عن إسماعيل فهد إسماعيل الذي لا يرحل تمامًا

سعد الياسري
نشر في 2021/09/25

الصورة: @AlaanNews - التصميم: منشور

نصافح ذكرى إسماعيل فهد إسماعيل فيأخذ بأيدينا نحو لحظته الغامضة، لأنه لا يرحل تمامًا، ولأنه وفيٌّ للمغامرة. يبدو مدججًا بالتجربة، مستأنسًا بخلود المقيم بين ثياب الخيال ودفتر العاطفة. ولا يرحل تمامًا؛ لأنه سيولد مرة أخرى مع كل ريشة طائر يخفق بجناحين أمام مروية البحر والبادية وما بينهما. نصافح ذكراه موقنين بأنه سيعيش طويلًا، كأطول نصوص هذا الخليج، وأكثرها احتفاء بلحظاته الصاخبة.

تحت ظلال نخيل البصرة

الصورة: @mobashernewss

«يا بشرى، هذا غلام!»، هتفت القابلة تزف ولادته لأشياخ قرية السبيليات، فاستبشروا، بينما يدخنون التبغ والضجر في لفافة واحدة، بهذا الذي سيكتب شقاء مصائرهم بعد سبعين عامًا، وُلد غلام وأضاء نجم شمالي في سماء القرية. كان ذلك في شتاء عام 1940، ثم طاف النبأ الشتوي بساتين أبي الخصيب بأسرها.

بعدها، سيبلغ الغلام فتوته ويلاعب في صباه الريح والماء والحجر وسعف النخيل، وسيصاب بحمى الحروف قارئًا وحكواتيًا بسيطًا في نشأته المنزلية الآخذة بأسباب التثاقف في واقع المجتمع المتردي ثقافيًا وطبقيًا وقتذاك. ثم سيشتد عود الفتى شابًا قابضًا على جمر لحظته اليسارية الطازجة. وفي وقت ما سيؤازره طالع من نجم مولده ذاك، ليسري به جنوبًا، آخذًا إياه من فيء ظلال نخيل بصرة العراق، حيث وُلد من قبله السياب والبريكان وسعدي يوسف، وحيث قضى أولى سنيِّه وجرب دهشته وبراءته وطبيعة الأشياء من حوله.

إلى حيث الـ«هو يامال»

الصورة: @WatanNews

استقر إسماعيل فهد إسماعيل في الكويت، وفيها أحب وعاش وكتب، وفيها درس الفنون المسرحية، وفيها بدأ عمله في سلك التعليم، وفيها كتب قصته الأولى، وفيها كتب روايته الأولى، وفيها تفرغ للعمل الأدبي بشكل نهائي، ومنها هاجر إلى معتزله الآسيوي في الفلبين بعد التحرير، ليكتب شهادته على شهور الاحتلال السبعة في «سباعيته»، وإلى الكويت اختار أن يعود بعد ذلك ليعيش فيها حتى آخر أيامه من خريف عام 2018.

في الكويت تجسدت رؤيته الإبداعية، حيث آمن بأن الإبداع فعل نقي قادر على تغيير الواقع أو تقويمه، فإن تعذر فهو قادر على الإشارة إلى خلله على الأقل. كما آمن باليسار والعدالة الاجتماعية، فكانت كتاباته، في ما يخص السردية الكويتية، قريبة من حاجات الناس وتطلعاتهم.

في رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» عام 2012، يسلط الضوء على ما يعرف بـ«قضية الكويتيين البدون»، عبر بطلها المنسي بن أبيه، وهي أحد أهم أعماله والأوسع شهرة على الإطلاق، وتشير بشكل أو بآخر إلى معاناة هذه الفئة ومظلوميتها.

كذلك تحضر رواية «بعيدًا إلى هنا» 2014، التي تتناول طبيعة المجتمع الكويتي الممثل في عائلة كويتية، وتأثيرها على حياة العمالة المنزلية الممثلة في عاملة من سريلانكا، لترصد بعض تحديات هذه الطبيعة الاستهلاكية ونتائج العلاقة بين هذين العالمين الطبقيين.

