الأدب الممنوع: كيف يُقمَع الإبداع في العالم العربي؟
هل يجب تحصين الأدب من المساءلة القانونية؟
لإجابة مثل هذا السؤال، لا بدّ أولًا من تعريف الأدب، وبيان وظائفه وخصائصه، وبما أن الأدب نوع من أنواع الفنون الجميلة، فلا بد أيضًا من تعريف الفن، كي نحدّد نطاق السؤال ودائرته الجامعة المانعة، ومن ثَمَّ نستطيع أن نقدم إجابة له. في هذا المقال نعرض ذلك، إضافة إلى بيان بعض وسائل قمع الأدب وأمثلة واقعية لذلك، بعض الكتب التي تحدثت عن القضايا الأدبية التي عُرضت في ساحات القضاء، وأدّت بأصحابها إلى المتاعب، وأخيرًا الحجج التي يتمسك بها معارضو المنع ومؤيّدوه.
لنحاول تعريف الفن
الفن مصطلح واسع وشامل، والعلاقة بينه وبين الأدب عموم، وخصوص مطلق، فالأدب أخصّ من الفن وأضيق دائرة منه، فكل ما هو أدب هو فن، ولكن ليس كل فن أدبًا، وبحسب تصنيف الفيلسوف الفرنسي المتخصص في الفنون الجميلة «إيتيان سوريو» للفنون، فإن الأدب أحد أنواع الفنون السبعة: النحت والرسم والتصوير والموسيقى والرقص التعبيري والسينما، ولا شكّ أن العنصر الجمالي والوجداني هو الثابت الدائم في أي عمل فني.
وأما فيما يتعلّق بتعريف الفن وبيان ماهيته وطبيعته، فقد اختلف الفلاسفة والمختصون في ذلك، والتعريفات التي صاغوها غالبًا ما تأثرت بالأيديولوجيا التي يتبنونها، فهناك من عرّفه بأنه «تعبير عن الشخصية عبر الأحاسيس والمشاعر»، وقيل إنه «انعكاس للحياة الاجتماعية وحركة الإنتاج والآلة»، وآخر عرفه بأنه «تنفيس عن الرغبات المكبوتة في اللاشعور وعملية إعلاء وتسامٍ بالغريزة الجنسية».
في تعريف الأدب
وما دام الأدب نوعًا من أنواع الفن، فكل ما قيل في الفن يقال في الأدب، إلا أن ما يميّز الأدب عن سائر الفنون، أن أداته اللغة، ومن أمثلته: الشعر والرواية، وقد قيل في تعريفه إنه «حدس» و"خلق وابتكار» وإنه «كل ما يثير فينا بفضل خصائصه إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية، أو هما معا».
وينطوي الأدب على عناصر أربع، أسهب أساتذة النقد الأدبي في شرحها ومناقشتها، وهي العاطفة والخيال والمعنى (المضمون) والأسلوب (الصياغة)، ويمكن من خلال هذه العناصر مجتمعة أو متفرّقة، تمييز ما يمكن عدّه عملًا أدبيًا من غيره.
ولا شكّ أن الفكرة ليست مناط العمل الأدبي، فليس مطلوبًا من الأديب أن تكون الفكرة التي يتناولها جديدة، فقد يأتي بفكرة بالية أو مألوفة فيُلبسها لباسًا جديدًا ويضفي عليها حدسًا وابتكارًا لينشئها في خلق جديد، فتظهر برونق غير مسبوق، وبهذا يتميز الأدب الجيد من الرديء، لا بالفكرة، فكم من فكرة لم تصل إلى الملأ من خلال المؤلفات الفلسفية، لكنها شغفت قلوب الجماهير عبر الأدب والمسرح، فانظر كيف أثر «جون بول سارتر» مثلًا من خلال مسرحياته، فأوصل الأفكار الوجودية إلى شباب أوروبا، وقارن ذلك بوصولها من خلال مؤلفاته الفكرية كـ«الوجود والعدم».
هل للفن والأدب وظيفة؟
وأما وظيفة الفن، وتتبعها وظيفة الأدب، فيمكننا أن نلحظ مذهبين أساسيين، الأول يرى أن الفن أو الأدب هدف في حد ذاته لا يراد لغيره، وهو ما يعرف بمذهب «الفن للفن» أو «عبثية الفن»، في حين يذهب أرباب المذهب المقابل إلى أن للفن والأدب رسالة اجتماعية خطيرة ولا يمكن عزلهما أو تجريدهما عن التأثير في المجتمع والتغيير فيه، وهو ما يعرف بمذهب «اجتماعية الفن» أو «الفن للمجتمع».
