مجموعة الإبراهيمي الفنية: 150 عامًا عراقيًا في 3 طوابق
في شارع واسع، تمتد على جانبيه أشجار كثيرة وظل كثيف، في العاصمة الأردنية عمّان، تقف بناية من أربعة طوابق، لا تختلف ظاهريًا عن البناية التي تسبقها والتي تليها، لكن الباب الذي يفتح لتطل من خلفه ابتسامة موظفة اسمها أريج حيدر، يحول النهار إلى نهار لا يشبه الساعات الأخرى، فأنت تقنيًا في أكبر مجموعة فنية عراقية موجودة في العالم.
الطابق الأول يزدحم بأعمال «الغرافيك»، منذ أول خطوة لقدميك في المبنى، لكن الطوابق الأخرى هي ما تكشف الحكاية العجيبة، حكاية الفرد الذي قرر حفظ ذاكرة أخطر مدرسة فنية عربية، بعد موجات الاحتلال والتدمير والنهب، في قلعة يحتفظ كل جدار منها بما لا يحتفظ به بسهولة.
شعر أبيض وابتسامة
كان المضيف هو صاحب المجموعة نفسه، د. حسنين الإبراهيمي، وهو طبيب ورجل أعمال عراقي، ولد في الكوفة عام 1962، وبدأ نهاية التسعينيات رحلة اقتناء الأعمال الفنية، بتشجيع واستشارات من صديقيه: ابن مدينته الراحل التشكيلي والأكاديمي د. بلاسم محمد، والطبيب الجراح التشكيلي د. علاء بشير، إلى جوار الفنان علي طالب وآخرين، لكن الأمر توسع، ولم يعد مجرد طبيب يقتني أعمالًا فنية لتزين جدران منزله.
يقف الإبراهيمي مبتسمًا ومرحبًا في مكتبه بالقاعة، يقدم القهوة بيديه، يتعامل مع ضيوفه كمن يتعامل مع داخلٍ لمنزله، وتقنيًا: أنت لا تعرف بالضبط من أين تبدأ المجموعة الفنية وأين تنتهي.
جلست تحت ثلاثة أعمال لخالد الرحال وطالب مكي، وإلى جانب عمل نحتي لخليل الورد ربما، وبدأ الحديث.
يجلس الإبراهيمي ليتحدث عن ضرورة ملء ثغرات الذاكرة العراقية، التي تشكو غياب المؤسسات من جهة، والتي تعرضت لضربة قاصمة بعد دخول الجيش الأمريكي، ونهب ممتلكات ما كان يسمى بـ«مركز صدام للفنون»، حيث ضاعت من الذاكرة العراقية آلاف الأعمال الفنية، من مرحلة ما قبل الرواد وصولًا لجيل الشباب في التسعينيات، ولم يبق لدى الوزارة، قياسًا بما فقدته، إلا كمية قليلة، وإن كانت مهمة، لكن الخسارة فادحة.
يجمع الإبراهيمي مجموعته من الأعمال الفنية بالاعتماد على عمله الخاص، فالمجموعة هي الذراع الثقافي لشركات تعمل في توريد التكنولوجيات الطبية و«التوزيع الدوائي وهندسة المستشفيات في العراق» لـ30 عامًا تقريبًا.
الجولة
بدأنا، أنا والتشكيلي العراقي علي آل تاجر الذي تحتفظ المجموعة بأربعة أعمال له من مراحل مختلفة، من الغرفة التي نجلس فيها.
قال الإبراهيمي: «هذه من الأعمال المبكرة للفنانة مديحة عمر (1908-2005)، وهذا أيضًا من الأعمال الجميلة لخالد الرحال، النحات والتشكيلي، وهنا يستخدم الرحال هذه الأشكال لاحقًا في نصب الجندي المجهول، وهذه من أسباب أهمية هذا العمل».
قد لا يبدو أن هناك نسقًا زمنيًا في مكتب الإبراهيمي، ثمة أعمال لعلي طالب، الذي احتضنت عمّان في ذات الأيام التي زرناها فيها معرضًا استعاديًا له، وأعمال أخرى شهيرة لشاكر حسن آل سعيد، ومن ضمنها «الديك» الشهير، ومكتبة الإبراهيمي الشخصية الملأى بالمصادر الفنية، لكن الاتساق والسياق الزمني يبدأ بالطوابق الأخرى، تلك الجولة الساحرة التي لا ينساها كل من زار هذه القلعة.
جدار ما قبل الرواد وما بعدهم
بمستطيل ناقص ضلع، أستطيع أن أقول إن هذه درة المجموعة، التي تحتوي على كنوز أخرى.
يحقّب الإبراهيمي جدران مجموعته بحسب السياق الزمني، ولا يكتفي الطبيب ورجل الأعمال بقوله إن هذا العمل لفلان، بل يتعداه ليتحدث عن التأثيرات التي تعرض لها الفنان هنا أو هناك، واختلافه الأسلوبي عن نفسه، فالتشكيل العراقي مثل أي تشكيل آخر: مخاضات وتناصات واكتشافات وتمظهرات.
يبدأ الجدار بالآباء المؤسسين، بعد مرحلة العمى البصري العربي بسبب التحريم الإسلامي للتشخيص، وغياب دراسة الفن وممارسته في العهد العثماني، فهذه أعمال لعاصم حافظ، وعبد القادر الرسام، ومحمد صالح زكي، وأكرم شكري، وسواهم.
