هل يكلفنا العصر الرقمي مقدرتنا على التجول؟
كان التجول أو التسكع أو الترحال في ما مضى امتيازًا عظيمًا يُغبط عليه فاعله، لا سيما من يكتب منهم أثناءه في مذكراته أو مدونته وصفًا وتعليقًا لما رأى تحت ما يسمى أدب الرحلات. حمل التجول آنذاك ضروبًا من المعرفة والتأمل وإشباع الفضول، ففيه تجول في جمال الطبيعة، وفيه تجول داخل المدن نفسها. ما الذي تغير في عصرنا؟ وكيف يرى أدباء التسكع أسلوبهم المفضل الآن؟ هل لا يزال حاضرًا، أم أنه تبدل أو بدأ في الخفوت؟ يطرح أليخاندرو تشاكوف في مقالة له نشرت في يوليو 2021 على ذا نيويوركر تفنيدًا وتحليلًا لهذه المسألة.
يستهل الكاتب باستشهاد من مقالة نُشرت عام 1927 بعنوان سكون الشارع لفرجينيا وولف، تصف فيها التسكع ليلًا في شوارع لندن هروبًا من الذات. مدنية النشأة ميالة إلى «شعور التحرر من المسؤولية المستمد من الظلام وأنوار عواميد الإضاءة»، تجوب وولف الشوارع لتنضم إلى «جيش المتجولين المجهولين الضخم». وتتابع أن «الغطاء الصَدفِي الذي أفرزته أرواحنا لتسكن إليه، ولتتفرد به عن غيرها، قد كُسر، ولم يبق منه وسط الشوائب والكسور سوى محارة إدراك، عين جبارة».
بالنسبة لوولف، هي ليست محض استراق نظر، بل مسألة تعاطف: فمتجول الشوارع يثمّن الوهم المغذى من التسكع، «ذلك الوهم الذي لا يقتصر على عقل واحد، بل يمكن أن يستعرض للحظات أجساد وعقول الآخرين».
بدايات التسكع
يحلل تشاكوف ماهية المتسكع عند وولف بأنه غريبٌ غرابة المراقب من بعيد، إلا أنه عطوفٌ حد الشعور تخيلًا بماضي الآخرين، ولو لهنيهة. بدأ مفهوم المتسكع الحضري (the flâneur) كشخص نصفي الانتماء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم تبنى قوالب متنوعة في القرن العشرين.
كتب والتر بنيامين بعد سنوات من ظهور مقالة وولف أن «[المتسكع] لا يزال على العتبة، في المدينة كما في الطبقة البرجوازية. فلا هي التي ابتلعته ولا هو بالمستقر في بيته. وهو يبتغي اللجوء في وسط الجموع». ما بين وبين، ليس مستقرًا وليس هائمًا في الوقت نفسه، وهذا الأساس: جعل الكُتاب من التسكع تقليدًا أدبيًا يعبر حدود التصنيف كما يعبر الضواحي، من شارل بودلير وقصائده المقالية، إلى بونفرد سيبالد ومقالاته الروائية.
يبين المؤرخ الفرنسي ميشال دو سارتو في كتاب نشر عام 1980 بعنوان «ممارسة الحياة اليومية» التماثل الواقع: «إن فن تحويل العبارات مرادف لفن خلق المسالك، ففي اللغة المجازية التسكع هو تمثيل للانجراف».
يستشهد تشاكوف بدنكان منشول، فيذكر أن منتج الصوتيات البريطاني قد جمع نماذج للانجراف -كما صوره دو سارتو- في العقود الماضية باعتبارها صنفًا (Genre) مجهولًا ضمن سلسلة مقتطفات أدبية (أنثولوجيا). وأحدثُ مؤلفيْن منها هما «تحت قدمَيَّ: كُتَّاب حول المشي» ومجلد نُشر معه «تنزُّه: كُتَّاب يجوبون أوروبا»، واللذان يتضمنان مقتطفات من أعمال 80 كاتبًا، يقدمان بها عرضًا بانوراميًا مسليًا لمتجولين من شتى البلدان والمناطق. أقدم تدوينة في الكتابين كتبها بتراركا عام 1336، وأحدثها «العالم التحتي» لروبرت ماكفارلين التي نشرت عام 2019.
يواصل الكاتب فيذكر أن «تحت قدمَيَّ» يتضمن جزءًا من «سكون الشارع» لوولف، بيد أن المجموعة في العموم تتمحور حول متسكع الأرياف، إلا أنها أظهرت هنري ديفد ثورو مظهر القديس الشفيع، فهو مُقتبس من عدة كُتاب، بالإضافة إلى وجود مؤلف له يعتبر من أطول التدوينات، تدوينة حالمة عن التهلهل الصامت للمشي على أرض مثلجة.
«التنزه» هو مؤلف أعم في تجميعه، دون مبدأ مشترك أو شخصية ملهمة. كما يوحي العنوان، يهيم منشول آخذًا بإسهامات مؤلفين من مختلف بقاع خارطة الأدب: فلاسفة، وروائيين، وكُتاب مقالات، ونقاد، ومؤلفي قصص الأطفال، وحتى ملحنين، فقد ظهرت في «التنزه» سلسلة رسائل وملاحظات قصيرة لبيتهوفن من غابات فيينا.
بحسب تشاكوف، يميل المسهمون في هذه الكتب نحو ذائعي الصيت: ميشيل دي مونتين، جان جاك روسو، مارك توين، كاثرين مانسفيلد، إيدث وارتون، رتشارد رايت. لكن يقابل عظمة هذه الأسماء هرج منظم، فغالبًا ما تكون المختارات مبالِغة في الاقتضاب، حد السخافة أحيانًا (بنيامين وبودلير نصيبهما جملة لكل منهما).
