رسمتك على المشاوير: تأملات ذاتية في عالم فيروز
مَن يتأمل في أغاني فيروز يتوصل إلى أنها ذات طبيعة مختلفة. نتحدث عن كلمات الأغاني بشكل خاص، دون الألحان أو الموسيقى أو الأداء. كلمات أغاني فيروز نَسجت عبر كل أغنية تغنيها عالمها الخاص. وحين نعبِّر عن مجموع أغاني فيروز بلفظ «العالَم»، فهذا لأن معظم أغانيها تشبه أغنية واحدة طويلة يجري اقتطاع أجزاء منها.
استطاعت فيروز أن تحفر مكانتها ليس باعتبارها صوتًا غنائيًّا، بل لأنها تقدم نوعًا مختلفًا من الشعر الغنائي، نوع استطاع أن يخاطب الوجدان بالكلمة والموسيقى واللحن عنصرًا متصلًا وليس وحدات منفصلة مؤتلفة.
كثيرة هي الحكايات التي تتحدث عن السياج الحديدي الذي ضربه الأَخوان رحباني حول فيروز باعتبارها ملكية خاصة بهما. حتى عندما سُمِح لشعراء وملحنين آخرين بالتعامل معها، كان ذلك تحت رعايتهما وإشرافهما واحتفاظهما بالتوزيع الموسيقي.
أراد الرحبانية أن تخرج التجربة الفيروزية محملة برؤيتهما الخالصة. لذلك، اشترك منصور وعاصي في صناعة مئات الأغاني لها، غالبيتها تلحينًا وغناءً، وقليل منها كتابة فقط أو تلحينًا فقط.
رغم مساوئ هذا الاحتكار، فإنه منح فيروز تفردها عن سائر المطربين والمطربات في المنطقة العربية، وأسهم في تشكيل العالم الفيروزي. وحتى ندرك هذه العناصر، يجب أن نرجع قليلًا بالزمن إلى مُكونات هذا العالم في مخيلة الأخوين رحباني منذ البداية.
فيروز الرحبانية
لم تُرضِ الموسيقى وحدها شغف الرحبانية نحو تقديم رؤيتهما للعالم، ففعلا ما هو أكثر: أسسا مسرحهما الخاص.
في بيئة ريفية تعبق برائحة الليمون من الأشجار التي تنمو فوق جداول المياه العذبة، وبين حكايات الجدة وأساطيرها وعزف والدهما على «البزق» وأغاني الفونوغراف في مقهاه، نشأ حب الموسيقى والشعر في وجدان الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، فكتبا وعزفا منذ كانا صبيين.
منذ أن كانا صغارًا لم يتوقف منصور وعاصي عن منافسة بعضهما. ليست المنافسة المغلفة بالحقد أو الغيرة، بل المليئة بالامتزاج والتكامل. أسس عاصي مجلته الخاصة في الرابعة عشرة من عمره، وأسماها «الحرشاية»، ثم انعكس ذلك على منصور الأصغر بعامين بعد أن سخر منه عاصي في «الحرشاية»، وبعد أن رأى تلهف الأصدقاء على الأعداد الجديدة من المجلة، فأسس مجلة «الأغاني»، وصارا يكتبان بخط اليد ما يجول بخاطرهما، ويسطرانه شعرًا أو قصصًا مسلسلة، حسب ما يروي منصور في كتاب «في رحاب الأخوين رحباني» لهنري زغيب.
أثرت التجربة في كليهما، لكن منصور كان أقرب إلى الشعر. رغم ذلك، لا ندري أيهما الذي كان يؤلف وأيهما يلحن. فقد كانت جميع الأغاني التي صنعاها لفيروز تخرج ممهورة باسميهما معًا: «الأخوين رحباني»، كأنهما واحد، الأمر الذي حرصا على إظهاره طوال الوقت.
رفض منصور الرحباني نسبة قصيدة «لملمت ذكرى لقاء الأمس» إليه وحده، كما ذُكر في كتاب التربية الأساسي المقرر على طلاب السنة التاسعة، فأرسل برقية إلى جريدة «النهار» قائلًا: «هذا الأمر مغلوط تمامًا، ومرفوض مني شخصيًّا، لأن القصيدة صدرت باسم الأخوين رحباني، وليست لمنصور أو عاصي».
