الحرية والصحراء: قراءة في رباعية الخسوف وأدب إبراهيم الكوني
«اعلم يا بني أن الإنسان يولد ويعيش سجين نفسه، وليس أشق على النفس مثل البحث عن النفس، فإذا انتصرتَ في هذه المعركة انتصرت في كل المعارك وذابت روحك في الله».
ما الذي يجعل الإنسان يترك المدن والواحات ويتحدى الصحراء؟ لماذا يسلم نفسه للطبيعة بكل قسوتها وعنفوانها، ويجول تحت شمس مستبدة مصممة على صهر الكائنات، ويتحمل بصبر أسطوري تقلب مزاج الطبيعة في صحراء تتمدد حوله في عناد أقرب إلى التحدي مثل متاهة أبدية؟
الإجابة كما يرد ذكرها في رباعية «الخسوف» للأديب الليبي إبراهيم الكوني، أن سكان الصحراء يعتبرون الاستقرار في الواحات والمدن نوعًا من أنواع الأسر، عبودية تشد الناس نحو الأرض والأشياء وتحجب الإنسان عن الطبيعة، فيفقد نفسه وتتوه روحه، ويعيش تحت رحمة تقلبات الأرض والحصاد، واللهث وراء المال وحب تملك الأشياء. من هنا يبدأ طريق التيه الأبدي، فكلما اقتنى شيئًا أراد آخر، حتى تفقد الأشياء معناها، ويفقد الإنسان القدرة على رؤية المعنى الحقيقي للأشياء. أهل الصحراء يؤمنون بأن الإنسان صنع كل تلك الأمور بنفسه، ثم عبدها وأطلق على عبوديته استقرارًا.
ينتمي الكوني إلى قبائل الطوارق، وهو ابن الصحراء التي تنطلق منها معظم أعماله، والتي أورثته ثقافة غنية أثرت على فكره وروحه، ليكرس حياته للكتابة عن الصحراء وإيصال رسالته للعالم. كما يعتبر أحد رواد أدب الصحراء، وقد أثبت من خلال أعماله إمكانية خروج النص الروائي عن حدود المدينة كما هو متبع في النظرية الغربية للرواية.
الحرية والصحراء
«أما أنا فلم أرث سانية أحرثها، لم أرث سوى الصحراء والسراب. الجفاف دفعنا إلى الواحات، وأنا لا أعرف كيف أمسك الفأس لأفلق الأرض. نحن أهل الصحراء لم نتعلم سوى امتطاء المهاري الهيفاء ومطاردة الغزلان الساحرة. نعرف أيضًا أصول الرقص والغناء وفن مخاطبة الحسان، ولكننا نجهل الفلاحة ونحتقر الأرض والفلاحين».
تدور أحداث الرباعية في الصحراء الكبرى، وأبطالها هم قبائل الطوارق الذين يسكنونها وتسكنهم. وتروي عن قبيلة أمنغساتن وشيخها غوما، وحكاية النزاع الذي نشب بين القبائل والغزاة المستعمرين، ونزوحهم من الصحراء والاستقرار بالواحة بسبب الجفاف وهربًا من العطش، لتبدأ معاناتهم أو كما يسمونها عبوديتهم في الارتباط بالأرض، لتحل عليهم اللعنات والعذاب، ويجبروا على امتهان الفلاحة التي يجهلون أصولها، وترك الخيام واستبدالها بالأكواخ والجدران الموحشة، حتى يأتي الطوفان لينزحوا مجددا إلى الصحراء متحررين من عبودية الواحة.
تتميز أعمال الكوني بتفاصيلها الساحرة وعمقها الفكري والوجودي، وتسري بنا حكاياته في رحلة ملحمية في عمق الصحراء وأهلها، إذ يبرع في تصوير الصحراء والإنسان والحيوان، بل وحتى النبات في نسيج متجانس ومبدع. وتكشف أعماله عالم الطوارق المثير، وتغوص في تكوينهم النفسي وفلسفتهم في الحياة، وتحاول تشريح تلك العقلية التي كادت تمّحي من ثقافتنا الإنسانية، لتمزج الوقائع بالأسطورة في حبكة فنية تحاكي الطبيعة البشرية.
