الخيال والفانتازيا: مفتاح الكاتب لذاته ونافذة القارئ لروحه
أن نستشعر روعة الإثارة وراء فكرة قصة شهرزاد واستمرارها في سرد الحكايات لشهريار في سبيل النجاة من الموت المحقّق على يده، يعني أن نتأمل فكرة أن لا خلاص لنا أحيانًا إلا بالقصص والأدب والخيال.
كثير منا يركن إلى عالم الخيال والأدب، وكثيرًا ما نجد أنفسنا بين عالمَيْن: عالم نصحو في صباحاته مثقلين بالنوم الذي يتجمع في رؤوسنا كعقدة يابسة تتأرجح بين رغبة التمدد في الحنايا وتسلُّط الجسد المتيقظ، وآخر ندخل إلى أراضيه المتعددة، نجول فيها، ونثب بين كلماتها، ونستدرك عائدين إلى الوراء خوفًا من الوصول إلى نهايتها، فنقف لنتأمل معانيها ودلالاتها علّنا ننعم بديمومة، لوهلة. صحيح أن هنالك لحظات في الواقع تحمل مع مضيّها جمالًا لا يُنكر، إلا أن للقصص دهشة لا مثيل لها. فكلما اهتز بنا العالم، ثبتنا القدم الأخرى في عالم الحكايات، وكلما زعزع الأول الوقوف، أسند الأخير راحة يده كي لا نقع.
كدأب شهرزاد على التخييل، نهدف هنا إلى المشي في أركان الخيال، لا وصف الطريق إليه، أملًا في التوغل داخل ماهيته الفانتازية والتمكن من تقفي أثره، باعتباره لغة تحكي وتحاكي ذهني الكاتب والقارئ معًا، وليس تباعًا، وفق علاقة تبادلية تفضي إلى غاية واحدة في ذواتهما، وهي الوسيلة. ولعلها مفارقة واضحة أن نعرّف الخيال، أن نحدد ما لا حدود له، إلا أنه من المهم أن نتخذ خطوة أولى تجاهه، لا سيما حسب مفهومه في الفلسفة الأفلاطونية التي وضعت الأسس النقدية للفنون وتمثيلاتها المتعددة.
الخيال من العدم إلى الوجود
الحديث عن الخيال وفق نظرية أفلاطون يعود بنا إلى أسطورة الكهف التي باعد فيها الفيلسوف بين المحسوسات وماهيتها الحقيقية، إذ يأتي الكهف كرمز للمعبر الذي يحُول بين المرئي المتمثل في الظلال أمامنا، والجوهري المتمثل في أصل الظل: ألسنة النار خلفنا. فقد وضع أفلاطون الخيال في إطار المحاكاة، التي وصفها بأنها صورة يختلقها المحاكي (المُقلّد/الفنان) مستندًا إلى واقعٍ تجريدي لا يفقه جوهره ولا يعرف منه سوى الظاهر في عالم الأشكال والمعاني. وبذلك، لا تُعتبر الصورة المتخيلة مظهرًا من مظاهر الواقع، ما يعني إبعادها عن الواقع وإدخالها في حقل الوهم (اللاوجود)، إلى أن أتى تلميذه أرسطو وحرر الخيال من سجن المحاكاة.
«لك من خيالك ما يكمِّل فكرة الصلصال» - جاسم الصحيح.
بعد أن كان الخيال باعتباره فعلًا فنيًا سجين المحاكاة الأفلاطونية، أخرجه أرسطو من وضعية اللاوجود ليصبح وسيطًا تعبيريًا يرتحل بين الفكر والإحساس. فالمحاكاة الأرسطوية لا تحاول تمثيل الواقع كالمرآة، كما اعتقد أفلاطون، بل تسعى إلى تمثيل ما هو كائن وما يُحتمل أن يكون. إن الفن، حسب أرسطو، يتمم نقصان الواقع، فلا يتحقق كماله من كونه نسخة طبق الأصل من الواقع، بل من مقدرة الشاعر أو الفنان على التخييل حدّ الإقناع.
لكن حينما يكون الخيال رهن الإقناع، قد يعني ذلك ارتباطه ضمنيًا بالواقع ومنطقه. لنثب إلى سماء أعلى إذًا، حيث الكاتب والقارئ متفقان على أمر: كلما تمادى الأول في عالم مخيلته حدّ التعمق في السرد العجائبي، لحق به الأخير إلى جحر الفانتازيا كأليس المشدوهة بقفزات الأرنب الأبيض.