رغم ذلك، وبعد اكتمال المشروع الرحباني، صدر باسم منصور دواوين «أنا الغريب الآخر» و«أسافر وحدي ملكا»، وغيرها. ومن النصوص التي تحتويها الدواوين، خصوصًا «أنا الغريب الآخر»، يتضح لنا كيف كان شاعرًا متمكنًا، إذ يمكننا قراءة قصائده بشكل منفصل. لم تُرضِ الموسيقى وحدها شغف الرحبانية نحو تقديم رؤيتهما للعالم، ففعلا ما هو أكثر: أسسا مسرحهما الخاص، الذي كان خارجًا من عمق الثقافة اللبنانية إلى جانب رتوش أخرى عامة، كحالة الانتظار العبثية لقطار غير موجود في «المحطة»، والتجريد الذي يحدث في مسرحية «الشخص» بأبطال من دون أسماء أو أبعاد إنسانية.
لا تنفصل مسرحيات الرحبانية عن أغنيات فيروز، فهي ترجمة مجسَّدة للعالم الفيروزي. إذ إنها غنت في مسرحياتها أشهر الأغاني، مثل «سألوني الناس» و«نطرونا كتير» و«سهر الليالي» و«راجعين يا هوا» و«آخر أيام الصيفية» و«سألتك حبيبي» و«قهوة ع المفرق» و«ليالي الشمال الحزينة» و«كان الزمان» و«رجعت الشتوية» وغيرها.
لعلك تشاهد الديكور والحوار في المسرحيات فتفهم العالم الذي كان ينسج فيه الرحابنة أغاني فيروز، التي ظلت لصيقة ذهن كل مواطن عربي ووجدانه. لذلك لا يمكن فصل أغانيها عن طبيعة المسرح الرحباني، سواء المسرحية منها أو المنفردة.
فيروز تغني للكون: «وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني»
في عالم فيروز هناك وَلَهٌ كبير بالعصافير، فحين تحب أحدهم تصفه بأنه «مواسم العصافير»، وحين تكرهه يصير «عصفور الشوك».
لو تأملنا في تجربة فيروز الغنائية من الخارج دون الدخول في التفاصيل الفنية للرحبانية، وأقصد التأثير الوجداني لأغاني فيروز، فإننا نلمس طبيعة شعرية لأغانيها، الصورة النمطية للشاعر الذي يعيش حياته شاعرًا.
موضوعات أغاني فيروز تدور حول الوحدة: «وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني»، «وحدي منسية بساحة رمادية»، والوحشة: «ما فيه حدا لا تندهي ما فيه حدا»، وتبدُّل الحال: «كل أصحابي كبروا، واتغير اللي كان»، والحنين إلى الماضي: «بدي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران»، والبؤس: «ضجرت مني الحيطان»، والانسحاق: «يحكوا عنك يا حبيبي وأنا بنتسى، يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى»، وغيرها كثير من الاتجاهات التي غلفت تجربتها بالشجن والشاعرية الذي يميز أمزجة الشعراء.
تبدو أغاني فيروز غناءً للكون وتعبيرًا أقرب إلى الذاتية، عكس محتوى أغلب الأغاني التي تدور في شكل خطاب مباشر للحبيب، وكلها حول «حلاوة الحب ومُر الفراق»، وقليلًا ما يخرج محتوى الأغاني عن هذه المتلازمة.
عالم فيروزي
كثير من «اللزمات» في أغانيها شكَّلت ملامح العالم الفيروزي الذي نتحدث عنه، وتكرار هذه اللزمات في عدة أغاني يعكس ارتباطًا ذهنيًّا بين اللزمات وفيروز، لدرجة أننا من الممكن أن ننسج فصول القصة بأكملها من كلمات الأغنية فحسب، خصوصًا أن هناك مراجع متعددة من أغانٍ أخرى بسبب هذا التكرار.
