مهرجان الخرطوم للعود: نظرة أمريكية للموسيقى عند ملتقى النهرين

غابرييل ﻻفين
نشر في 2017/08/10

الصورة: Wissam Joubran

تعديل بتاريخ 29 يونيو 2018: كتب هذا المقال عازف العود الأمريكي «غابرييل لافين»، ونُشِر على موقع «Oud Migrations»، وترجمه فريق «منشور».


ترتبط آلة العود عادةً بالثقافات الموسيقية للشرق الأوسط، لكن هل هي آلة إفريقية كذلك؟ وهل يمثل العود حلقة وصل بين العالم العربي وحضارة جنوب الصحراء؟ كانت هذه الأسئلة موضوعًا للمناقشة في مهرجان الخرطوم الثاني للعود في فبراير 2017، الذي كان مدعومًا من مجموعة «DAL»، وهي تجمُّع لشركات سودانية خاصة.

هدف المهرجان إلى رفع الوعي بإسهامات السودان المتعلقة بالعود، فاستقبل لاعبي العود من العالم العربي والولايات المتحدة الأمريكية، وهو السبب الذي استقبلني لأجله. وإضافةً إلى ذلك، استقبل المهرجان لاعب العود العراقي الشهير نصير شمة، وجاء مع فرقته التي ضمت موسيقيين من البرازيل وأوروبا وأمريكا.

العود في السودان: تاريخ طويل

معزوفة للموسيقار برعي محمد دفع الله على العود

ظل السودان لفترة طويلة من تاريخه ممزقًا بين الهويتين العربية والإفريقية، وهو انقسام أيديولوجي لا يزال مفصليًّا في الصراعات المستمرة من أجل السلام والعدالة والوحدة الوطنية، لكن المهرجان سعى رغم ذلك إلى إبراز العلائق الثقافية التي تربط السودان بإفريقيا والعالم العربي وغيرهما، عن طريق العود، بدلًا من التشديد على الانقسامات الثقافية الداخلية التي أحدثتها السياسة.

هدف المهرجان كذلك إلى إعطاء مزيد من التشجيع لجيل متحمس من شباب الموسيقيين السودانيين، كي يستمروا في لعب العود.

يرتبط انتشار شعبية العود بسياسات التعريب التي لجأت إليها الحكومة السودانية بعد استقلالها عن مصر، في ظل الهيمنة الثقافية للأخيرة.

بحسب مؤرخ الموسيقى السوداني محمد سيف الدين علي، عرف السودان العود لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر، في أثناء الحملة البريطانية-المصرية ضد الثورة المهدية في الخرطوم.

ضم الجيش البريطاني آنذاك جنودًا مصريين وسوريين وأتراك، بالإضافة إلى البريطانيين ومجموعة من الجنود السودانيين، الذين كان أول لاعبي العود في السودان واحدًا منهم. وبحسب دراسة سيف الدين علي للتاريخ الشفهي والحكايات الشعبية، كان اسم الرجل محمد تميم.

يمكن الإشارة كذلك إلى السن الصغيرة التي بدأ بعض لاعبي العود مسيرتهم فيها، مثل أحمد مصطفى المولود عام 1926، وبرعي محمد دفع الله المولود عام 1927، كدليل على حضور الآلة في وسط السودان بين بواكير ومنتصف القرن العشرين. إضافةً إلى ذلك، يمكن العودة إلى الأرشيف الخاص بالراديو السوداني، الذي افتُتحت أولى محطاته عام 1940، ويحتوي على مجموعة كبيرة من تسجيلات لاعبي العود الذين كانوا في الخرطوم آنذاك.

ازدادت شعبية العود في الخرطوم والمناطق المجاورة باطِّراد عقب استقلال السودان عن مصر عام 1956، ويشير سيف الدين علي إلى إنشاء مجموعة من معاهد الموسيقى في الخرطوم كسبب لهذا التزايد، وكانت هذه المعاهد متأثرة بالتأكيد بمثيلاتها في القاهرة.

ألَّف كثير من لاعبي العود السودانيين أغاني تداعب الشعور الوطني قبل الاستقلال، وثَمَّة ارتباط مؤكد بين انتشار شعبية العود وسياسات التعريب التي لجأت إليها الحكومة عقب الاستقلال، في ظل الهيمنة الثقافية لمصر.

لا يعني هذا أن السودانيين استنسخوا المقامات والإيقاعات المصرية أو العربية، فبالنسبة إلى كثير من الموسيقيين، لا يتميز لعب العود في السودان أساسًا إلا بلجوئه إلى مقامات وإيقاعات سودانية حصرًا، ويُشار في هذا السياق إلى السلم الخماسي تحديدًا كنموذج لحيود الموسيقى السودانية عن المقامات العربية التقليدية، إذ يحمل إشارة إلى الصلات الثقافية التي تربط السودان بعمق إفريقيا.

