محمود الليثي: صوتٌ لا يهاب أحدًا
«عزيزي المُشاهد، عزيزي المستمع، مع نجم الأغنية الشعبية: محمود الليثي». كانت هذه الجملة الرنانة بصوت فتاة، في بداية تسجيل أغنية «أنا القتيل»، أول تعارف بيني وبين الليثي.
انتشرت الأغنية بشكل غريب وحققت نجاحًا كاسرًا في الأفراح الشعبية في تلك الفترة (2004 - 2006)،، وعند السؤال عمَّن يغني، كانت الإجابة أنه مطرب شعبي جديد من إمبابة، اسمه محمود الليثي.
غريبٌ أن يبدأ مطرب شعبي رحلته الغنائية بالمديح النبوي، ويذهب إلى أحد شيوخ المديح النبوي، العربي فرحان البلبيسي، ويعيد تقديم أغنيته الأشهر «قصدت بابك وغير بابك ما قصدتوش». كانت الأغنية في الأساس مديحًا للنبي، لكنها كانت تليق أيضًا بأجواء قوانين «الصداقة الشعبية» كما يُطلق عليها.
أنا القتيل يا حج عمر
مِن ابن الفارض إلى الإنشاد الديني والمديح، وصولًا إلى الغناء بطريقة شعبية على يد محمود الليثي. كانت جملة ابن الفارض تقول «ما بينَ مُعْتَرَكِ الأحداقِ والمُهَجِ، أنا القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ»، لكنها تحولت مع الليثي إلى «أنا القتيل يا حج عمر». «الحج عمر» سيلازم الليثي لفترة كبير، وربما يكون المُنتِج في ذلك الوقت.
بدأ الليثي يضع بصمته الخاصة، تنويعات صوتية لا يفعلها غيره في سوق الغناء الشعبي كله أو المديح.
تحية للأنبياء والرسل في فرح شعبي
الأغنية التي نقلت الليثي إلى مكانة أكبر كانت «الست لمَّا»، التي قُسمت إلى نصفين، وانتشر الجزء الثاني منها الخاص بالست.
كنت أحضر عُرسًا شعبيًّا لا تقل تكلفته عن الأفراح الخمس نجوم، وكانت كل أنواع الكيف متاحة وموجودة في مساحة لا تقل عن مساحة ملعب كرة قدم، والأعداد مهولة، والكل في ملكوته مع كيفه، ومحمود الليثي يُغني على المسرح.
في تلك الليلة، قرر الليثي أن يغني دون أي موسيقى عالية، فقط موسيقى خفيفة في الخلفية ترافق صوته وتضبط له الإيقاع. كانت أغنية «الأنبياء» من ألبومه الثاني «يا رب»، التي يذكر فيها أسماء الأنبياء بدايةً من آدم حتى يصل إلى خاتم المرسلين محمد، عندما غناها الليثي سكت الجميع وحلَّ الصمتُ على العُرس بكل ما يحمل من ضوضاء، لدرجة أنه غناها مرتين بناء على طلب الناس.
الست لمَّا: المزج الثلاثي
كانت تلك بداية الليثي، قبل دخول عالم السبكي والغناء في الأفلام، والتحول إلى المطرب الشعبي الأول في مصر.
كان ذلك كافيًا كي يصبح الليثي مطربًا شعبيًّا من الدرجة الأولى، لِمَا أحدثه من تجديدات في شكل الأغنية الشعبية، فقد مزج بين ثلاثة أشكال غنائية: الحِكَم والإنشاد الديني والرقص الشعبي، لينتُج شكلًا جديدًا ينفرد به عن كل من سبقوه في الغناء الشعبي، ومن عاصروه كذلك، وهو التحليل القريب مما قاله هاني درويش عن محمود الليثي في كتاب «إني أتقادم - مسارات شخصية في أحراش القاهرة»، الذي نُشر بعد وفاة درويش.
انطلق الليثي كالنار في الهشيم، لا أحد يستطيع تقديم ما يقدمه، لا يقدر أحد على إشعال المسرح و«ترقيص» الجميع مثله.
الأغنية التي نقلت محمود الليثي إلى مكانة أكبر كانت «الست لمَّا»، وعند سماعها من الألبوم، نجدها مقسومة نصفين، وانتشر الجزء الثاني منها الخاص بالست، وهو جزء يطلب فيه الليثي أن يتحدث إلى حبيبته، ويبدأ بالمقطع «بيني وبينك كلام في القلب شايلهولك أنا، رتبته من الأحلام بس مسيري أقولهولك إمتى؟».
مزيج غريب فعله الليثي بين موال أقرب إلى الرومانسية، ينتقل بعده إلى التحدث عن الست بالمفهوم الشعبي، في جملة بسيطة رنانة، وإيقاع شعبي يأسر أذن محبيه. ينتقل من الست إلى زمن الأجداد، فيعبر ثلاث مراحل للإنسان، الحب والاعتراف به، الزواج والعِشرة، ثم الأجداد والأحفاد وفكرة الزمن الجميل.
الليثي والسبكي
شهد فيلم «كباريه» (2008) ظهور الليثي الأول على شاشات السينما، وانطلق بعدها مع السبكي وغيره في ما يقارب 40 عملًا.
سبق سعد الصغير الليثي إلى السينما، لكن محمود استطاع فرض سطوته الغنائية، وتأكيد أنه مطرب شعبي أكثر منه «فقرة شعبية».
