موسم أفلام العيد: متى بدأ، وإلى أين انتهى؟
قدمت السينما المصرية، خلال المئة عام الماضية، ما يقرب من أربعة آلاف فيلم، ما أسهم في غزارة الإنتاج السينمائي المصري بعد المرور بظروف مختلفة عبر عدة عصور ظهر خلالها عدد من المدارس والاتجاهات، منذ اقتحام مصر المبكر لمجال السينما بعرض أول فيلم في عام 1896 بمدينة الإسكندرية، بعد أيام قليلة من أول عرض سينمائي في العالم بالعاصمة الفرنسية باريس.
اكتفت العروض السينمائية، في ذلك الوقت، بالأفلام التسجيلية الإخبارية حتى قدمت السينما المصرية أول فيلم روائي عام 1917 للمخرج محمد كريم (أول مخرج وممثل مصري)، ومن وقتها توالى الإنتاج السينمائي وافتتاح شركات الإنتاج التي أسهمت في تطوير الحراك السينمائي الذي كان في بداياته وقتها.
تغيرت مدارس السينما في مصر (تغيرت، لم تتطور) واختلفت بين الواقعية والرومانسية والسيريالية إلى السينما «السُّبكية»، ولكن تظل مواسم الأعياد البطل الرئيسي للسينما المصرية منذ بداية خمسينيات القرن العشرين.
اهتمت صناعة السينما اهتمامًا ملحوظًا بما ستقدمه في تلك الأوقات المميزة من العام، فاعتمدت على كبار النجوم، كلٌّ في زمنه، مثل فريد شوقي وعمر الشريف ورشدي أباظة وشادية وسعاد حسني وعبد الحليم حافظ وإسماعيل ياسين وعادل إمام وأحمد زكي ونور الشريف ومديحة كامل وحسين فهمي، وصولًا إلى محمد هنيدي وأحمد حلمي، ثم محمد رمضان.
الستينيات والسبعينيات: من إسماعيل ياسين إلى عبد الحليم
يعد استقبال عيد الفطر بأفلام سينمائية تقليدًا حديثًا بعض الشيء، فقد اعتادت دور العرض تقديم عروضها السينمائية خلال شهر رمضان، وذلك قبل امتلاك كل منزل مصري جهاز التلفزيون الذي كان يعرض وقتها فقط فيلمًا تلفزيونيًّا في السهرة الرمضانية، ولم تكن المسلسلات قد عرفت طريقها إلى ماسبيرو سوى عدة مسلسلات إذاعية تذاع من خلال الراديو المنتشر في المنازل والمقاهي في جميع أنحاء مصر.
في موسم الأعياد عام 1959 عرضت سينما «مترو» فيلم «إسماعيل ياسين في الطيران»، من إخراج فطين عبد الوهاب، وتأليف أبو السعود الإبياري، وشارك إسماعيل ياسين البطولة آمال فريد وعبد المنعم إبراهيم، إذ سيطر المضحك الأشهر في مصر على دور العرض ذلك الوقت بأفلامه التي كُتِبَت باسمه، والتي تعد تجربة غير مسبوقة نجاحًا، وربما تعيش لسنوات طويلة قادمة.
نلاحظ أن أعمال إسماعيل ياسين «في مستشفى المجانين» و«في الأسطول» و«في الجيش» صُنعت في فترات معينة من حيث التطور التقني والفني في السينما العالمية أو المصرية، من الأفلام التي كتبت للبطل وباسمه، هذا البطل الذي «يُخَدِّم» عليه جميع المشاركين في الفيلم، بداية من السيناريو إلى المونتاج، بما في ذلك الممثلون أيضًا، زينات صدقي وعبدالفتاح القصري واستيفان روستي وعبدالسلام النابلسي والشاويش عطية. كانوا جميعًا يجدون مساحاتهم الفنية في الفيلم.
