انقراض الأدب العربي: هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ .. بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
ربما لم يخطر ببال امرئ القيس، وهو واقف في صحراء نجد، يتحسّر على آثار خيام حبيبته وقومها، أن ما قاله سيخلد ليكتبه شخص على موقع إلكتروني بعد 1500 عام من موته، لكن هذا الخلود ربما يكون قد أشرف على نهايته، فالشعر بل والأدب العربي عمومًا، يعاني ضمورًا حادًا في متلقّيه وجمهوره، وهو ما يمكن استنتاجه بتأمّل المشهد الشعري المصري الزاخر بعدد هائل من الشعراء، ربما لا تتخيل وجودهم، يُصدرون بانتظام دواوين شعرية، لا يقرؤها إلا شعراء آخرون، وقد سألت صديقًا نشر ديواني شعرٍ، فعدَّ لي أسماء 27 شاعرًا لم أسمع بأحدهم يومًا، رغم أنني أحسب نفسي قريبًا من المشهد الشعري في مصر، فما بالك بالقارئ العادي؟
مر ّعلى المشهد الشعري العربي وقتٌ، كان الشعراء فيه نجوم المجتمع، وكان الناس يسافرون آلاف الأميال إلى سوق عكاظ، ليسمعوا قصيدة النابغة ويستكشفوا الجديد في المشهد الشعري. وحتى زمن قريب، كان أحمد شوقي يكتب القصيدة فيتلقفها الجمهور والصحف، وتُعقَد أمسيّات يحضرها جمهور غفير ليسمع الشاعر، ويشبهه في ذلك شعراء من أمثال نزار قباني ومحمود درويش وصلاح جاهين.
ومع أن بعض النقاد يرون أن «الرواية ديوان العرب المعاصر»، بعد أن حاز الشعر هذا اللقب لعصور خلت، فإن القصة والرواية ليستا أحسن حالاً من الشعر، فـالرواية التي تحتل قمة الأكثر مبيعًا ،يباع منها في المعتاد أقل من 10 آلاف نسخة، ورواية مثل «عمارة يعقوبيان»، التي حققت شهرة عالمية، بيع منها قرابة 100 ألف نسخة، بحسب مؤلفها علاء الأسواني، ومع أن هذه الأرقام لا تعتمد على إحصاءات موثقة، وإنما على التخمين، وتشوبها المبالغات، فإنها تعد ضئيلة في عالم عربي، يبلغ تعداد سكانه 250 مليونًا، ومع ذلك يعجز أي كتاب عن الوصول إلى 1% من هذا الجمهور، فلماذا؟
تابعنا على فيسبوك: منشور Manshoor
الصورة تهزم النص
الأدب المهدد بالانقراض ليس العربي وحده، فالنصوص المكتوبة عمومًا تواجه المصير ذاته؛ إذ تشير الدراسات الأمريكية والأوروبية إلى أن عدد القراء في انخفاض متزايد، سواء قراء الكتب الورقية، أو تلك المنشورة عبر الوسائط التكنولوجية، والانخفاض في القراءة الأدبية أكبر بكثير من الانخفاض الحاصل في القراءات العلمية وغيرها.
انخفض عدد برامج الدكتوراه في دراسة الأدب والفنون في الجامعات الأمريكية.
تشير دراسة أجراها الوقف الوطني للفنون في الولايات المتحدة، ونشرتها صحيفة واشنطن بوست، إلى أن عدد الأمريكيين الذين يقرؤون أعمالًا أدبية يتناقص ببطء، لكن بثبات عامًا بعد عام؛ فبينما كان 56.9% من الأمريكيين عام 1982 يقرؤون روايات أو قصصًا أو مسرحيات أو شعرًا، لمجرد المتعة لا للدراسة أو البحث، تناقص العدد حتى وصل في 2015 إلى 43.1%، رغم أن عدد المتعلمين والحاصلين على شهادات عليا تضاعف في الوقت نفسه. ووجدت الدراسة أن النساء يقرأن أكثر من الرجال، وأن كبار السن بين 65 إلى 74، أكثر الفئات مواظبة على قراءة الأدب.