العصافير: «قصص الهوى متل العصافير»
هناك وَلَهٌ كبير بالعصافير، فقد وصفت فيروز حبيبها بأنه «مواسم العصافير» في أغنية «شايف البحر»، ثم وصفته بـ«عصفور الشوك» في أغنية «علموني». وفي «رجعت الشتوية» وصفت قصص الهوى بأنها «متل العصافير»، واستخدمت العصافير رمزًا في «سمرا يا أم عيون وساع»، عندما حكت عن «امبارح كانت عم بتقول عصفورة لأختها بالسر، شالك يا سمرا مغزول من لون الزهر المخضر».
خاطبت فيروز العصفورة بلهجة حاسمة، مؤكدة أنها لحبيبها وحبيبها لها كذلك: «يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي». ووصفت نفسها في «ليالي الشمال الحزينة» بأنها «عصفورة الطرقات»، واستخدمت نفس العصفورة مرسالًا في «ديروا المي» حين قالت: «بكير ببعت لك العصفورة لتخبرك قديش حبيتك».
في زمن «حنا السكران» قالت: «نحنا والعصافير كنا بالحي ندور». ويبدو أن الأسطح كانت حمراء في أغنية «حمرا سطيحاتك»، لأن «كلها رفوف عصافير». ربما هو السطح ذاته ذو العلية المسقوف بالورد المذكور في أغنية «بتشوف بكره بتشوف»، التي كان للطيور حضور خاص فيها: «فراشات بتجينا رفوف وطيور تقصدنا ضيوف». ثم تصف نفسها قائلة: «أنا عصفورة الشمس، أنا زهرة الحرية» في أغنية «عصفورة الشمس». ولا تتوقف العصافير عن الزقزقة المستمرة في أغاني فيروز والتحليق بالقرب من جارة القمر.
الشهور والفصول: «بعيونك ربيعي نوَّر وحِلي»
فالصيف فصل الحب حين تقول: «مرق الصيف بمواعيده، والهوى لملم عناقيده». ولا تبتعد فيروز كثيرًا عن وحشة الشتاء حتى مع لملمة الصيف أوراقه، فتقول إنه كان «آخر أيام الصيفية»، وتجد أن هذا وقت مناسب كي تكون منسية في ساحة رمادية، ولا تتوقف عن ذكر كآبة الشتاء وإحيائه للحنين مع تسليمها بِسُنَّة الحياة حين تقول: «رجعت الشتوية، ضل افتكر فيا».
إذا كان الصيف وقت بدء قصص الحب والشتاء موعد انتهائها، فقد ظلت فيروز مرابطة لحبيبها، ولم تتوقف عن حبه صيفًا أو شتاء، أو انتظاره صيفًا أو شتاء: «حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتا، نطرتك بالصيف، نطرتك بالشتا». ثم تصف عيونه الجافة: «وعيونك الصيف» مقارنةً بدموعها المطيرة: «وعيوني الشتا». ولا تتوقف عن الحديث حول ازدهار قصص الحب في الصيف: «حبيبي ندهني قاللي الشتا راح، رجعت اليمامة، زهَّر التفاح».
وحتى إذا نشأت قصة الحب في الشتاء، كما في «بأول شتا حبوا بعضن»، فلا مفر من انتهائها في الشتاء التالي أيضًا: «وخلصت القصة بتاني شتا».
رغم خروج هذه الأغنية من عباءة الأخوين رحباني، فإن ابنها زياد عبَّر عن الخريف بالسقوط أيضًا حين كتب لها ولحَّن: «بتذكرك بالخريف»، دلالةً على القصص المنتهية. وللمفارقة، في نفس الأغنية، ربما كان زياد يريد أن يفسر أو يتهكم على اهتمام عائلته بالفصول، فقال: «القصة مش قصة طقس يا حبيبي».
تشعر في العالم الفيروزي بأن هناك علاقة طويلة المسافة بين فيروز وحبيبها، هناك فراق تستعين عليه بالمكاتيب والهدايا والسلام على من يراه.