هذه المرحلة الملأى بتصوير الطبيعة العراقية كانت مرحلة بداية نمو التشكيل العراقي، قبل أن ترسل الدولة شبانها للدراسة في الخارج، جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد وحافظ الدروبي وغيرهم، الذين عادوا ليبدأ التشكيل العراقي مرحلته الجادة، المؤسسة، المرحلة الأم للفن التشكيلي العربي.
يبدأ جدار فائق حسن بـ16 عملًا، تربو قيمتها على مليوني دولار، ففائق حسن يعتبر من أغلى الفنانين العراقيين، من الرواد وغير الرواد، ومن المفارقة أن الإبراهيمي لا يكتفي بجمع أعمال فنان معين، وإنما يكون حريصًا على أن تكون أعماله معبرة الى حد كبير عن تنقلاته، ثمة أعمال لفائق من مرحلته الخمسينية الانطباعية، وعدد آخر من مدرسته الأكاديمية الكلاسيكية، وتخطيطات، وقد يمضي الإبراهيمي بولعه ليقتني العمل وتخطيطه الابتدائي في الوقت ذاته.
حكايات وتوثيق
«قصص الأعمال لوحدها تشكل كتابًا ضخمًا»، هكذا يقول الإبراهيمي وهو يتنقل بين الأعمال، يرفع العمل بيديه، وعلى ظهره ثمة إهداء لفائق، أو رافع الناصري، أو غيرهما. لكنه لا يمتلك عشوائية الفنان التشكيلي، بل يعامل المجموعة بدقة الطبيب والعامل بالتكنولوجيا.
يقول: «تمر الأعمال بسلسلة توثيق طويلة، لا يوجد عمل غير موثق، من مستشاري المجموعة والخبراء الفنيين، أو عائلة الفنان، أو وثائق أخرى، من فوتوغراف أو وصولات بيع، ونبتعد عن الأعمال المنهوبة أو المسروقة أو المزورة بشكل تام».
عملية توثيق العمل الفني مضنية، فأغلب خبراء الفن يقتربون من الشيخوخة، وبعضهم توفي فعلًا في السنوات الماضية، لكن الإبراهيمي يضيف هؤلاء الخبراء باستضافتهم في عمّان والتواصل المستمر معهم، لتكون المجموعة موثقة بشكل كامل. وحتى قبل جولتنا بأيام زار المجموعة أبناء وبنات شاكر حسن آل سعيد، وقبلها أسرة الجادرجي وشرارة، وهذه الزيارات المستمرة تخلق للإبراهيمي شبكة معلوماتية لتوثيق التشكيل العراقي، من المجموعة وخارجها، فهو يكاد يعرف أعمال الفنان واحدًا واحدًا، وما ليس في المجموعة يعرف أين يستقر.
فضلًا عن صداقاته مع المجتمع الفني العراقي خصوصًا والعربي عمومًا، إذ تتعامل مجموعة من الأساتذة المعروفين مع الإبراهيمي بصفة مستشارين بشكل تطوعي، يجمعهم ملء تلك الثغرة، ومعرفة أهمية الفن العراقي، ومن هؤلاء: المعماري الرائد معاذ الآلوسي، والفنان ضياء العزاوي، والناقد سهيل سامي نادر، والمعماري والمؤرشف د. إحسان فتحي، والفنان علي طالب، والناقدة د. ندى شبوط، والفنان سعد الطائي. وكان من ضمنهم د. بلاسم محمد، قبل وفاته.
الجولة لا تتوقف، وبعد فائق ثمة جواد سليم، ولورنا سليم، وشاكر حسن آل سعيد، وعطا صبري، وبهجت عبوش، وعيسى حنا، وسعاد سليم، وخالد الجادر، وقتيبة الشيخ نوري، وغيرهم.
المفارقة أن التنقل بين الطوابق وعلى السلالم يعد جزءًا من الجولة، وعلى جانبيه تمتد أعمال أخرى لفنانين أحدث.
المجموعة
عند زيارة الموقع الإلكتروني، تكتشف أنك أمام نحو ألف عمل فني، من الرسم والخزف والنحت والفوتوغرافيا والخط. المجموعة في معظمها عراقية، لكنها تحتوي أيضًا على أعمال عربية وعالمية بنسبة لا بأس بها، كما أنها تحتوي على مصادر نادرة في التشكيل العراقي من كتب وفولدرات معارض وصور فوتوغرافية ووثائق بخط اليد، وتضم دفاتر فنية لفنانين من مختلف الأجيال.
يفتتح الإبراهيمي جزءًا آخر من المجموعة في بغداد، وتقنيًا تمتد مجموعته حتى بيته، وغرفة نومه، وشركاته، ففي كل مكان ثمة لوحات وأعمال نحتية وغير ذلك. ورغم المجموعة العملاقة، فإن الإبراهيمي في نشاطه وتواصله مع الفنانين يتصرف كما لو أنه بدأ مجموعته للتو.
يستعد الإبراهيمي أيضًا لإصدار سلسلة من الكتب التي توثق المجموعة، محقّبة بحسب الأجيال، وتصبو عيناه إلى إعادة المجموعة لبغداد، لتملأ تلك الثغرة العملاقة التي يجيد العراق فعلها بنفسه باستمرار، منتظرًا بذلك الظروف الملائمة.
علي وجيه