وعن هذا المذهب يقول الأستاذ «أحمد الشايب» في «أصول النقد الأدبي» كما ينقل عنه د.شلتاغ عبود: «.. والأدب فوق هذا تدين له العقائد الدينية والنهضات السياسية والاجتماعية، لأنه لسانها الذي يسبقها، وروحها التي تنفذ إلى أعماق القلوب، قبل أن تستجيب هذه القلوب إلى مقولاتها في السياسة والاجتماع".
قمع الأدباء يتم بأساليب متعددة، كالمساءلة السياسية، أو القمع الديني، أو الإقصاء الاجتماعي.
ويرى بعض الباحثين، بحق، أن الغلو في أي من المذهبين يجافي الصواب، فكون أن للأدب معنى في ذاته، غايةٌ بحد ذاتها، فلا يستلزم بالضرورة ألا تكون له وظيفة اجتماعية أو تأثير في الواقع الاجتماعي، والعكس بالعكس.
قمع الأدب بمفهومه الواسع
وسائل عديدة اتّبعت واستعملت في شتى دول العالم، لقمع الأدباء والأدب، ومحاكمتهم على نتاجهم الأدبي، ولا شكّ في أن المساءلة القانونية والقضائية ليست الوسيلة الوحيدة التي وظّفت لتحقيق ذلك، فيمكننا أن نلاحظ ذلك أيضًا بأسلوب المساءلة السياسية عن طريق الاستجوابات والأسئلة البرلمانية والحملات الدعائية، والمنع الإداري والإجراءات الحكومية والامتناع عن طبع الأعمال الأدبية، ومصادرتها، وسحبها من الأسواق، وفرض قيود عليها، وإجبار كاتبها، إجبارًا صريحًا أو ضمنيًا، على شطب بعض محتواها، ثم نجد أسلوب القمع الديني وفتاوى التضليل والتكفير والحكم بالردة على الأدباء والمفكرين، وتحريم قراءة كتبهم أو الاطلاع على أعمالهم الأدبية وبيعها وشرائها وتداولها وحيازتها، وكذلك ينتهج آخرون أسلوب الجريمة والإيذاء الجسدي بحق الأدباء، بتهديدهم وقتلهم والتنكيل بهم، وأخيرًا انتهاج وسيلة الإقصاء الاجتماعي التي لا تقتصر على الأديب، بل تمتد إلى أبنائه وزوجه وعائلته، والأمثلة على القمع كثيرة والصور متكررة في التاريخ القديم والحديث، ابتداء من سم سقراط ومرورًا بقتل السهروردي، وليس انتهاء بملاحقة نصر حامد أبو زيد مثلًا، وتفريقه عن زوجته وتهجيره ومنعه من دخول البلدان.
وما زال مشهد وزير الإعلام الكويتي الراحل، الشيخ سعود الناصر الصباح، عام 1998، عالقًا في الذاكرة، حين استجوبه نواب إسلاميون، لسماح وزارته ببيع كتب بعينها في معرض الكتاب الدولي المقام في الكويت، كرواية «سقوط الإمام» لنوال السعداوي، و«الخبز الحافي» لمحمد شكري، و«نقد الخطاب الديني» لنصر أبو زيد، وما زالت آثار هذا الاستجواب قائمة حتى اليوم، وتتجسد في هاجس وخشية دائمة من زمجرة المحافظين في وجه أي مسؤول سياسي، بسبب المنتج الأدبي والدرامي والإعلامي، فيترجم ذلك بتضييق الخناق على الأدب والفكر والفن، وتغليب كفة المنع على الإباحة.
ومما جاء في صحيفة استجواب الصباح أن بعض كتب معرض الكتاب الكويتي:
«تحمل بين صفحاتها طعنًا صريحًا في الذات الإلهية، وتشكيكًا مقصودًا في الدين الإسلامي الحنيف، وطعنًا واضحًا بأصول الإيمان بالملائكة والأنبياء واليوم الآخر، فضلًا عن مساس هذه الكتب بالآداب والأخلاق والقيم الإسلامية التي جبل عليها المجتمع الكويتي المسلم، وهو ما يخالف جملة وتفصيلًا النصوص الدستورية والقانونية التي استقرّت عليها تشريعات الدولة بهذا الشأن، مما عرض ويعرض مقومات المجتمع الكويتي إلى خطر جسيم».
