جون لينون.. «أكثر شهرة من المسيح»
في عام 1971، أطلق «جون لينون» أغنية «تخيل» (Imagine) ذات الكلمات السلسة، يرافقها إيقاع غيتار هادئ وعزف بيانو رخيم، لتبقى بقدرتها نفسها على الإمتاع، بعد 45 سنة من إطلاقها، ويبدو «لينون» فيها محاكيًا لمخيلة المستمع أكثر من عقله الواعي، حين يقول في مقدمتها:
«تخيّل أن ليس هناك جنة
من السهل لو تجرّب
ليس هناك جهنّم تحتنا
وفوقنا فقط السماء
تخيّل أن كل الناس يعيشون من أجل اليوم»
إن بساطة هذه الأغنية، وقدرتها على خلق رابط خفي بين المستمعين و«لينون»، تحت مظلة المساواة المطلقة التي تتخطّى الحكومات، والحدود، والديانات، والطبقات الاجتماعية، هي السبب في جعلها حيّة كل ذلك الوقت، ففي كل مرة تستمع إليها، تشعر كأنّها دعوة موجّهة إليك أنت شخصيًا، لتغدو جزءًا من الحلم الأزلي الذي يعيد إحياءه لك «لينون»، فتجده يردّد في الأغنية:
«بإمكانك أن تقول إني حالم
لكنّي لست الوحيد
آمل أن تنضمّ إلينا يومًا
وسيصبح العالم متّحدًا»
كتب جون هذه الأغنية في أعقاب الحرب الأمريكية على فيتنام، كجزء من حركة ثورية سلمية بدأها ضد بروباغندا الإقصاء الدموي التي نادت بها الحكومة الأمريكية في بدايات السبعينات، فكانت ترنيمة السلام المُثلى وسط كل تلك الصراعات، لخلوّها من العنف، وبساطتها المفرطة التي جعلتها قابلة للاستماع وقت الظروف الصعبة في كل زمان ومكان، لذا تحتلّ المرتبة الثالثة ضمن قائمة «رولينغ ستون» لأفضل 500 أغنية خالدة في تاريخ الموسيقى الأمريكية.
جون والبيتلز
قبل «تخيّل» بأربع عشرة سنة، كان «جون لينون»، 16 عامًا، مغنّي «روك آند رول» طموحًا، يؤدي وصلة غنائية في إحدى حانات ليفربول مع فريق «ذا كواريمان»، وكان «بول مكارتني»، 15 عامًا، أحد الحاضرين في تلك الليلة.
مَن ينسى الصورة الأيقونية لأربعة شباب ممتلئين نشاطًا وحياة، يجوبون العالم ببدل فاخرة، وقصّة شعر مدوّرة؟
في أثناء محادثة التعارف بين الاثنين، اكتشف جون أن شغف الموسيقى وعشق أساطير «الروك آند الرول» الذي جمعه ببول، كافٍ ليعمل الاثنان معًا في فريق واحد، وبالفعل طلب «ذا كواريمان» من بول الانضمام إليهم عضوًا دائمًا، وبعدها بسنتين كان جميع أعضاء الفريق الأصلي، باستثناء جون وبول، قد تركوا الفرقة.
في هذه الأثناء، التقيا بعازف الغيتار «جورج هاريسون» عام 1959، وتم الاتفاق على تغيير اسم الفريق إلى «البيتلز»، وفي 1962 كان آخر المنضمين للفريق عازف الطبول «رينغو ستار».
ظلّ أعضاء البيتلز بعدها متماسكين على مدى عقد كامل، استطاعوا خلاله قلب مقاييس الثقافة الشعبية في الستينات، واختراع قالب جديد لموسيقى «الروك آند رول»، فمن ينسى الصورة الأيقونية لأربعة شباب ممتلئين نشاطًا وحياة، يجوبون العالم ببدل فاخرة، وقصّة شعر مدوّرة، لنشر أفكارهم الخاصة عن الحب والحرية والمساواة والألم والخسارة؟
ورغم نجاحات الفريق، فإن جون ظلّ يعاني من طمس هويته خلال وجوده ضمن «البيتلز»، ففي الوقت الذي كان يتوق فيه لإظهار هويته الخاصة والتعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية والفنية بلا قيود، كان مدير الفرقة «براين إيبستين» يرى أن قوة الفريق تكمن في ترويج صورة الشاب البريطاني مرتّب الشكل ومهذّب الأسلوب، ليلقى تفاعل أكبر عدد ممكن من المعجبات، ففرض على أعضاء الفريق ارتداء البدل الرسمية المطرّزة، مع توحيد قَصّة الشعر، وقمع حرية جون فترة طويلة، اضطرته لإخفاء زواجه الأول من زميلته في الجامعة «سينثيا»، حفاظًا على قاعدة المعجبات التي حاز عليها الفريق اليافع.