وفيما كان إسماعيل ياسين يمُثِّل «حالة» فنية كاملة، وليس «نمطًا» أو «نموذجًا»، كان هؤلاء جميعًا يمثلون «حالات» مجاورة تتفاعل بفنية عالية ليخرج أمامنا فيلم حقيقي ومكتمل الأركان.
استمر عرض «أبي فوق الشجرة» 58 أسبوعًا بعد الأعياد لما حققه من إيرادات بلغت 900 ألف جنيه، عندما كانت التذكرة لا يتجاوز الثلاثة جنيهات.
الفيلم للمخرج حسين كمال، وبطولة عبد الحليم حافظ ونادية لطفي وميرفت أمين. ذلك الفيلم الغنائي صاحب أكبر عدد قبلات سجلتها السينما المصرية، والتي تجاوزت الـ50 قبلة رومانسية، والسينما التي شهدت على مدار تاريخها عددًا من القبلات في الأفلام، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا وعاديًّا. وكانت معظم الأفلام المعروضة منذ زمن الأبيض والأسود تحتوي على قبلات بين البطل والبطلة، أو حتى بين باقي الأبطال والبطلات، وبخاصة في حقبة السبعينيات السينمائية التي لم يخلُ فيلم أُنتِجَ وقتها من القبلات، ولم يُثِر هذا أي مشكلة، أو يسبب تحرشات في قاعات العرض، على عكس ما سيحدث لاحقًا بسبب مجرد مشهد عري وحيد في سينما الألفية.
استمر عرض «أبي فوق الشجرة» لمدة 58 أسبوعًا بعد موسم الأعياد لما حققه من نجاح وإيرادات هائلة بلغت 900 ألف جنيه مصري عام 1969 عندما كانت تذكرة السينما لا يتجاوز سعرها ثلاثة جنيهات.
عيد من الشرق والغرب: دراما هندية و«ويسترن» أمريكي
لا ننكر تزايد عروض الأفلام الهندية في دور العرض المصرية منذ ستينات القرن العشرين وحتى أوائل ثمانينياته، فطابع الدراما الهندية يتناسب مع أذواق المشاهدين المصريين، إذ يجمع بين الرومانسية المفرطة والأكشن الأسطوري والنهايات المأساوية.
نجد أن فيلم «الفيل صديقي» الذي عُرِضَ في موسم الأعياد لعام 1971 قد حقق نجاحًا منقطع النظير مثلما حقق اسم الطفل البطل «راجو» انتشارًا كبيرًا بالتبعية.
لم تكن الأفلام الهندية المنتَج الأجنبي الأول الذي ينتشر في الأعياد، فقد سبقتها أفلام الغرب الأمريكي في تحقيق هذا الانتشار والنجاح، إذ كانت الجماهير تنتظر موسم العيد كي يشاهدوا «كلينت إيستوود» و«لي فان كليف»، وتحقق ذلك في فيلم «The Good, the Bad and the Ugly» الذي عرضته دور السينما المصرية في موسم أعياد 1966، ومن بعده كانت عروض ناجحة لأفلام أمريكية، مثل: «Soldier Blue» عام 1970 لـ«كانديس بيرغن»، و«The Deer Hunter» في 1978 لـ«روبيرت دي نيرو»، الحائز على أوسكار أفضل فيلم لنفس العام.
لم تخل دور العرض المصرية في ذلك التوقيت من أفلام مصرية لا تقل جودة عن نظيرتها الهندية والأمريكية، إذ لمع نجم الفنان حسين فهمي، وبخاصة بعد لقائه بسعاد حسني في فيلم «خلي بالك من زوزو» الذي عُرِضَ في موسم العيد 1972، ولا يزال يُعرَض في الفضائيات، وبعده بسنتين عُرِض فيلم «أميرة حبي أنا»، والإثنان من إخراج حسين الإمام.