ثم تسوق صحيفة الاستجواب أمثلة لما تعنيه من ذلك، فتقتبس من رواية «سقوط الإمام» العبارة التالية:
«يداه تربت على وجهي ثم تهبط لتربت على صدري وبطني، رجفة غامضة تهزني وقشعريرة، يهمس صوت ناعم: لا تخافي أنا الله وسوف تلدين المسيح». ويعلق النواب المستجوبون على ذلك قائلين «أليس في هذا نيل واستهزاء بالذات الإلهية وتعريض بها يوجب غضب الله الرب سبحانه، ويعجل بنزول عذابه، ما لم يتصدَّ المسلمون لمثل هذا الطعن الواضح؟ أليس في هذا النيل والاستهزاء بالذات الإلهية؟ أليس في ذلك جرح عميق وغائر في وجدان الإنسان المسلم الذي ينزه ربه من كل نقص؟».
قصة "أولاد حارتنا"
ومن الأمثلة الأخرى الشائعة في العالم العربي والقضايا الدارجة، ما ثار بشأن رواية «أولاد حارتنا» للأديب نجيب محفوظ، التي اتهمت بالإساءة إلى الأنبياء والرسل، والطعن في الذات الإلهية، فصدر تقريران من مجمع البحوث الإسلامية تفصل بينهما عشرون عامًا، أجمعا على إدانتها والتوصية بحظرها، وفعلًا، صدرت طبعة الرواية الأولى عن دار الآداب في بيروت عام 1962، ولم تطبع في مصر حتى عام 2006 حين صدرت عن دار الشروق، إذ اتفق محفوظ مع الممثل الشخصي للرئيس المصري جمال عبدالناصر، حسن صبري الخولي، على عدم نشرها، حتى يوافق الأزهر على ذلك.
الرواية كتبها محفوظ بعد انقطاعه عن الكتابة 5 سنوات، حينما رأى انحراف سلوكيات ثورة يوليو عن شعاراتها ومبادئها، فجاءت نقدًا رمزيًا للسلطة الناصرية، على خلاف أسلوبه الواقعي، ورغم حملها رمزيات عميقة، كتفسير بعض المؤولين لها بأنها تسعى إلى المصالحة بين العلم والدين، فإن المتشددين لم يحملوها إلا على ما تبادرت أذهانهم إليه من تفسير، فأنكروا سائر الأوجه الأخرى والطبيعة الرمزية للعمل الأدبي، ففعلوا ما فعلوا، وأرذله فتوى عمر عبدالرحمن بردّة نجيب محفوظ وهدر دمه، ما أدّى لاحقًا إلى أن ترصّد أحد الغوغاء بمحفوظ حين خروجه من منزله متوجهًا إلى ندوته الأسبوعية، فطعنه بسكين في رقبته عام 1994، ما كان له الأثر البالغ على صحته، وقدرته على الإمساك بقلمه، ليكتب من جديد، رغم نجاته من هذه الجريمة.
كتب تضم عناوين الكتب الممنوعة
يقول العالم والفيلسوف والأديب الألماني «غيورغ كريستوف ليشتنبرغ» (1742 - 1799): «الكتاب الأكثر استحقاقًا للمنع في العالم، هو الكتاب الذي يضم عناوين الكتب الممنوعة»، وانطلاقًا من مقولته، نشير إلى كتابين من هذا القبيل، هما الأكثر استحقاقًا للمنع وكذلك القراءة، ويا لها من مفارقة!