الفانتازيا: جحر الكاتب وغواية القارئ
من الممكن اعتبار مفهوم الخيال حسب النظرية الأدبية للفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف أقرب وصف إلى الفانتازيا، إذ يصف تودوروف الخيال بأنه أي حدث خارق للطبيعة ويستوجب تغيير قوانين الواقع. لكن حين يلجأ الكاتب إلى العنصر الخارق أو الفانتازي، فهو يعلم يقينًا أن القارئ سيقف بين صفحات الكتاب حاملًا دهشة تعيده إلى الواقع بقدر ما تبعده عنه. فالقارئ الذي يسير داخل مخيلة جوناثان سويفت في روايته العجائبية «رحلات غوليفر» رفقة الشخصية الرئيسية غوليفر، يجد نفسه في مدن لأقزام وأخرى لعمالقة، وأخرى لبشر تسّيرهم المشاعر دون هوادة، وآخرين يقودهم المنطق دون تحكم. مثلما يسخّر سويفت الفانتازيا في روايته من أجل التمطّي في المعنى قدر الإمكان، يسلّم القارئ وعيه لعوالم تسهم ألغازها في فك الكثير من استفهامات الحياة والبشرية والواقع والمنطق.
إذًا، فالكاتب يلجأ إلى الجوانب الغرائبية في النصوص الأدبية بغرض الفهم، لا سيما وأن الكتابة فعل بحث عن إجابة، والفانتازيا باب من أبواب المعنى التي تخرج بصانعها من حدود الكلمات إلى عالم لا تقيده الألفاظ، ليقول أكثر مما تعنيه اللغة في توازن سردي بين المألوف وغير المألوف. ومثلما يرتحل الكاتب بين حريته المخيفة في الخيال وأسرِه العذب في اللغة، يقع القارئ بين شد الواقع وجذب الأدب، حتى يعي أنه على شفا حكاية تحمل معنى أكبر من حدود الكلمة والحرف، فيمتثل للمجاز ويجاري دون مقاومة، متأرجحٌ بين مادية الكلمة وسحر تطاولات المعنى.
بين الخيال والفانتازيا.. «جوكر»
تُعرف ورقة الجوكر (المهرج) بأنها أقوى ورقة بين أوراق اللعب إذا ما استُخدمت في سياق يخدم قوتها ويظهرها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ملامح الفانتازيا لا تقتصر على جنس أدبي واحد، بل هي موجودة في سياقات ملحمية وكلاسيكية كثيرة، من حكايات شهرزاد وملحمات غلغامش والإلياذة، إلى كلاسيكيات ويليام شكسبير المسرحية، على سبيل المثال لا الحصر.
يقول جاك مهرج البلاط في مسرحية شكسبير «كما تشاء»، ضمن أشهر مونولوج درامي: «ليست الحياة سوى مسرح تجري عليه أحداث حياتنا، فكل الرجال والنساء ممثلون، والمرء يلعب في حياته أدوارًا عدة». مثل ورقة المهرج، قد يأتي مهرج شكسبير كشخصية لا تقدم للمتفرج سوى حكمة تسردها بأداء تراجيدي، لتعود بعد ذلك إلى العدمية التي ولدت منها. وقد يأتي كشخصية ذكية، تنقلها مخيلة شكسبير بدهاء فانتازي من حدود النص إلى خشبات مسارح العالم، تقتلع المتفرج من السبات في الخيال ليرى مهرج بلاط ينتمي لزمن ولّى، يضع الحياة بين يديه موضع تساؤل، ويبين أنه مُسير وفق نص وضعته سلطة عليا لا يقدر على الوصول إليها.
في جميع أحوال الخيال، فانتازيًا كان أم لم يكن، من الأجدى أن نعوّل على أرض الأدب والقصص لفهم ما هو كائن وتشكيل ما سيكون. كلما دنت تلك الأرض الساحرة لتضمنا داخل مساحاتها البديعة بكلماتها والمألوفة بغرابتها، وكلما أحسسنا بثقل استعصاء الفهم حدّ الملل من اليقظة هنا، تَعدُنا هي بالمزيد هناك، وتُطَمْئِن جفنينا أنْ ناما.. سنكمل غدًا، سنفهم غدًا، سنكون غدًا.
مريم المحميد