الثمانينيات والتسعينيات: عادل إمام يحكم
ظهر فيلم «الإرهاب والكباب» في 1992 بموسم الأعياد دليلًا على إثبات جدية عادل إمام وتقديمه موضوعات هادفة تدور حول المشكلات الاجتماعية.
جميع ما سبق من أفلام حقبتي ستينيات القرن العشرين وسبعينياته التي عُرِضَت في مواسم الأعياد، لا تشبه من قريب أو بعيد حالة الأعمال السينمائية التي عُرِضَت في أوائل الثمانينيات والتسعينيات، فقد ظهرت مجموعة جديدة من الممثلين ونجوم شباك التذاكر، واتخذت الفترة اتجاهات مختلفة من نجوم عاشت ذكراها في قلوب المشاهدين، واستمر نجاحها والإقبال على مشاهدتها من خلال عروض التليفزيون والقنوات الفضائية.
كان الوحيد المؤهل لاستكمال دور إسماعيل ياسين في مجال «سينما الكتابة لممثل واحد» هو عادل إمام، ولكن شاءت الظروف أن يختار عادل إمام طريقًا آخر، وإن كان على نفس الدرب، وهو ما سوف يكتب الخلود لكل من تجربتي إسماعيل ياسين وعادل إمام كقطبين لنجم واحد مع اختلاف الظروف والشروط والتوجهات.
آثر عادل إمام أن يلعبها اجتماعيًّا، وابتعد عن الغناء والرقص ليغرق في الظرف الاجتماعي للمواطن المهمش، وهذا هو فرق المراحل والتوجهات الاجتماعية والفنية. وعادل إمام اعتمد في بداياته على هذا النمط: القفشات والنكات. لكنه سرعان ما أدرك أن هذا الطريق ليس له آخر، وسيؤدي به إلى ما لا يحمد عقباه، بخاصة أن غيره ممن سبقوه قد أجادوا فيه.
كان على عادل إمام أن ينمو ويتطور بما لديه من إمكانيات مميزة، وبالرغم من أن الأفلام كُتِبَت أيضًا من أجل عادل إمام، فإنه استطاع أن «يحمل» الفيلم على عاتقه وحده، واستطاعت توجهاته الفنية-الاجتماعية أن تزن المعادلة الصعبة على الرغم من أن مساحة الممثلين الآخرين قد تقلصت كثيرًا.
ربما ظهر فيلم «الإرهاب والكباب» للثلاثي عادل إمام ووحيد حامد وشريف عرفة في 1992 في موسم الأعياد دليلًا على إثبات جدية إمام وتقديمه موضوعات هادفة تدور حول المشكلات الاجتماعية التي تواجهها الطبقات الأدنى من المتوسطة، والمتمثلة في موظفي الدوائر الحكومية والمواطنين المتضررين من القوانين الروتينية غير المنطقية من صرف علاج للمرضى أو نقل الأبناء إلى مدارس تناسب المحيط الجغرافي للسكن أو الذين يعانون من بطء إجراءات العدالة، وما إلى ذلك من طرح موضوعات جادة تستحق المشاهدة ومناقشتها.
يأتي كذلك فيلم «الإرهابي» عام 1994 من تأليف لينين الرملي، وإخراج نادر جلال، مثل صرخة اعتراضية في ظل الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين بالتزامن مع العمليات الإرهابية في التسعينيات. وعُرِضَ الفيلم على شاشات السينما في موسم العيد تحت حراسة مشددة من قوات الأمن المصرية التي كانت تحاول تفادي الاصطدام بالجماعات الإرهابية التي لن تدع الأمر يمر بسلام.
سطع نجم أحمد زكي في نفس الحقبة العبقرية التي شهدت انطلاقة نجوم وإعادة اكتشاف آخرين ظن جمهورهم أنهم لن يقدموا الجديد أو تتطور اختياراتهم.