أدباء أمام المحاكم: الأدب الممنوع عبر أربعة قرون
تقول النبذة التي كتبها الناشر على ظهر الطبعة العربية للكتاب «في ألمانيا أيضا كان الجنس والدين والسياسة هو الثالوث الذي تسبب في رفع قضايا على أدباء من وزن «غونترغراس» و «كلاوس مان» و«كورت توخولسكي» و«فرانك فيديكند»، فبالخيال الجموح والرغبة الحرة في نقد المسلّمات المقدسة، وهزّ ثوابت الثقافة المحافظة ضيقة الأفق، ومهاجمة روح الخنوع السياسي، يصطدم الأدباء بين الحين والآخر بنصوص القانون ومؤسسات القضاء، وهذا الكتاب يجمع مقالات عن أشهر القضايا التي شهدها تاريخ الأدب الألماني منذ القرن السابع عشر، مرورًا بجمهورية «فايمر» وحقبة النازية، وانتهاء بألمانيا المقسّمة إلى شرق اشتراكي وغرب رأسمالي".
أعدّ هذا الكتب وجمع مقالاته، الباحث الألماني «يورغ – ديتر كوغل» الذي درس الفلسفة والتاريخ والأدب الجرماني في جامعة كولونيا، وترجمه الأساتذة سمير جريس ومحمد عودة ود.عدنان عباس، بمساهمة برنامج «ترجم» التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم.
الحرية وأخواتها
وبينما يروي الكتاب السابق حكاية صراع المنع والحريات في ألمانيا، على مدى أربعة قرون، نجد كتاب «الحرية وأخواتها» لمؤلفه الشاعر والصحفي عيد عبدالحليم، يتناول أهم قضايا قمع الأدب والفكر في مصر خلال القرن العشرين، والتي وصل كثير منها إلى ساحات المحاكم والقضاء، ومنها قضية طه حسين عن بحثه «في الشعر الجاهلي»، وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرزاق، وكتاب «أحوال المرأة في الإسلام» لمنصور فهمي، و«من هنا نبدأ» لخالد محمد خالد، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و«خريف الغضب» لمحمد حسنين هيكل، ومسرحية «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا» لعبد الرحمن الشرقاوي، بالإضافة إلى قضية التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته د.ابتهال يونس، بسبب مجموعة من كتبه وبحوثه، وكتاب «رب الزمان» لسيد القمني، وديوان «هوامش على دفتر النكسة» لنزار قباني، وغيرها من القضايا، كما يتحدث المؤلف في فصل بعنوان «الوطنية المصادرة" عن ديوان "وطنيتي" للشيخ علي الغاياتي الذي كتب مقدمته الزعيم الوطني محمد فريد والذي سجن بسببها ستة أشهر، في حين هرب الغاياتي إلى أوربا نظر لأن الديوان أثار حفيظة الخديوي والإنكليز لما تضمنه من قصائد وطنية.
نماذج من الملاحقة القانونية للأدباء
قبل العودة إلى سؤال المقال، وعما إذا كان من الواجب تحصين الأدب من المساءلة القانونية والقضائية، نستعرض فيما يلي نماذج من الأعمال الأدبية التي أُحيلت إلى المحاكم أو اتُّخذت بشأنها إجراءات قضائية أو قانونية، وهي كالتالي:
رواية «مسافة في عقل رجل»
صدرت هذه الرواية عام 1988 لكاتبها «علاء حامد»، فطبعت ونشرت دونما اعتراض وبيعت في الأسواق قرابة سنتين إلى أن كتب أحدهم في عموده في جريدة الأهرام مقالًا بعنوان «سلمان رشدي آخر في مصر»، متهمًا الرواية بالتطاول على الأديان والسخرية بالأنبياء والرسل، فسارعت مباحث المصنفات الأدبية في مصر إلى مصادرتها وسحبها من الأسواق، وألقت القبض على كاتبها وطابعها، فأمرت النيابة العامة بحبسهما حبسًا احتياطيًا استمر ثلاثة أشهر حتى أُخلي سبيل الكاتب بكفالة 2000 جنيه، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فقد أوقف الكاتب عن عمله في مصلحة الضرائب وأحيل إلى النيابة الإدارية التي أمرت بفصله من العمل، وصدر الحكم لاحقًا من محكمة أمن الدولة بحبسه 8 سنوات، وتغريمه 1500 جنيه، وكذلك صدر حكم مماثل بحق الطابع. جدير بالذكر أن د.فرج فودة، الذي قتل لاحقًا برصاص المتطرفين، كان من الشهود في هذه القضية الذين شهدوا لمصلحة كاتب الرواية وكذلك شهدت نوال السعداوي.