جون و الدين: «نحن أكثر شهرة من السيد المسيح»
مرّ جون بتحولات دينية عديدة خلال حياته، ففي طفولته عُمِّد مسيحيًا وفقًا للمذهب الأنجليكي/الأسقفي، لكنه مع ذلك مُنع من زيارة كنيسة الرعية عندما أصبح مراهقًا، لضحكه بصوتٍ عالٍ خلال إحدى الخطب.
أنا لا أعرف من سيذهب أولًا؛ موسيقى الروك آند رول أم المسيحية؟
ربما لم ينس «لينون» تلك الحادثة، لأنها أشعرته بالمهانة أمام أقرانه، فكبر مشككًا بالمسيحية، وطوّر حسًا ساخرًا في تناولها، لذا عند سؤاله عن رأيه فيها كديانة، أطلق بيانه الصحفي الشهير:
«ستتقلص المسيحية مع مرور الوقت حتى تتلاشى تمامًا. أنا لست بحاجة إلى أن أجادل في ذلك. نحن أكثر شهرة من السيد المسيح الآن. أنا لا أعرف من سيذهب أولًا؛ موسيقى الروك آند رول أم المسيحية».
قامت الدنيا ولم تقعد بعد هذا البيان، وأشعلت الكنائس النار في اسطوانات «البيتلز»، كما وصلت جون مئات رسائل الغضب من الناس مطالبين بالاعتذار والتراجع عن هذا التصريح.
ولعلّ هذا الموقف يوضح لِمَ أصبح جون أيقونة جيله في حرية التعبير؛ لقد كسر قالب الموسيقي التقليدي، فقبله لم يكن للموسيقي هذا التأثير في الثقافة الشعبية، وفي كثير من الأحيان، كان الممثل والمغني يضطر لإخفاء هويته أو تدقيق بياناته الصحفية؛ لإرضاء الصورة التي يطلبها مديرو الأعمال التقليديون، كما كان مفروضًا عليه من قبل «إيبستين».
جون والعراف: «لقد كسرتَ القوانين»
بحلول عام 1968، سافر جون وبقية أعضاء الفريق إلى الهند، في «رحلة روحانية»، بحثًا عن إجابات لأسئلة وجودية شغلت بالهم، وقادهم هذا البحث إلى العرّاف الهندي «المهاراشي ماهيش يوغي»، الذي طوّر تقنية «التأمل التجاوزي» (Transcendental Meditation) للوصول إلى السلام الداخلي.
وفي مدينة «ريشيكيش» بالهند، أخذهم «المهاراشي» في رحلة لعالم روحاني خاص جدًا، أثر بشكل كبير على موسيقى «البيتلز» في تلك المرحلة، ومنها أغنية «حول الكون» التي يرددون فيها بعض الترانيم المستوحاة من الطقوس الهندية، بينما كتب جون أغنية «سايدي المثيرة» مشيرًا إلى التحرش الذي تعرضت له إحدى مرافقات الفريق من قبل المهاراشي، أو «سايدي»، كما أشير إليه في الأغنية، فكانت تلك طريقة جون في التعبير عن استيائه من استغلال العرّاف للفريق للوصول إلى الشهرة، ومن ضمن الكلمات: «ماذا فعلتِ يا سايدي المثيرة؟ لقد جعلتِ من نفسك أضحوكة.. لقد كسرتِ القوانين».
جون و يوكو: الحل في الجنون
في عام 1970، كان الفريق قد تفكك بسبب تراكم المشكلات، وأولها وفاة مدير أعمالهم بجرعة مخدر زائدة، وتدخل «يوكو أونو» (زوجة جون لينون الجديدة) في اختيارات الفريق الموسيقية، وصولًا إلى سرقة «بول مكارتني» الأضواء من بقية أعضاء الفريق؛ كونه كاتب كلمات معظم الأغاني الأكثر شهرة في سوق الأغاني المنفردة، فآثر جون أن يكون أول من يترك الفريق عام 1969، لينشئ فرقته الخاصة مع «يوكو» بعيدًا عن «البيتلز».
جون الذي كان يبحث عن ذاته فترة طويلة، وجد ضالته في روح «يوكو» الحرة.