اقرأ أيضًا: العود الهندي في الكويت: بحثًا عن آلة غامضة عرفها الخليج العربي ثم نسيها

تفرُّد العود السوداني

 الدكتورة أريزة الأمين تعزف على العود

يطمح نصير شمة لإقامة فرع لبيت العود في الخرطوم، بمساعدة السودانيين الذين تخرجوا مؤخرًا في فروع أخرى للبيت.

يقسِّم الموسيقيون العرب مدارس لعب العود بحسب الجغرافيا إلى مدارس العراق، وشمال إفريقيا، وتركيا، والخليج العربي، ومدرسة تجمع الشام ومصر، ولكل واحدة من هؤلاء خصائصها التقنية واللحنية والإيقاعية. وبنفس الطريقة، يعتبر كثير من الموسيقيين والباحثين السودانيين السلم الخماسي خاصية مميِّزة للمدرسة السودانية في العود.

يشرح الباحث والمؤلف الموسيقي، الدكتور كمال يوسف، أن السلم الخماسي المشهور في وسط السودان تطور جنبًا إلى جنب مع التقليد الموسيقي للقرن العشرين، عندما انتقل عدد كبير من لاعبي العود السودانيين إلى الخرطوم.

وبعكس ما حدث في أماكن أخرى من العالم العربي، الذي أسس المقام الموسيقي كعلم له أصوله، لم يوضع السلم الخماسي السوداني في صيغة أكاديمية موحدة، رغم جهود الباحثين السودانيين الذين أشاروا إلى حضور صور مختلفة للسلم في الموسيقى الشعبية والجماهيرية لوسط السودان.

يبقى السلم الخماسي مع ذلك علامة مميزة لموسيقى العود السودانية، وقد استطاع بالفعل لفت أنظار موسيقيين آخرين من العالم العربي، مثل الفنان نصير شمة مؤسس «بيت العود»، وهو معهد لتدريس الآلة له فروع في مصر والإمارات والجزائر، وسينشئ فرعًا جديدًا في بغداد، بحسب تصريح صحفي لشمة في الخرطوم يوم 26 فبراير 2017.

يطمح شمة كذلك إلى إقامة فرع جديد في الخرطوم بالتعاون مع «DAL»، وبمساعدة السودانيين الذين تخرجوا مؤخرًا في فروع أخرى لبيت العود.

حقق شمة شهرة واسعة في العالم العربي بلعبه المميز للعود، الذي يُظهر تأثرًا بتقنيات الغيتار. وكان بيت العود مساحة مفتوحة لشباب الموسيقيين منذ تأسيسه في القاهرة عام 1997، واحتضن كذلك الكثير من الموسيقيات النساء اللاتي رغبن في لعب الآلة، رغم الضغوط والوصم الاجتماعي المحيط بنشاطهن الموسيقي، وبالعزف خصوصًا.

استقبل مهرجان الخرطوم اثنين من السودانيين الذين تخرجوا حديثًا في بيت العود بالقاهرة، هما مجاهد خالد وعبده إبراهيم، اللذين حصلا على منحة للدراسة في بيت العود لمدة ثلاث سنوات بعد فوزهما في مسابقة أجراها مهرجان الخرطوم الأول في فبراير 2013. وحصلت على نفس المنحة لاعبة عود أخرى فازت في المسابقة كذلك، هي أريزة الأمين، التي لم تستطع المشاركة في مهرجان 2017 للأسف.

لعب خريجو بيت العود في المهرجان معزوفات في السلم الخماسي المميِّز لموسيقى العود السودانية، لكنهم دمجوها بتقنيات العزف التي اشتهر بها نصير شمة، وبألحان «السولو» المعقدة المميِّزة للمدرسة العراقية.

قد يعجبك أيضًا: كيف طارد باحث أمريكي «فن الصوت» في الكويت؟

قال مجاهد خالد، محدثًا جمهور المهرجان، إن الدراسة في القاهرة كانت مثل برنامج للتبادل الثقافي، إذ لم يكن يعرف الكثير عن المقامات العربية، بالنظر إلى قضائه معظم عمره يلعب موسيقى السلم الخماسي التي نشأ عليها، لكنه أصبح خبيرًا بالمقامات مع الوقت، وفي المقابل وجد اهتمامًا من زملائه المصريين بالموسيقى السودانية والسلم الخماسي.

استقبل المهرجان كذلك اثنين آخرين من خريجي بين العود السودانيين، أشرف عوض ومازن الباقر، اللذين يدمجان الموسيقى السودانية بأساليب موسيقية مختلفة في عزفهما وتدرسيهما للعود.

مهرجان الخرطوم: أجيال من لاعبي العود السودانيين

عوض أحمودي يعزف على العود

كان مهرجان الخرطوم الثاني متأثرًا ببيت العود بوضوح، نتيجة اشتراك نصير شمة وتلاميذه، لكنه حاول مع ذلك إدماج الأجيال الأقدم من الموسيقيين ولاعبي العود أصحاب الأساليب الفريدة، الواقعين خارج دائرة تأثير شمة، ومن هؤلاء مجاهد عمر وعلي زين وعوض أحمودي.