وحتى في مجال الدراسات والأبحاث، انخفض عدد برامج الدكتوراه في دراسة الأدب والفنون في الجامعات الأمريكية، بعد أن كان قد بلغ ذروته في السبعينيات بـ1400 برنامج دكتوراه في الجامعات، لكن العدد انخفض بنسبة الثلث منذ ذلك الحين، وهو اتجاه يتّفق مع تقلّص دراسات العلوم الإنسانية (الأدب واللغة، والفلسفة، والموسيقى، والفن) ككل، التي انخفضت نسبتها بين جميع درجات الدكتوراه من 13.8% إلى 9.1%، بحسب دراسة نشرها موقع كتب نيويورك المهتم بأخبار الثقافة والأدب، وموقع Inside Higher Ed المتخصص في أخبار التعليم العالي.
أما الأطفال، فتقول صحيفة الغارديان البريطانية، إن أسرع الأنشطة نموًا وانتشارًا بين الأطفال، ألعاب الموبايل ومشاهدة اليوتيوب و«الشات» عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينما تتناقص قراءة الكتب. ونشرت صحيفة التايم دراسة كشفت أن نسبة المراهقين (17 عامًا) الذين لم يقرؤوا في حياتهم أي كتاب للاستمتاع، غير كتب المدرسة، بلغت 27%، وهي ثلاثة أضعاف النسبة في عام 1984، التي بلغت 9% فقط.
هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي وشكسبير ونجيب محفوظ؟
تتفق كل هذه الدراسات على أن التطور التكنولوجي، خصوصًا ظهور الإنترنت، ربما كان العامل الأكبر في الانصراف عن القراءة، فقد صارت الصورة والصورة المتحركة متاحة في كل بيت عبر الكمبيوتر والتلفاز، وفي كل يد عبر الموبايل، وربما فات هذه الدراسات أننا على الأغلب استبدلنا بقراءة الأدب، قراءة مواقع التواصل الاجتماعي.
هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي وشكسبير ونجيب محفوظ؟
الفصحى تضمحلّ
في كل مكان وزمان، توجد فجوة بين اللغة الرسمية «الفصحى» والشعبية «العامية»، هذا ينطبق على اللغات عمومًا بدرجات مختلفة، وعلى اللغة العربية نفسها طول تاريخها، إذ كانت فيها عاميات محليّة متنوعة تقترب أو تبتعد عن الفصحى، حسب الزمان والمكان.
لكن مشكلة اللغة العربية اليوم، أن الفجوة بين الفصحى والعامية تتسع باضطراد، فهي ليست اللغة المحكية في الواقع اليومي، الذي يتغير بشكل متسارع، تلبيةً لحاجات المجتمع وتغيُّر شكل الحياة، التطور التكنولوجي الهائل مثلًا في السنوات الأخيرة أجبر العامية على استعارة كلمات كثيرة من اللغات الأجنبية (شات، إنترنت، كمبيوتر، موبايل، نتوورك، بلوتوث، واي فاي...)، وحتى التطور في شكل الحياة الاجتماعية الغريبة عن العادات العربية واللغة المعبّرة عنها (بوي فريند boyfriend، كراش crush، وإكس my ex). وبينما تعمل مجامع اللغة على توفير مرادفات عربية لبعض هذه المفردات، تكون الكلمة الأجنبية قد ترسخت وصار من العسير تغييرها.
التعليم كذلك أحد أسباب بقاء وتوسيع الفجوة بين الفصحى والعامية، فـالتعليم الحكومي في العالم العربي عمومًا، بما في ذلك الدول الغنية، يفتقد إلى كثير من معايير الجودة والإبداع، أما التعليم الأفضل حالًا في المدارس الخاصة فيركز عادة على اللغات الأجنبية التي يتطلبها الترقي في سوق العمل، وفي كثير من هذه المدارس والمؤسسات التعليمية لا تُعد اللغة العربية مادة أساسية، أو لا تلقى العناية الكافية، وبالتالي فإن الطبقات الأفقر لا تتقن الفصحى، نظرًا لسوء التعليم، والطبقات الأغنى لا تتقن الفصحى، نظرًا لتركيز التعليم على اللغات الأجنبية.
السبب الثالث لتدهور الفصحى، سبب عالمي مرتبط بانزياح فنون النص لصالح فنون الصورة، ففي حين تستخدم الروايات وأنواع الأدب المكتوب الفصحى في الغالب، تستخدم الفنون المصورة والمسموعة اللهجات العامية، فالأفلام والمسلسلات والأغاني تستخدم اللغة المحكية حسب بلد الإنتاج (مصري، لبناني، خليجي، مغربي...) ويندر استخدام الفصحى إلا في الأعمال التاريخية.