إلى اليوم تُعرف «يوكو» بالفتاة الآسيوية غريبة الأطوار التي تزوجت جون في قمة عطاء الفريق، لتنتهي أسطورة «البيتلز» إلى الأبد. لكن في الحقيقة، كان هناك سبب فعلي لانجذاب مبدع مثل جون إلى «يوكو» المستقلة التي كرّست حياتها لـ«فن الأداء»، عبر اللوحات التعبيرية التي تحب أن تؤديها في معارض الفنون في العالم؛ لنشر رسائل السلام والحب للعامة، فجون الذي كان يبحث عن ذاته فترة طويلة، وجد ضالته في روح «يوكو» الحرة.
ظهر تأثير «يوكو» على جون بعد مرور 5 أيام من زواجهما، باشتراك الاثنين في لوحة تعبيرية تدعى «السلام في السرير» عام 1969؛ حين دعيا الصحافة ووسائل الإعلام إلى جناح ملكي في «هيلتون أمستردام»، للنقاش بشأن السلام لمدة 12 ساعة.
وبصمات «يوكو» واضحة بشكل كبير على فن «لينون» في مرحلة ما بعد «البيتلز»، ففي عام 1970 أصدر ألبومًا غنائيًا معها اسمه «جون لينون وفرقة أونو البلاستيكية»، يحوي خليطًا من موسيقاه الهادئة، وموسيقى «يوكو أونو» التجريبية، لاقى نجاحًا كبيرًا على مستوى النقاد، واعتُبر أحد أفضل ألبومات العام، ورأى أحد النقاد الموسيقيين أن أداء جون للمقطع الأخير من أغنية «God» الموجودة ضمن أغاني الألبوم، من أفضل ما قيل في تاريخ موسيقى «الروك آند رول».
المجتمعات تديرها مجموعة مجانين لأغراض مجنونة.
استخدم جون هويّته كأحد المشاهير للترويج لرسالة السلام التي تبنّاها طول فترة السبعينات، عن طريق ثمانية ألبومات، من ضمنها رائعته «تخيّل» و «أعط السلام فرصة» و«عيد ميلاد سعيد (انتهت الحرب)». كما أنه بات أكثر جرأة عن ذي قبل، وعبّر في وسائل الإعلام لصالح قضيته الأولى والأخيرة؛ فانتقد ضمن لقاءاته الصحفية الحكومات بشكل أساسي، وذكر أن المجتمعات تديرها مجموعة مجانين لأغراض مجنونة.
يقول جون في واحد من بياناته الصحفية: «هناك عدّة طرق لمحاربة الحكومات، لكن الطريق الأفضل هو السلام، بإمكانك أن تستخدم السلاح ضدهم دومًا، لكنك ستخسر الكثير، وسينتصرون حتمًا، فلقد كانوا دومًا متقدمين عليك بالأسلحة، إنهم يعرفون قوانين لعبة العنف، وينتظرون أن تقوم بخطوتك كي يتخلّصوا منك، وكلّما سببت شغبًا سيتعرفون عليك ويقتلونك».
السلام إلى الأبد
في مساء الثامن من ديسمبر عام 1980، الساعة 10:50، سكت جون عن الغناء للأبد، بعدما أطلق عليه أحد معجبيه المهووسين، ويدعى «مارك تشابمان»، أربع طلقات نارية متفرّقة في ظهره أردته صريعًا، خلال خروجه من استوديو التسجيل ليتهيأ لإصدار أغاني ألبومه الجديد، غير عالمٍ أن حياته ستنتهي بالطريقة ذاتها التي تنبأ بها. وحين سُئل «تشابمان» عن سبب ما فعل، قال إنه كان يستمع إلى موسيقى «جون لينون»، ويغضب كثيرًا كلّما تذكر أنه لا يؤمن بالرب، ولا بقوة «البيتلز».
واليوم، بعد 36 عامًا من وفاة جون، ما زال إرثه الموسيقي كافيًا لإلهام أجيال من الموسيقيين ودعاة السلام، لذا أعاد عشرات المطربين في العالم إحياء أغانيه بأصواتهم، وفاءً لذكراه ورسالته الخالدة، ولكن تبقى «تخيّل» الأغنية المفضلة لدعاة السلام وقادة الدول. وقد ذكر الرئيس الأمريكي الأسبق «جيمي كارتر»، في كتاب «تخيل: قصة أغنية»، أنه زار 125 دولة في العالم، وفي كل مرة كانت الدول تعزف نغمات «تخيّل»، كانت قوتها تعادل الأناشيد الوطنية.
غنّى جون للحب في أثناء وجوده ضمن «البيتلز» في «كل ما تحتاج إليه هو الحب»، وظلّ بعد «البيتلز» يدعو للسلام والمساواة في «تخيل» و«أعطِ السلام فرصة». لقد بدأ جون حركة سلمية لن تتوقف إلا بانتهاء الحروب جميعها، وستظل موسيقاه حيّة طالما وُجِد الألم.
سحر الهاشمي