم، إذ ينتمي الأشخاص إلى معتقدات بديلة للأديان التقليدية، لكن بالحماسة نفسها، ويعتبر هذا الشكل من «الروحانية» الجديدة مجالًا للفعل الاجتماعي، تكون فيه اختيارات الفرد الذاتية ذات أهمية قصوى، وتتوفر الموضوعات التي يرتبط بها بمعنى مفهوم وبسيط وقريب للغاية. وهو موضوع يبدو مهمًا بالنسبة لكتاب العمل، إذ يعاد في استعارات متنوعة منها شخصية النباتي، أو الأشخاص المهووسين بعزلتهم عن العالم الخارجي.
«محافظة مسامير» يعتمد على ما يبدو أنه إسقاطات من أعمال فنية وأدبية أخرى، فمشهد تظهر فيه إحدى الشخصيات القادرة على التأثير في الآخرين بنظرة عينيها فقط، تذكرنا على الفور بمسلسل «Lucifer»، والمشهد الذي تلعب فيه النظرة دورًا حاسمًا في معرفة رغبات الآخرين. وأيضًا تلك الأمثولة التي عادة ما تتكرر كإطار لقصص وأفلام عديدة مفادها أن شخصًا ما يتورط مع جهات بسبب حادث لا يدرك خطورته، حتى أنه لا يدرك أنه ملاحَق في القصة.
محافظة للرجال
تصوَّر «محافظة مسامير» على أنها محافظة للرجال، الممزقين خصوصًا، ولا تظهر المرأة إلا في ما ندر. أطول مشهد لها كان في حلقة «لازورد»، التي مثلت فيها شخصية بنفس الاسم دور أم للأيتام، نكتشف أنها مرتبطة بشبكة غسيل أموال، لكنها تموت على الفور مسممة بزبدة الفول السوداني. السؤال هنا ليس حول تمثيل المرأة في العمل، بل ما يعكسه غيابها عن القصص، وهل هو مقصود؟ خصوصًا أن القصدية هنا قد تعني تلميحًا آخر يود صناع العمل تقديمه إلينا، وهنا يصبح الغياب رمزيًا بدوره، ووسيطًا مهمًا للتعبير عن الواقع الذي قُدم فيه هذا العمل، خصوصًا أن حذق النكات في العمل يوحي بأنها تمثل عدسة مكبرة للهامشيين والمنطويين.
إذا لم تشاهد حلقات «محافظة مسامير» الثمانية، فجهز نفسك لوجبة من الضحك والمشاهدة المستمرة دون توقف إلا مع نهاية الحلقة الأخيرة.
أمل السعيدي