حضور الفصول ليس السمة الوحيدة في أغاني فيروز، هناك أيضًا حضور للشهور. فأغنية «بكره بييجي نيسان» تصفه فيها بأنه «يسألنا وبيرش ورود عا منازلنا». وبنفس المعنى تتساءل في «بعدك على بالي»: «إذا نيسان دق الباب، خبيت وجِّي». أما في «دخلك يا طير الوروار»، فإن «كروم التين تنده تشرين». تربط فيروز بين الخريف وحبيبها قائلة: «ورقه الأصفر شهر أيلول، تحت الشبابيك ذكرني فيك».
علاقات المسافات الطويلة: «خد لي بدربك هالمنديل»
تقول: «سلم لي عليه، قول له إني بسلم عليه». وتعاتبه برقة: «الله لا يشغل لك بال، وديني منك مرسال اسأل اسأل». وترسل له منديلًا في أغنية «يا مرسال المراسيل». أما المكاتيب فتفشي سر علاقتهما المتوارية: «وانسرقت مكاتيبي، وعرفوا إنك حبيبي»، المكاتيب ذاتها ربما التي أخدها الهوى (أو الهوا) في «سألوني الناس». وربما تكون المكاتيب دلالة على نهاية العلاقة مثلما في أغنية «لا أنت حبيبي»: «ردت له مكاتيبه ورد لي مكاتيبي».
فيروز، التي تبدو وكأنها في علاقة طويلة المسافة من طرف واحد ربما، أو على الأقل هناك فارق في العواطف المتبادَلة، لا غرابة أن نجدها تغني مقطعًا مثل «كتبنا مية مكتوب ولهلق ما جاوبنا».
الطيور مهمة في تلك العلاقة بعيدة المسافة، وطير الوروار كان له مهمة هي السلام على من «يبعدوا مشوار»: «دخلك يا طير الوروار، رح لك من صوبهن مشوار، وسلم لي ع الحبايب، وخبرني بحالهن شو صار». تقريبًا نفس مهمة البلبل: «روح يا بلبل واسأل عن أرضه عن دنية جماله وعود».
الحنين للطفولة: «بدي إرجع بنت زغيرة»
عند الحديث عن أغاني الطفولة فإننا لا نقصد الموجهة للأطفال أو التي استلهمت من الفلكلور، مثل «تك تك تك يا أم سليمان» أو «يالله تنام ريما»، بل الأغاني التي تستدعي الطفولة وتتباكى عليها.
لا يوجد تجسيد لذلك أكثر من أغنية «كنا نتلاقى»، التي تقول فيها بأداء أقرب للتفجع: «يا سنيني اللي راح ترجعي لي، ارجعي لي شي مرة ارجعي لي ، وانسيني ع باب الطفولة، لأركض بشمس الطرقات». تقريبًا بنبرة أكثر هدوءًا تتناول نفس الفكرة في «طيري يا طيارة»، إذ تقول: «طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان، بدي أرجع بنت صغيرة ع سطح الجيران».
تبدو أغنية «سوا ربينا» استذكارًا لحبيب نشأ معها: «سوا ربينا، سوا مشينا، سوا قضينا ليالينا»، ربما هو ذاته الحبيب الذي ستنقلب عليه في أغنية «لا أنت حبيبي» وتقول له: «لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا».
باستحضار أيام الطفولة في أغاني فيروز نصل إلى أزمة مرور الزمن، حالة دائمة من الحنين والشجن لدرجة أنها أحيانًا لا تعرف لمن هذا الحنين.
ألا يتماس هذا مع الطفولة المبكرة للشخصية التي تتحدث بلسانها فيروز مع شادي في أغنية حملت اسمه: «أنا وشادي غنينا سوا، لعبنا على التلج وركضنا بالهوا». قصة حب وليدة تدور في خلفيتها، وبشكل يكاد يُظهر بصعوبة الحرب الأهلية اللبنانية: «ويوم من الأيام ولعت الدني، ناس ضد ناس علقوا بهالدني، وصار القتال يقرب على التلال».