وإذا كانت أعماله في خصوصيتها تتناول قضية الصحراء وقبائل الطوارق، فإنه يعيد عرض تلك الأفكار والمضامين بإسقاطات على الثقافة الإنسانية ككل ببراعة مدهشة، ويطرح أسئلة جوهرية عن علاقة الإنسان بالكون والطبيعة، وتكشف لنا أعماله جانبًا مهمًا من التاريخ وذاكرة كادت تنسى.
يرفض إنسان الصحراء الاستقرار في الأرض أو المدن، ويتحمل قسوة الطبيعة التي تمثلها الصحراء في عدائها للحياة، وذلك من أجل الظفر بالحرية حسب مفهومه للوجود. فالاستقرار على الأرض يجلب العبودية، والصحراء بقسوتها تكشف معدن الأشياء وجوهرها، وتختبر النفس البشرية في مواجهة القدر، لذلك يصطدم الإنسان الصحراوي بتلك البيئة القاسية، مما يجعله يرى وجوده في هذا العالم من منظور مختلف.
يتجلى هذا المفهوم في طريقة عيشهم في بيئة تتنكر للحياة، إذ يرى أهل الصحراء أن حياتهم مكتملة، فلديهم كل ما يلزم للبقاء على قيد الحياة، وأي إضافة تعتبر انزلاقًا نحو ذلك الترف الذي بدوره سيجلب العبودية. هذه مواجهة للطبيعة القاسية من أجل أن يصل الإنسان إلى مرحلة التحرر، وذلك بالزهد والتخلي الذي يجلب بدوره السكينة والتسليم.
ترى أهل الصحراء في ترحال مستمر، يبحثون عن الماء والعشب والفريسة، وتلك حسب مفهومهم ملكية عامة وليست شيئًا يمتلكه مثل المستقرين في المدن. يعتبرون اللهاث وراء الأشياء الاستهلاكية مثل المستقرين طريق بلا نهاية، والغاية فيه ليست الحاجة، وخلاله تعمى بصيرة الإنسان في رؤية المعنى الحقيقي للأشياء وقيمتها، ومن هنا يأتي مفهوم التحرر في عقلية أهل الصحراء.
الأسطورة والرمزية في أدب الكوني
«وما حاجتك إلى العلم يا بني، ما حاجة الصحراء للعلم والعلماء؟ إذا لم يكن ثمة ضرر من العلم فلا نفع فيه أيضًا بالنسبة للصحراء. أنت لا تبحث عن العلم، ولكنك تبحث عن نفسك، وإذا لم تجد نفسك في الصحراء فلن تجدها في أي مكان».
يعتقد بعض النقاد أن الكوني يسرف في توظيف الأسطورة في أعماله الأدبية، فالأسطورة والميثولوجيا حاضرة بكثافة في أعمال الكاتب، وهو ما يصفونه بأنه يجر الحكاية إلى عوالم تبتعد عن الواقع الإنساني أو الحرفي إلى منطقة الخرافات والخيال. ولكن الكاتب يصر على مكانة الأسطورة في ثقافاتنا، ليس في ثقافة أهل الصحراء فحسب، بل الثقافة الإنسانية ككل. فمن المنظور الأدبي، يرى الكوني أن الأسطورة عنصر جوهري في أي عمل روائي وأدبي تسعى من خلاله لتفسير المعنى وبيان المغزى، إذ أن العمل الروائي نص لا يخلو من الرمزية أي الاستعارة لإيصال دلالات معينة، فالأسطورة وما ترمز له من معاني ودلالات هي من شروط العمل الأدبي والروائي لتخليده.