ومن سوء طالع علاء حامد أن صدرت له رواية أخرى بعنوان «الفراش» فحوكم أيضا بسببها وصدر عليه حكم بالحبس سنة، مما أدى به إلى أن يقطع شرايين يده احتجاجًا.
رواية «عزازيل»
كتب د. يوسف زيدان روايته الرائعة «عزازيل»، التي صدرت عن دار الشروق عام 2008، وتدور أحداثها في القرن الخامس الميلادي ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سورية، بعدما تبنت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، وعرض من خلال الرواية الاضطهاد المسيحي للوثنيين الذي بلغ ذروته حين سُحلت هيباتيا الفيلسوفة والرياضية والفلكية الوثنية الأفلوطينية في شوارع الإسكندرية بيد الغوغاء من المسيحيين، كما تتطرق الرواية إلى الانشقاقات الفكرية والمذهبية في الكنيسة وظهور التيارات "الهرطقية".
وأثارت الرواية استياء الكنيسة الأرثوذوكسية في مصر فأصدر الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بياناً اتهم فيه مؤلف الرواية بالإساءة إلى المسيحية، كما قدم نجيب جبرائيل محامي الكنيسة الأرثوذوكسية ورئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان بلاغًا إلى النيابة العامة ضد يوسف زيدان.
عمارة يعقوبيان
دارت رواية «عمارة يعقوبيان» لكاتبها علاء الأسواني، في مكان محدد، ولم تبدأ المتاعب مع مؤلفها، إلا بعدما مثّلت وأنتجت كفيلم، فرفع بعض سكان العمارة دعاوى قضائية ضده، وزعم أحدهم أنه المقصود بشخصية المثلي جنسيًا، خصوصا أن اسمه الأول متماثل مع اسم شخصية الرواية، فطلب من المحكمة تعويض أدبيا ضد الأسواني مقداره 10 ملايين جنيه، وحكمت المحكمة ضد الكاتب لاحقًا بتعويض 25 ألف جنيه.
وعن ذلك يقول علاء الأسواني، في مقال له بعنوان «حرية الإبداع وأخواته»": «محاكمة الأديب على خياله وإخضاع الأعمال الأدبية إلى تقارير الشرطة ومحاضر النيابة علامة على التخلف السياسي والحضاري، والمستقر في الدول الديمقراطية أن محاكمة العمل الأدبي يجب أن تتم بواسطة نقاد الأدب وليس ضباط البوليس ووكلاء النيابة».
يوسفينه موتسنباخر
نستعرض هنا نموذجا من كتاب «أدباء أمام المحاكم»، وهو رواية تحكي قصة عاهرة من فيينا بدأت مهنة الدعارة عندما كان عمرها ست سنوات، وتصور الرواية أوجهاً متعددة للشذوذ الجنسي كنكاح المحارم والمازوخية وجنس الأطفال، وتعرض تحرش مدرسي التربية الدينية في المدرسة بـ "يوسفينه" بطلة الرواية. وقد شاع أن الرواية للكاتب «فيلكس سالتن»، إلا أنه رفض طوال حياته أن يعترف بأنه هو الذي كتبها كما لم ينفِ ذلك حينما كان يسأل عنها، وبعد وفاته رفع ورثته دعوى قضائية طالبوا خلالها بنصيبهم من أرباح بيع الرواية إلا أن المحكمة رفضت دعواهم لعدم وجود دليل يثبت أو ينفي أن والدهم هو كاتب الرواية.