في أحد مواسم العيد في عام 1999 قدَّم المخرج داوود عبد السيد رائعته السينمائية «أرض الخوف» من بطولة أحمد زكي وفرح وعبد الرحمن أبو زهرة. ويلزمنا وقفة أمام عرض مثل هذه النوعية من الأفلام التي تدور حول الوجود الإنساني ورسائل السماء من أشخاص تحمل أسماء الأنبياء، وتنطوي على رموز عن الجنة والجحيم من مشهد الاختيار الذي اضطر إليه الضابط يحيى المنقبادي، وأكل التفاحة التي ترمز إلى آدم أول البشر.
أن يُعرَض فيلم بهذا التعقيد الفكري في موسم الأعياد، فهي مجازفة إنتاجية، مقارنةً بما كان سيحدث في زمننا الحالي الذي اعتاد الجمهور فيه تسلية أوقات الإجازة بمشاهدات لا تدعو إلى التفكير أو التأمل.
«إسماعيلية رايح جاي»: بداية هنيدي
تعامل المنتجون مع ظاهرة محمد هنيدي من منظور إيرادات الشباك التي يرون أنها المردود الرئيسي لنجاح الأعمال السينمائية، إذ ظهر نجم هنيدي عاليًا بعد أرباح 14 مليون جنيه مكاسب شباك التذاكر، ليخرج فيلم «إسماعيلية رايح جاي» في عام 1997 بالاشتراك مع محمد فؤاد وخالد النبوي، يليه بعد عام واحد فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» مع منى زكي وأحمد السقا وإخراج سعيد حامد، ليحقق 28 مليون جنيه أرباحًا.
لسنوات متتالية حصل هنيدي على لقب «نجم الشباك» الذي كان من المتوقع أن يستمر أكثر من الـ20 عامًا التي جلس فيها على عرش نجوم الشباك، وهي فترة طويلة بالمناسبة.
من فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» انطلق نجومه الشباب لصنع مجد واسم خاص بهم، مثل أحمد السقا الذي استمر سنوات، تحقق أفلامه أرباحًا خارج المنافسة، مثل فيلم «هروب اضطراري» الذي عُرِضَ في عيد الفطر 2017 ولم يحقق مكاسب فنية كالتي حققها إنتاجيًّا. ربما يرجع ذلك الى ارتفاع سعر تذكرة الدخول الذي وصل إلى مئة جنيه.
… وصولًا إلى محمد رمضان
اكتسحت أفلام محمد رمضان دور العرض ومواسم الأعياد. طالته أقلام النقاد وانتقاد وسائل الإعلام ورفض المثقفين، لكنه لم يتغير، بل ازداد إصراره على تقديم الأدوار نفسها التي لا تتغير، فهو «آخر ديك في مصر»، وهو «حبيشة» و«عبده موته»، أي البطل الشعبي الذي لا يُقهَر.
يمكننا تلخيص العوامل النفسية التي تدفع جمهور السينما إلى تقبل مثل هذا النوع من الشخصيات التي يلعبها رمضان في أنه ممثل ذكي استطاع أن يضغط على نقاط ضعف الشباب المحبَط والعاطل عن العمل، والذي لم يحصل على القدر الكافي من التعليم، فيجد في رمضان وأغنياته وأسلحته وراقصاته الملاذ والمتنفَّس.
يساعده على الاستمرار في تقديم تلك الشخصيات المنتج أحمد السبكي الذي يستخدم شعار «خلي الشعب يتبسط» دون أن يأخذ في الاعتبار أن الشعب ذاته وقف في الطوابير للحصول على تذكرة دخول أفلام «الكيت كات» و«أرض الخوف»، أو حتى افلام السبكي نفسه في التسعينيات لأحمد زكي، مثل «مستر كاراتية» و«سواق الهانم» و«الرجل الثالث»، بينما لم يوفَّق المنتج الكبير في صناعة أي فيلم شبيه بهذه الأفلام في الألفينيات.
نرمين يُسر