هل تصلح العاميات المحلية بديلًا مناسبًا للغة العربية؟
وقد خرجت دعوات لاعتماد العامية لغة رسمية بدلاً من الفصحى في بعض البلاد العربية مثل مصر ولبنان، وهي دعوة قديمة، ظهرت للمرة الأولى مطلع القرن العشرين، وقاد لواءها بعض المثقفين، مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى، ومن لبنان الشاعر سعيد عقل ومثقفون فرانكفونيون في الجزائر والمغرب. وقد غلبت على التيار الداعي لاستبدال العامية بالفصحى، أسباب أيديولوجية متعلقة بالعداء للإسلام وتراثه أو التعصب للقومية المحلية، أكثر منها دوافع لغوية، فالكتابة بالعامية كانت وما زالت عصيّة على التقعيد والضبط، ويحتاج إتقانها إلى جهد يفوق الجهد المطلوب لإتقان كتابة الفصحى.
هل تصلح العاميات المحلية بديلًا مناسبًا للغة العربية؟
ما قبل الحداثة وما بعدها
الفن التشكيلي الذي قد يبدو لك تافهًا، يعبّر عن تجربة ما لمبدعه، يمكن أن تمس شخصًا ما.
يقصد بـالحداثة، التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والدينية العميقة التي حدثت في بنية المجتمعات الأوروبية، خلال القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين، وأدت إلى صعود الاستعمار والتصنيع والديمقراطية والعلمانية. لكن في منتصف القرن العشرين خصوصًا بعد الحربين العالميتين وما خلَّفتاه من دمار وقتل وفظائع، كان لذلك تأثير عميق على المفكرين والفلاسفة والفنانين والمثقفين في أنحاء القارة الأوروبية، ليتبلور تيار ما بعد الحداثة مطلع السبعينيات، مكرّسًا للفردية وحقوق الإنسان، ومنحازًا لها في مواجهة الفلسفات الشمولية والقومية «النازية والفاشية والشيوعية».
في الأدب والفنون كان قلب فلسفة ما بعد الحداثة أن الناس، كل الناس، قادرون على الإبداع، وأن لإبداعهم قيمة ما، حتى لو لم يستسغه الجمهور، أو يعجب به، كل الناس مثلًا يمكنهم أن يرسموا (الفن التشكيلي الذي قد يبدو لك تافهًا يعبر عن تجربة ما لمبدعه، يمكن أن تمس شخصًا ما، لذلك تُباع لوحة ملوّنة بالأزرق فقط بمليوني دولار)، كل الناس يستطيعون أن يقولوا شعرًا (الشعر الحر وقصيدة النثر).
على الجانب الآخر، ما زال السياق السياسي والاجتماعي والديني العربي يستكشف خطواته إلى الحداثة؛ فمجتمعاتنا لم تستطع الاستقرار على شكل للدين، ودور محدد له في السياسة، بل وشكل السياسة نفسها، والموقف من الحريات والديمقراطية ودور المرأة. أما المثقفون، ولأن كثيرًا منهم على تواصل وثيق بالأفكار والتيارات الغربية، فقد ارتبطوا بها، وأنتجوا إبداعًا عربي اللغة، لكن مضمونه ينتمي إلى الحداثة وما بعدها، ما جعله منفصلاً عن واقع المجتمع والقراء. وعلى الجانب الآخر، ثمة مثقفون يحاولون إحياء أدب عربي ازدهر في العصور الإسلامية، لا يمس في لغته أو مضمونه القراء أيضًا.
يفقد الأدب العربي قُرّاءه، إن كان لأن العالم كله يهجر النص ويفضِّل المشاهدة، أو لأن العرب يعانون من إشكاليات مع الفصحى، لصالح العاميات المحلية، أو للغات أجنبية أكثر عالمية، كما أن الوسط الثقافي منقطع تقريبًا عن مجتمعه، ممزق بين تراثيين متجمدين في زمن مضى يريدون إعادته، وحداثيين متأثرين بالثقافة الغربية ويريدون نقلها للناس، وكلا التيارين منعزل عن الواقع الثقافي الشعبي.
لكن كثافة التغيّرات السياسية والاجتماعية الحاصلة حاليًا في الوطن العربي، تجعل التنبؤ بمستقبل الثقافة والأدب العربي ضربًا من التنجيم والتخمين، وأنا شخصيًا، لأنني أحب امرؤ القيس والشعر العربي عمومًا، يراودني الأمل بأن يكون شيء ما مختلفًا في الغد.
أحمد سمير