إن محاكمة الأديب على خياله وإخضاع الأعمال الأدبية إلى تقارير الشرطة ومحاضر النيابة علامة على التخلف السياسي والحضاري
- علاء الأسواني
خاضت الرواية حربًا ضروسًا مع المصلحة الاتحادية والمحاكم في ألمانيا في سبيل فسحها والتصريح ببيعها، وقد نشرت أول مرة مطلع القرن العشرين، وفي حيثيات أحكام المحاكم ومذكرات الدفاع والمرافعات المتعلقة بالرواية يمكننا قراءة إشكاليات تشريعية وأخلاقية شائقة من قبيل ماذا لو كانت الإباحية يمكن أن تُعدّ أدبًا؟ وماذا لو كانت عناصر الأدب كالخيال مثلًا متحققة ومتوافرة في الرواية؟
هل يجب أن يحصن الأدب من المساءلة القانونية؟
في الاتجاه الأول الذي يدعو إلى تحصين الأدب من المساءلة القانونية يمكن الاحتجاج بأن الأدب عمل إبداعي بطبيعته، وأن الإبداع والفن لا حدود لهما، وكلما قُيّدا كُبح خيال الفنان وعرقلت عجلة الحضارة من التقدم، كما يمكن الاحتجاج بأن الأدب بطبيعته رمزي أو ينطوي على رمزية أو سريالية لا يجوز تفسيرها وتأويلها بالأدوات التي نفسر بها النص العادي واللغة المألوفة، علاوة على أنه يوغل في استعمال اللغة المجازية والصور الخيالية التي يحتمل تأويلها وجوهًا كثيرة وغامضة ومبهمة أحيانًا، ومن الحجج التي تساق في هذا الاتجاه أيضًا أن الأدب يتضمّن نطقًا على لسان شخصيات العمل الأدبي، فكاتب الرواية يخلق عالمًا من الشخصيات التي لا ينطق كل منها بما يعتقده الكاتب ويقصده، بل إن بعضها قد يروي ما يخالف قناعة الكاتب، وربما عرض الكاتب ذلك لإيصال رسالة معاكسة إلى القارئ، ويقال أيضًا إن الأدب عمل ذوقي لا يمكن إخضاعه للضوابط والقواعد القانونية والمنطقية والأخلاقية، فلا معيار يحكم الذوق، كما قد يدافع عن هذا الاتجاه من منطلق مذهب «الأدب للأدب» أو «عبثية الأدب»، إذ يقال إن الأدب والفن هدف في حد ذاته لا تطلب غاية وراءه، فلا يتمتع المجتمع بشرعية لمساءلته ومحاكمته، لأنه حالة فردانية محضة، وأخيرًا قد يتمسك أرباب هذا الاتجاه بحرية التعبير لتدعيم موقفهم.
أما في الاتجاه الآخر الذي يناصر المنع ووضع الضوابط والقيود فيمكن الاحتجاج بمذهب «اجتماعية الأدب»، الذي يرى أن للأدب رسالة خطيرة ونافذة تحدث تغييرًا في المجتمعات على جميع الصُّعُد التربوية والاجتماعية والسياسية والعقائدية، بل إن من شأن الأدب والفن أن يسحرا القلوب والعواطف والمشاعر فيقلبا الحق باطلًا والباطل حقًا، كما أن الفن قد ينطوي على جرائم تمس الآخرين، كالتحريض على القتل والسب والقذف، ويمكننا تلمس ذلك جليًا في أدب الجماعات المسلحة الإرهابية والمتطرفة، التي تحرص على ترويج الأناشيد والقصائد والأعمال الأدبية التي تعبئ المراهقين والغوغاء للانخراط في صفوفها، كذلك يمكن أن يحتج أنصار مذهب التقييد والمنع بأنهم كآباء وأمهات وتربويين لا يريدون لأبنائهم أن يطّلعوا على أفكار منافية للقيم والأخلاقيات والآداب العامة، ويمكنهم أن يتمسكوا أيضًا بأن حرية التعبير ليست مطلقة وأن أعتى الدول ديمقراطية ما زالت تفرض قيودًا عليها، فتقييدها غير مرفوض من حيث الأصل، وإنما النقاش في معايير التقييد والمنع وضوابطها.
كذلك يحتج أصحاب هذا الاتجاه بضبابية تعريف الأدب والفن وانعدام وجود معيار دقيق جامع مانع للتفريق بين ما هو أدب وما لا يعد كذلك، بما سيجر كثيرًا من الأعمال اللغوية إلى نطاق الحصانة المزعومة، فهل من الممكن مثلًا أن نعد القصائد المباشرة التي لا تنطوي على خيال ولا إبداع ولا حس أدبًا؟ وهل من الممكن أن نحصّن كتابًا عاديًا مباشرة بمجرد أن نضع على غلافه كلمة «رواية» فقط؟ وأخيراً يرد أصحاب هذا الاتجاه على الحجج النابعة من فلسفة اللغة بأنها حجج سفسطية، لأن العمل اللغوي وإن تعددت معانيه واحتمل كثيراً من التفسيرات فإن ثمة معنى ثابتاً يقبع وراءه لا يمكن أن نماري فيه، وإلا انتفت اللغة وسقطت ولم يعد لها وجود.
علي العريان