أما في رواية «طيور التاجي» 2016، فإنه يتناول ما عرف بـ«قضية الأسرى الكويتيين» في العراق، وتختلط فيها معاناة الكويتي الأسير بمعاناة العراقي المغلوب على أمره في ظل النظام السابق. ثم رواية «الظهور الثاني لابن لعبون» 2016، والتي يطغى عليها أسلوب الاستدعاء والاسترجاع لاستعادة كويت بدايات القرن الماضي، بمنظور استشراقي تارة وبعين المراقب الفطن أخرى؛ وصولًا إلى تشخيص تغيرات هائلة طرأت على البلاد خلال تلك الفترة.

العزلة الكويتية

الصورة: كونا

من المهم القول إن «السباعية» التي أشرنا إليها آنفًا (وهي رواية بسبعة أجزاء حملت عنوان «إحداثيات زمن العزلة» 1996، وكل جزء منها في كتاب مستقل حمل عنوانًا خاصًا) عمل يصلح أن يسمى، دون مبالغة، تاريخ الكويت خلال فترة الاحتلال (أغسطس 1990 - فبراير 1991). فهي بالإضافة إلى كونها عملًا أدبيًا بارزًا ومغايرًا يمتد على قرابة 2500 صفحة، فإنها شهادة حية، بل شهادات، معجونة بالتحديات والأسى السياسي والنفسي والمجتمعي لفرد تحت الاحتلال؛ يقاوم بأكثر من طريقة ويقرأ الكارثة بأكثر من بعد، وينتظر مع نهاية المطاف سيرة «العصف».

اللحظة العراقية

يحتل إسماعيل فهد إسماعيل مكانة مرموقة في مخيلة القارئ العربي على امتداد الجغرافيا الناطقة باللغة العربية، لعدة أسباب أهمها أنه اقترب من قضايا الداخل العربي كما لم يفعل غيره.

إذا ما كانت «السباعية» تتحدث عن فترة التوتر بين الكويت والعراق، فلقد استطاع إسماعيل فهد إسماعيل، وبشكل لافت، التعامل مع المسألة العراقية الشائكة في المخيال الجمعي الكويتي بطريقة متوازنة وناضجة على الدوام.

إن بعض أعماله الأولى كانت تَسبح في الأجواء العراقية السياسية والاجتماعية بامتياز، ومنها على وجه الخصوص رباعيته الشهيرة «كانت السماء زرقاء» 1970، «المستنقعات الضوئية» 1971، «الحبل» 1972، «الضفاف الأخرى» 1973). وكذلك الأمر مع روايته المؤثرة «السبيليات» 2015، تلك التي تجري أحداثها في مسقط رأسه في قرية السبيليات من قرى قضاء أبي الخصيب جنوبي البصرة في العراق؛ والتي تتعرض للإخلاء الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) كمنطقة داخلة في نطاق العمليات العسكرية. «السبيليات» عمل صادق، يحاول عبر بطلته أم قاسم أن يجهز لحظة واحدة بكل أسباب الحياة في جغرافيا تموت على مهلها.

أوراق النيل

أرّخ إسماعيل فهد إسماعيل صراعات مماليك مصر عقب زمن الحملة الفرنسية عليها. لقد كانت «ثلاثية النيل»، وكل جزء منها حمل عنوانًا فرعيًا مستقلًا، مفتاحًا لدخول الراحل الكبير إلى الأجواء المصرية عبر الاشتغال على شخصية مراد بك، حاكم مصر وقتذاك، كرمز لمرحلة من الطغيان والإقطاع. ولعل أهم ما يميز هذا العمل هو تداخل بنائه السردي، واشتباك الحس التاريخي للمؤرخ (الجبرتي) الذي استُثمر في العمل مع الحس الروائي لإسماعيل فهد إسماعيل؛ مما جعلها مغامرة سردية دون شك.

