هاني شاكر ومحمد ثروت: كلنا وقعنا في الفخ
«إن كان ع القلب ملوش غيرك، وإن كان ع الحب مفيش غيرك».
يقف هاني شاكر ومحمد ثروت على مركب نيلي، يبتسمان في هواء يحرك شعورهما، يصدحان «بلدااااااي» التي صارت أحد إفيهات الشارع المصري، وإحدى أكثر الأغاني الوطنية إثارة للرثاء والضحك على عدة وجوه، فهي تمثل مرحلة «غريبة» في الغناء الوطني المصري، مرحلة الأوبريتات السنوية في ذكرى حرب أكتوبر 1973، واصطفاف جيل كامل للواجب الوطني السنوي، على رأسه هاني شاكر ومحمد ثروت.
هل تصدقون أن كاتب كلمات هذه الأغنية عبد الرحمن الأبنودي؟ الأغرب: هل تعلمون أن مشوار ثروت ورفيقه شاكر يمتد لأكثر من 40 عامًا؟
يبدو الرقم كبيرًا وبعيدًا، وغير عالق بالذاكرة كما نعتقد. إنها رحلة تستحق الدراسة والنظر إلى نتائجها، دراسة عن رحلة المطرب، وما يجب عليه فعله، وما يحصده في نهاية مشواره.
مصر: جيل ما بعد الريادة
منتصف سبعينيات القرن العشرين كان موعد رحيل الجيل القديم، تغيرت خارطة الغناء المصري تحديدًا والعربي عمومًا. ظهر مطربون جدد، وألحان أسرع، وأشكال مختلفة من الأغنية الشبابية، وبخاصة مع فِرَق موسيقية شبابية تحاول كسر هدوء الساحة الفنية. في ذلك الجو العام ظهر هاني شاكر ومحمد ثروت، اللذان ينتميان إلى جيل الانتصار، وفي نفس الوقت جيل السلام وكامب ديفيد.
مع وجود عبد الحليم حافظ على قمة الغناء، وقدرته على التجديد والإضافة إلى ما قدمته أم كلثوم وعبد الوهاب، والوقوف على قمة النجاح الفني والجماهيري، كان هاني شاكر تلميذ هذه المدرسة، وأحد أفراد جيل نشأ على «الأغنية الحليمية».
قرر شاكر، المحب للغناء منذ الصغر، والذي تعلم الموسيقى في الكونسرفتوار وشارك في برامج الأطفال وفيلم «سيد درويش»، أن يكون مطربًا مثل «حليم»، ويسلك هذا الطريق حتى أصبح امتدادًا لهذه الرحلة، أو منافسًا فيها منذ بدايته.
كان الموسيقار محمد الموجي أكثر من حاول تقديم مطربين ينافسون رفيقه وصديقه حليم. حاول خلق أسطورة كما اعتقد أنه خلق أسطورة حليم، أو كان أحد أهم خالقيها. آخر هذه المحاولات كانت هاني شاكر، الذي قدمه الموجي وتبناه في بداياته بجانب الملحن محمد سلطان، في محاولة لتقديم صوت جديد وتهديد عرش عبد الحليم.
اقرأ أيضًا: لعنة العندليب: ما فعله «حليم» بعماد وفادي وعمر
في نفس الفترة، أي السبعينيات، كان عبد الوهاب مشغولًا لإثبات أنه ما زال قادرًا على العطاء والتلحين واكتشاف الأصوات. ستة أصوات جديدة قدمها موسيقار الأجيال في أوبريت «الأرض الطيبة»: محمد ثروت ومحمد الحلو وتوفيق فريد وزينب يونس وإيمان الطوخي وسوزان عطية.
ستة أصوات لم يستطع معظمها أن يصنع مشوارًا لافتًا. لم يستطع أحدهم أن يصبح نجمًا صاحب تجربة حقيقية، باستثناء بعض تجارب محمد الحلو في غناء تترات المسلسلات، وغناء محمد ثروت للأطفال. تجارب قصيرة لم تصنع تاريخًا فنيًّا قادرًا على البقاء والاستمرار في مواجهة الزمن.
هاني شاكر ومحمد ثروت: الوقوع في الفخ
لا يمكنك النجاح باتباع أسلافك دون إضافة جديد. ابتعدَ ثروت وشاكر عن التجديد، فأصبحا صوتين جميلين ولم يصنعا شيئًا جيدًا.
هاني شاكر إذًا محاولة محمد الموجي لمنافسة حليم. أما محمد ثروت، فهو تأكيد لوجود موسيقار الأجيال على الساحة الفنية. إهما تمثيل عملي لتجارب اثنين من الموسيقيين المتحققين بالفعل، والاثنان قدما نفس الشكل الغنائي الطربي، مع إعادة غناء أغاني حليم وعبد الوهاب، والسير على نفس خطاهما الفنية، أملًا في نجاح مضمون ودعم من الموجودين على الساحة.
أن توضع في منافسة مع حليم وأنت في بداية مشوارك، أو أن يختارك موسيقار الأجيال ليقدم ألحانًا لك، أو يسمح لك بأن تغني أغانيه في حفل في لندن وهو ضمن الحضور. كل هذه الأمور كانت سببًا في اختيار شاكر وثروت لهذا الطريق، الطريق الذي يبدو نجاحه مضمونًا منذ البداية.