صوت الليثي له شخصية قوية، يمكنك أن تميزه وسط مئات الأصوات، له بصماته الغنائية وتأوهات يصدرها بصوته لا يفعلها غيره.
انطلق الليثي كالنار في الهشيم، لا أحد يستطيع تقديم ما يقدمه، لا أحد يقدر على إشعال المسرح و«ترقيص» الجميع مثله.
بعد نجاح الليثي، ظهر عديد من المطربين الشعبيين آملين في جزء من شعبيته، وأصبح نجاح أفلام السبكي مرتبطًا بأغنية الفيلم، التي تكون في الأغلب للليثي، تشاركه كل فترة راقصة أو مطربة جديدة.
تمكن محمود الليثي من تقديم الشكل الغنائي الأقرب إليه، المزج بين الشعبي والصوفي، كأغنية «مولد سيدنا الحسين» في فيلم «الليلة الكبيرة»، وأغنية «زاهد الدنيا» من فيلم «حصل خير»، وأغنية «مدد يا دسوقي» من فيلم «ابقى قابلني».
اقرأ أيضًا: واعمل حساب الشقلبة: الإباحية أصيلة في الغناء المصري
صوتٌ لا يهاب أحدًا
يغني الليثي «صياد» لمحمد رشدي، لكنه لا يهاب قوة صوت رشدي، ولا يهتم بالتوزيع الأصلي للأغنية، يحب الأغنية، لكنه يغنيها بشكله وبصمته هو.
صوت الليثي له شخصية قوية، يمكنك أن تميزه وسط مئات الأصوات. له بصماته الغنائية، وتأوهات يصدرها بصوته لا يفعلها غيره، وهي متماشية معه، لا تشعر أنها دخيلة على صوته، حنجرة يمكن استغلالها لنقل الأغنية الشعبية إلى مكان جديد.
لم يعد بليغ حمدي معنا الآن كي يفعل ذلك، أو محمود الشريف، أو منير مراد، لا يوجد الآن من يصنع مطربًا أو شكلًا غنائيًّا جديدًا، صُنع المال أهم، السبكي استطاع أن يجني مالًا كثيرًا من صوت الليثي، والليثي أيضًا نجح في زيادة رصيده المالي والجماهيري، لكن هل ذلك ما يريده؟ أو بدقة أكثر: هل هذا يكفي صوت الليثي وحنجرته؟
هنا يكمُن السؤال. عندما تسمع الليثي، خصوصًا في البرامج التلفزيونية، تشعر أن حنجرته تريد المزيد، وتصرخ كي يأتي من يُروِّضها، ويُهذبها، مع الحفاظ على شخصية الليثي الغنائية، شخصيته لا يمكن فصلها عن صوته، وعند فصلها يفقد الليثي جزءًا كبيرًا من قدراته.
قدم محمود الليثي أغنية جديدة خارج الإطار الشعبي، «الشمس طلَّة» من ألحان مصطفى شكري وكلمات منة القيعي وتوزيع مهاب مصطفى. يُغني الليثي على موسيقى «تكنو»، فقد كثيرًا من شخصيته هنا، ليس هذا ما يريده الليثي أو محبوه، نحن نحب صوت الليثي الشعبي، بكل ما يحمل من أجواء ومديح صوفي وذِكر وآهات وبصمات مثل «يا حج عمر».
يغني الليثي «صياد» لمحمد رشدي، لكنه لا يهاب قوة صوت رشدي، ولا يهتم بالتوزيع الأصلي للأغنية، يقول بصوته إنه يحب الأغنية، لكنه يغنيها بشكله وبصمته هو. فعل ذلك في بدايته مع أغنية «كان في ولد»، عندما أخذ جزءًا من أغنية «آه ياليل يا قمر» لمحمد رشدي أيضًا، وغناها بكلام مختلف قليلًا، بنكهته الخاصة، فلم ألحظ أنها أغنية رشدي إلا من قريب.
لا يهاب الليثي أحدًا، يغني لعبد الوهاب وعبد الحليم والنقشبندي، يغني لأنه يحب الغناء، ويَعلم قدراته، ويعلم أن السر في طريقته وأدائه، لا يترك لأحد أن يؤثر عليه.
أي مطرب شعبي يخشى الاقتراب من العمالقة، يخشى أن يخونه صوته فيخسر أكثر مما يكسب، لكن الليثي لا يفكر في كل ذلك، «أنا أحب الغناء على طريقتي»، فيجمع جزءًا من أغنيتي «على قد الشوق» لحليم و«قلبي بيقوللي كلام» لعبد الوهاب، ويغنيها في شكل موال بعيد تمامًا عن التوزيع الأصلي، ثم تجده يكمله بأغنية جورج وسوف «لو نويت»، والغريب أنك لا تشعر بشيء دخيل ها هنا.
محمود الليثي واحد من أهم الأصوات الشعبية، ولو كنا في زمن سابق لرأيناه بشكل أفضل بكثير، كان يمكن أن يصنع لنا أغانٍ تصير علامات في الموسيقى الشعبية، لكن لا يوجد مَنْ يصنع مطربًا وفنًّا يليق بالأغنية الشعبية الحقيقية، فلم يلتفت أحد لصوت وشخصية الليثي حتى الآن.
شريف حسن