هذه المعارك تتضح لتصبح جوهر أغنية أقل شهرةً من شادي، غنتها في مسرحية «بترا»، تقول فيها: «زغيرة وما بتعرف بحرب الكبار، كانت عم تلعب أخدها النسر وطار»، ثم تستدعي من رفوف الذاكرة حكايات الطفولة، مثل «الطاحون» الذي كان يطحن فيه جدها القمح للحي، أو أسطورة «حنا السكران» القابع خلف الدكان لرسم بنت الجيران، وما زالت أيام الصبا (الولدنة باللهجة الشامية) تداعب ذاكرة فيروز، فتقول: «سنة عن سنة عن سنة، عم تغلى ع قلبي يا عهد الولدنة».
الزمن: «كل أصحابي كبروا»
باستحضار أيام الطفولة في أغاني فيروز نصل إلى أزمة مرور الزمن، لنجد حالة دائمة من الحنين والشجن الذي يسبب اضطرابًا، لدرجة أنها أحيانًا لا تعرف لمن هذا الحنين. ألم تقل: «بنودع زمان، لنروح لزمان»؟ وقالت أيضًا في «قهوة ع المفرق» متأسية: «متل السهم الراجع من سفر الزمان، قطعت الشوارع ما ضحك لي إنسان، كل أصحابي كبروا واتغير اللي كان، صاروا العمر الماضي، صاروا دهب النسيان».
هذا الشعور بمرور الزمن، المغلف بالشجن والأسى، يصاحبنا طوال الوقت. فهي تغني أيضًا: «راحت الأيام وشوي شوي، جدي صار طاحون الذكريات». وتضع نهاية مأساوية للقصة الأسطورة: «حلوة بنت الجيران، راحت في ليلة عيد، وانهدت الدكان، واتعمر بيت جديد، بعده حنا السكران، على حيطان النسيان».
حتى في أغنية «كان ياما كان»، التي يظهر من عنوانها أنها حالة ملتبسة من الحنين، تقول فيها: «ربيع انتهى، أليف التهى، والهوى بعده ما انتهى». وربما الشجن الناتج عن مرور الزمن يكون نقيضه (توقف الزمن) باعثًا على الأسى أيضًا: «صارلي شي مِية سنة مشدوحة بهالدكان، ضجرت مني الحيطان»، و«عشرين مرة إجا وراح التلج، وأنا عم بكبر، شادي بعده صغيَّر».
مفردات العالم الفيروزي: «باب مفتوح وستار بيلوح»
مما سبق يتبين لنا شكل العالم الذي تعيش فيه فيروز. ولأننا حاولنا الالتزام بأغاني الأخوين رحباني قدر الإمكان، فإن الضِّياع التي ترعرعا فيها انعكست على أغانيهما. ولا عجب أن تكون فيروز المعبرة الأولى عن الطبيعة اللبنانية.
يبدو العالم الذي تغني فيه فيروز ضيعة أو قرية صغيرة مليئة بالبيوت، وأمام كل منزل عِليَّة/مصطبة: «بيته بآخر البيوت قدامه عليَّة»، أو عريشة: «تحت العريشة سوى قعدنا»، تتدلى عليها كروم العنب: «كرم المحبى استوى خبى منازلنا».
في هذه الضيعة تغذي عيون المياه الحقول: «تدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلى». وكعادة القرى الصغيرة، فإن أهلها يهتمون ببعضهم، ما يخلق الدراما في أغاني فيروز: «والإبر مسنونة والعيون مسنونة، زهر بالدوَّارة وزهر عند الجارة، غزلت بمغزلها قصتنا بمغزلنا».
ربما يحدث هذا في سهرات أهل الضيعة ومسامراتهم: «وبكره بيدور السهر تحت قناديل المسا»، «شالله بتكون عم تسهر أنتو وهالجارة». رغم ذلك تصدح العصافير، وتطير الفراشات، وينبت الورد في كل موطئ، وتنمو قصص الحب الوليدة: «وقال عاشق من ضيعتنا للبيت اللي بيحبها»، لأنها غالبًا بيئة مثالية لنمو قصص الحب بها كما يتفتح الورد وتطير الفراشات وتمطر الدنيا ياسمينًا.