يتميز أسلوب علي زين، وهو أستاذ موسيقى ومدرس عود، بتأثره بتقنيات الغيتار، فيستخدم بعض وضعيات الأصابع المستوحاة من عزف الغيتار كي يلعب مقامات في الأوكتافات الأعلى، مثبتًا يده عند بداية رقبة العود (لوحة الأصابع) قرب الصندوق.

ربما كان عوض أحمودي كذلك من أهم زوار المهرجان بعد نصير شمة، وقد طور أحمودي، وهو عازف كفيف، أسلوبه الخاص في الإمساك بالريشة كما لو كانت قلمًا، إذ يضعها بين أصابعه السبابة والوسطى والإبهام، ويضرب على الأوتار كأنه يضرب بالسن، وهو ما نستطيع رؤيته في مقطع الفيديو هذا مثلًا.

ورغم أن عوض أحمودي مغنٍ، فإنه يشتهر بعزفه ألحان الأغاني السودانية المعروفة دون كلماتها، بالإضافة طبعًا إلى أعماله الخاصة، وأدى تركيزه على الموسيقى إلى نظر كثيرين إليه باعتباره مصدرًا للإلهام ربما يؤدي إلى تبلور مدرسة سودانية للعب العود.

قدم المهرجان كذلك، بين العروض وفي الاستراحات، مقطوعات عُزفت باستخدام آلات سودانية تراثية، مثل الطنبورة، وهي آلة شبيهة بالقيثارة (الهارب).

كان لاعبو هذه المقطوعات من أعضاء مركز الموسيقى التقليدية السودانية، وهو مؤسسة تنظم العروض والحفلات ولها متحف للآلات الموسيقية في أم درمان، وتقدم إضافةً إلى ذلك دروسًا عن الآلات السودانية باستخدام الطرق التقليدية في التدريس الشفهي، وزُرتُ المركز مع أشرف عوض والدكتور كمال يوسف قبل رحيلي عن الخرطوم بساعات.

كيف التقت الثقافات المختلفة للعود في السودان؟

لقطات من مهرجان الخرطوم للعود

كان مدير المركز، دفع الله حاج علي، يفرغ شاحنة مليئة بالآلات الموسيقية مع بعض الرجال، وكانت هذه الآلات عائدة للتو من مسرح أم درمان حيث استُخدمت للعزف، واشتملت على مجموعة منوعة من الطبول وآلات النفخ والوتريات، وفيها أنواع مختلفة من آلات العود والكمان، في صورة واضحة للتنوع الثقافي الهائل في السودان.

أخذنا دفع الله في جولة بالمركز، رأينا فيها كمية أكبر من الآلات، وشرح لي كمال يوسف أن العود يمكن اعتباره آلة موسيقية تقليدية، وبالنظر إلى الانتشار الكبير لآلات مثل الطنبورة، وهي أرخص في صناعتها وأسهل في الحفاظ عليها، يُعد العود آلة قيمة حقًّا في السودان.

ربما تدلنا هجرة العود إلى السودان على أن نقاط التقاء الثقافات المختلفة ليست بالضرورة ساحات للنزاع، حتى في المناطق المأزومة.

توقفنا قبل زيارة المركز عند بيت المغني والمؤلف وعازف العود الشهير، الفنان أبو عركي البخيت، الذي عزف لنا بعض أغانيه الجديدة وعرض أسلوبه المميز في اللعب، فبدل استخدام الريشة، يضرب البخيت الأوتار بإبهامه ويستخدم تقنيات العزف بالأصابع.

يقول أبو عركي إنه يفضل الصوت الناعم والدافئ الصادر عن ضرب الوتر بالإصبع مباشرة. وتتميز كلمات معظم أغانيه بطابع سياسي، يتحدث فيها عن المصاعب التي يواجهها كثير من السودانيين بسبب تدهور البنية التحتية والحرب والنزوح، وتحمل أغنياته طموحًا إلى السلام والوحدة في وطن تمزقه الهويات السياسية المتصارعة. يمكن الاستماع إلى أعماله هنا وهنا.

عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، القادمين من أوغندا وإثيوبيا، تقع الخرطوم والمناطق المجاورة لها كمفترق طرق حضاري وثقافي، ولعل هذا من بين الأسباب التي عانى لأجلها السودان صراعًا عنيفًا على الهوية منذ الاستقلال، الأمر الذي أدى بموسيقيين مثل أبي عركي إلى خلق أساليبهم الموسيقية الخاصة.

في الوقت نفسه، ربما تدلنا هجرة العود إلى السودان على أن نقاط التقاء الثقافات المختلفة ليست بالضرورة ساحات للنزاع، حتى في المناطق المأزومة، بل على العكس من ذلك، بدت العوالم المتداخلة للعود في مهرجان الخرطوم كنقطة للتفاعل والإبداع، تؤسس نموذجًا لما يجب أن تكون عليه العلاقات المستقبلية بين إفريقيا والدول العربية والعالم.

غابرييل ﻻفين