إسماعيل الفلسطيني

الصورة: كونا

يحتل الراحل الكبير مكانة مرموقة، ولائقة، في مخيلة القارئ العربي على امتداد الجغرافيا الناطقة باللغة العربية، لعدة أسباب من بين أهمها أنه اقترب من قضايا الداخل العربي كما لم يفعل غيره، وكما لو كانت رسالته باختصار: سرد محايد لكنه نافذ إلى العمق. أو كما لو كان يعبّر عما قاله يومًا: «إعادة كتابة التاريخ أصبحت من صلب انشغالات النص الروائي المعاصر».

ولفلسطين، كما قال إسماعيل فهد إسماعيل، كل الحكاية. وتناول قضيتها ضمنًا ومتنًا في أكثر من عمل روائي أشار فيه إلى كبرياء الفلسطيني الذي كان حاضرًا في رواية «سماء نائية» 2000، رفقة العراقي والكويتي في عمل يمكن إدراجه ضمن أدبيات الغزو، لكنه يركز على جوانب أخرى لا يحتفي بها أدب الغزو عادة. كما كانت فلسطين حاضرة في أعمال مستقلة مثل «على عهدة حنظلة» 2017، التي أرخ فيها لسيرة صديقه ورفيقه الرسام والمناضل الفلسطيني الراحل ناجي العلي، ومعه لسيرة فلسطين التي بكاها أو رثاها عبر ناجي العلي، وهي بالتأكيد ليست مرثية لفلسطين اليوم، التي نخرها الانقسام والاحتلال والإهمال معًا.

وعن اشتباك الحالة الفلسطينية بالشأن اللبناني كتب الفقيد الكبير «الشياح» 1976، أحد أهم وأول الأعمال التي تناولت بدايات الحرب الأهلية اللبنانية الدامية بين عامي 1975 و1990، إن لم يكن أولها على الإطلاق. كانت صرخة تقريرية/وثائقية بأسلوب حكائي بسيط، وذكي. استطاع إسماعيل فهد إسماعيل المؤمن، من خلال هذا العمل، أن يستشرف كما يليق بالرائي مآلات ما جرى وما سيجري في لبنان، فكان التزامًا أخلاقيًا لا من أجل الاصطفاف مع جبهة ما، ولا من أجل إدانة الفدائي أو أي طرف آخر، ولا من أجل تطويب أحدهم قديسًا، إنما لأجل قول ما يجب أن يقال في الأوقات العصيبة التي لا تحتمل شبهة التواطؤ.

في الخواتيم نور يفيض

الصورة: كونا

اليوم، لا يختلف اثنان على أن إسماعيل فهد إسماعيل هو المؤسس الحقيقي للفن الروائي الحديث في دولة الكويت، إذ اختطَّ لنفسه على مدى نصف قرن سبيلًا إبداعيًا بالغ الرصانة ودائم التجديد والتجريب. وهو كذلك من بين أهم الأصوات الإبداعية العربية وأعرقها، ومن بين الأغزر نتاجًا، إذ يربو عدد إصداراته على الأربعين كتابًا ما بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ودراسة نقدية.

بين الإثبات والمحو، بين اليسار والوجودية، بين المحاولة وإعادة المحاولة، بين القول والصمت، بين أصوات الحقيقة وصوت الضمير، بين الثلاثية المصرية والرباعية العراقية والسباعية الكويتية؛ كان إسماعيل فهد إسماعيل يكبر وينضج ويقترب من حقيقته عبر ولوجه إلى عالم الآخرين، وكان المدى شاهدًا وشهيدًا في هذا الشوط العسير.

لقد قالت الصين، وهم اللصيقون بمنابع الحكمة: «لو حكمتَ نفسك فستحكم العالم». وقالت العرب، وهم المولعون بالعبرة والمثل: «إنما الأمور بخواتيمها». ولعل نورًا من نبعَيْ الحكمة الصافيين هذين قد فاض إلى نفس إسماعيل فهد إسماعيل، الذي أتقن حكم نفسه بشروط قاسية أساسها الأصالة والنبل وحب الآخر والتواضع؛ فحكم بحضوره وإنسانه عالمه. وكذلك فإنه ختم رحلته بإجماع عربي نادر على محبته وأبوته وريادته، وأهمية إبداعه وصفاء إنسانه.

سعد الياسري