لا يمكنك النجاح وأنت تسير في مسيرة أسلافك دون أن تضيف شيئًا. سار الاثنان على خطى السابقين، وابتعدا كل البعد عن المغامرة أو التجديد أو البحث عن خصوصية لهما، ورغم كل هذا نجحا في إثبات نفسيهما والنجاح والشهرة.
نجحت الخطة، ووقع الجمهور في الفخ، لكن شاكر وثروت وقعا في الفخ نفسه، إذ أصبحا امتدادًا لا خصوصية لهما، صوتان جميلان فقط، لكنهما لم يصنعا شيئًا جيدًا، لم ينتجا فنًّا قابًلا لمقاومة الزمن والحياة والنسيان. هذ ليس حكمًا، فمقارنة ما بقي في الوعي من أغانيهما بجيل الرواد تكشف حقيقة هذا «الفخ».
كان الجمهور متعطشًا لهذا الفخ، متوهمًا أن الحفاظ على شكل الأغنية القديمة وأداء حليم هو أحد أنواع الحفاظ على الهوية الغنائية، وبخاصة في ظل ظهور عدد من التجارب التي تحاول تحريك المياه الساكنة في شكل الأغنية العربية.
كانت الدولة نفسها تدعم ذلك الشكل الغنائي الأخلاقي من وجهة نظرها، شكلًا وأداءً، وحافظ هاني شاكر ومحمد ثروت على هذا الشكل والنمط، لذلك نجحا.
وقائع الفخ الموسيقي
لم ينتبه شاكر وثروت إلى أن عبد الوهاب وحليم كانا في بدايتهما أكثر المطربين خروجًا على القاعدة.
خرج عبد الوهاب عن شكل الغناء القديم، غناء فترة الحامولي ومحمد عثمان، ودخل في اشتباكات مع الجيل القديم. حليم أيضا غيَّر طريقة الأداء وأضاف إليها، وحتى شكل الأغنية اختلف لديه عما كان يُقدَّم قبله.
من السهل أن تنجح في فترة ما، لكن أن تخلد نفسك واسمك وأعمالك، هنا تكمن الصعوبة. أن تخرج من حالة النجاح الزمني إلى الخلود، أمر لا يصل إليه أي فنان بسهولة أو عن طريق الصدفة.
نتعامل مع شاكر وثروت كـ«فنانين كبار» بحكم السن، وحتى حديثهما في البرامج يجعلك تشعر وكأن أبًا يتحدث إليك، وليس فنانًا.
لا أحد ينكر أنهما يمتلكان صوتًا جيدًا وسليمًا، لكن الصوت وحده لا يكفي، خصوصًا إن كنت لا تحمل شيئًا في عقلك يضيف خصوصية إلى مشروعك.
حاول هاني شاكر أن يبقى موجودًا على الساحة الفنية، حاول أن ينافس، لكنها كانت منافسة وقتية: أغنية كل فترة يمكن أن تنجح أو تشد الأذن. حاول في التسعينيات مع الشاعر الغنائي مصطفى كامل، لكنه بقي نجاحًا ثانويًّا بعيدًا عن القمة. كان الاحتفاء به لأنه يشبه الزمن القديم، لأنه جاء بواسطة الكبار، كاحترامك لصاحب والدك، تستمع إلى نصائحه باهتمام بالغ ظاهريًّا، لكنك، في داخلك، تدندن أغنية حتى ينتهي من حديثه غير المهم بالمرة.
أما محمد ثروت، فقد هرب من الفخ في محاولة منه لصنع أغانٍ تعيش، فكان سبيله الأغاني الوطنية والأطفال. لم يجدد فيها، لكنه قدم شيئًا سيعيش رغمًا عنا، فأصبح ثروت في مخيلتنا مطرب الأطفال ومبارك.
صورته في ذهن الجميع شخص يرتدي ملابس عسكرية، كطفل كان يحلم بأن يكون ضابطًا وفشل. حتى عندما يظهر في التلفزيون يقدم أغاني في أغلبها قديمة أو وطنية. لا يوجد تاريخ حقيقي يستند إليه ولا خصوصية فنية، إنه مجرد صوت جيد يمكنه ترديد الأغاني القديمة دون أن يزعجك.
قد يعجبك أيضًا: الوطنية المصرية وأغنياتها: تبدلات الخطاب والتوجيه
بعد 40 عامًا من بداية مشوارهما الفني، نتعامل معهما باعتبارهما «فنانين كبار» بحكم السن والشكل الأبوي الذي أصبحا عليه، حتى حديثهما في كل البرامج يجعلك تشعر وكأن أبًا يتحدث إليك، وليس فنانًا ومطربًا. حتى هاني شاكر حاول ممارسة دور الأب بعد انتخابه نقيبًا للموسيقيين.
أن تصبح مطربًا أمر سهل، أن تنجح أغانيك أيضًا أمر سهل، لكن أن تدخل في مرحلة الخلود الفني، هنا الأمر صعب.
لا أحد من الأجيال الجديدة يستمع إلى هاني شاكر أو محمد ثروت. من يسمعهما الجيل القديم فقط، الجيل الذي عاش فترة ظهور هذه الأغاني، ويسمعها من باب النوستالجيا لا أكثر ولا أقل. إنهما مطربان يحتضر فنهما، ولا يورثه أحد إلى أحد. سيموت تدريجيًّا، وسيصبح ذكرى لفشل مشوار فني طويل، وعِبرة لمن يحاول أن يمشي على مسار من سبقه، ويخاف التجديد والمغامرة.
شريف حسن