يبدع الكوني في المزج بين الأسطورة والوقائع بطريقة متجانسة وملهمة لا تخلو من المتعة، فالصحراء بخلائها المهيب وزمانها الأبدي تشكل البذرة الأولى نحو ظهور الأسطورة وتناقلها بين الأجيال، إذ هي جزء لا يتجزأ من ثقافة أهل الصحراء وكيفية تناولهم للأحداث، ومكون أساسي في طريقة تفكيرهم وتفسيرهم للعالم من حولهم. وبشكل عام، يفكر الإنسان من خلال ثقافته ويفسر العالم من خلال بيئته. وقد وُجدت الأسطورة مع الاحتكاك الأول للإنسان مع الكون والطبيعة، لمحاولة تفسير العالم من حوله وإجابة أسئلة الوجود الكبرى.
يرى الكاتب أنه في عالمنا العربي تخلى الناس عن مضامين الأسطورة لتحل محلها الأيديولوجيات، وإذا كان معظم تلك الأيديولوجيات ينتمي في جذوره إلى بعض الأساطير، فإن لها اليوم تأثير واختلاف جذري عن مفهوم الأسطورة في دلالاتها والطرق التي تعرض فيها الأفكار وتفسر بها المعاني.
الوجودية والحرية
«ما هي الحياة يا شيخنا إذا لم تكن أغنية حزينة؟».
لا تخلو أعمال الكوني من التأملات والأفكار الفلسفية عن الخلق والقدر والحرية، إذ يسهب في الحديث عن فكرة التحرر والعبودية لإنسان الصحراء، كما في رباعية الخسوف وغيرها من أعماله. وفي روايتي «نزيف الحجر» و«البتر»، يصف الكوني علاقة الإنسان بالحيوان بطابع أسطوري يرمز إلى عدة معانٍ في ما يتعلق بعلاقتنا بالكائنات وقداسة التجربة الإنسانية، ويصف الصحراء بأنها مكان فاقد لشروط المكان، والزمن فيها ليس زمانًا عاديًا، بل تتغير فيها مفاهيم الواقع الحرفي وفهمنا للوجود. كما يرى أن الصحراء رديف الحرية، والحرية رديف العدم، وهي دلالات رمزية تفتح النقاش حول جوهر الكون ومكاننا في هذا الوجود، وهجرة الإنسان الروحية في هذا العالم بعد تحرره من الواقع الحرفي، ليعيد ولادة الروح من جديد بوعي مختلف.
تبين أعمال الكوني مدى اطلاعه العميق على تلك الأفكار الفلسفية، وتظهر تأثره بالعديد من الفلاسفة والأدباء العالميين، وهو ما أسهم ربما في انتشار أعماله بزخم كبير، والاحتفاء به بشكل واسع على الساحة العالمية والإنسانية.
عن إبراهيم الكوني
«القناعة بسيطة، لكن الوصول إليها يمر عبر جهنم، التي ترفض أن تعطيك الجوهرة دون أن تحرق قلبك».
يعتبر الكوني من أهم الروائيين العرب والعالميين المعاصرين، وقد ألف أكثر من 80 عملًا بين روايات ودراسات نقدية وفلسفية، وترجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة. يكتب الكوني بلغة فذة متمكنة، تبعث القارئ إلى عوالم مكتملة الملامح، وتحفز مخيلته وأفكاره، كما تنبض حكاياته وشخصياته من قلب الصحراء لتطرح أسئلة الإنسان الوجودية في كل مكان وزمان. إنه كاتب مهم أضاف الكثير إلى المكتبة العربية خاصة والأدب العالمي بشكل عام.
نشر الكوني رباعيته «الخسوف» عام 1991، وتتكون من أربعة كتب هي «البئر» و«الواحة» و«أخبار الطوفان الثاني» و«نداء الوقواق»، ويمكن طلبها جميعًا عبر الإنترنت.
ماجد الهملان