يبدو أن منشول الذي حرر أيضًا «القدم الملتهبة: مشاهد مشي من الخيال الأدبي الكلاسيكي» و«أثناء التجوال: رفيق في المشي» صار أكثر ثقة في أهوائه الانتقائية مع مرور الوقت. يتضمن كتاب «تنزه» مقطعًا من كتاب أدب الرحلات «سردينيا والبحر» لديفد هربرت لورنس، وفي حيز واسع منه يقف لورنس أمام نافذة يراقب كرنفال البندقية، ما يُفهم منه ضمنيًا أن التبصر في الترحال أهم من تحريك قدم أمام الأخرى. يتراءى للناظر أن هدف منشول ليس التقصي التاريخي للمتسكع، بل توسيع مجال التسكع بانفتاح وفيٍّ لروحه.
ما يربط المجلديْن ببعضهما هو اتساق لافت في الأجواء. يظهر أن المزيج الغريب بين الانعزال والدفء الملحوظ عند وولف في «سكون الشارع» يشعل في كاتب تلو الآخر ميلًا إلى الوصف والتفكّر، عوضًا عن العناصر المعروفة الثابتة من شخصيات وسرد. يكتب وليم هازلت في مقالته «عن الذهاب في رحلة»، التي أعيدت طباعتها كاملة في «تحت قدمَيَّ»: «أريد أن أرى أفكاري المبهمة تطفو كزغب الشوك عند النسيم». بقيت هذه العلاقة بين التجوال المادي والذهني صامدة عبر العصور، ظاهرة في الحرب والسلم، وفي الرخاء والشدة. من بتراركا إلى ماكفالرين، تتجول العقول كما تتجول الأقدام.
تحت الحجْر
يتابع الكاتب: «وصل الاستمتاع بمختارات منشول أشده تحديدًا في فترات الحجر المتقطعة إبان الشهور المنصرمة. أشعل اختفاء الجموع المؤقت بداعي وباء كورونا رغبتي بأن أكون معهم، وكان مستحيلًا ألّا أحسد المتجولين على راحة بالهم، بينما يشقون طريقهم وسط قرى ومدن بعيدة محتشدين مع الغرباء. غمرني الاشتياق، لكن مع شعور بالبعد: حتى التدوينات الأخيرة في السنوات القليلة الماضية بدت وكأنها من عصر مختلف، حينما لم تختصر الهواتف الذكية كل فكرة هائمة، ولم تكن نشرة الأخبار بهذه الشراسة».
عصرنا ينطبق عليه وصف أنطونيو مونيوث مولينا عنوانًا لأحدث رواياته: «أن تسير وحيدًا بين الجموع». تقدم الرواية التسكع تقديمًا مجلًا، وتُقرأ على أنها حكاية تحذيرية عن خطر فن المشي الخامل. يفاجأ بطل الرواية المهموم مجهول الاسم -الشبيه بمولينا نفسه- والذي يقضي وقتًا طويلًا على هاتفه الذكي بعد أن يقرر الذهاب في نزهة بسيل من اللغات حوله، ويتساءل: «كيف أمكنني عبور هذا الشارع مرات لا تحصى دون ملاحظة نهر الكلمات المنطوقة والمكتوبة التي تمر علي، والضجيج، والحشود، والملابس من نافذة متجر قذر».
يقرر حينها البدء بالتسكع، آملًا أن يكون «سامعًا ناظرًا». يجوب العواصم والمدن الكبيرة (مدريد، لشبونة، نيويورك، باريس) متقفيًا «موسيقى الكلمات» في «الشعر وفي الحديث اليومي معًا»، ويقبل أي منشور يُمنح له ويسجل كل إعلان يراه. وعند توقفه في مقهى لتدوين الملاحظات، يسجل الأصوات المجاورة والمحيطة من خلال جهازه الآيفون. ويشير إلى كل هذه الأنشطة إلغازًا: «المهمة».
يستطرد تشاكوف في الحديث عن مونيوث مولينا، فيذكر أنه ترعرع في مدريد ونيويورك معروفًا يُحتفى به في بلده. وكانت روايته السابقة «كظلٍ يتلاشى» ضمن القائمة القصيرة المرشحة لجائزة البوكر العالمية عام 2018. مزجت هذه الرواية بين التاريخ والخيال والسيرة الذاتية، لو أخذنا في الاعتبار الأيام العشرة التي قضاها إيرل راي في لشبونة بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ عام 1968.
تنقش «أن تسير وحيدًا بين الجموع» التاريخ بأسلوب مختلف تمامًا: «في خضم التنزه، يتفكر الراوي في حياة الأدباء المتجولين الراحلين، مركزًا تحديدًا على بودلير وبينيامين وتوماس دي كوينسي وإدغار آلان بو. ويتأمل في الروابط التي جمعت بين هذه الأسماء: تعلم بودلير كيف يرى مدينته بعد ترجمته لدي كوينسي عن لندن، كذلك بو عن باريس المتخيَّلة، وترجم بنجامين عن بودلير».
يشدد الكاتب على أن هذه الرحلات في التاريخ الأدبي أضفت جاذبية فريدة على العملية، لكنها في الوقت ذاته تُظهر الرتابة النسبية لجولات الراوي، فالعالم الذي يكتشفه في الشارع محبط في تشابهه مع ما يجده على هاتفه.
لم تعد الإعلانات مقصورة على لوحات الشوارع وواجهات المحلات، بل توسعت توسعًا لا محدودًا داخل ما كان يُعتبر فضاءً عامًا، تتوهج على الشاشات التي تعلو شوارع ومجمعات المدينة، ويدسون الأوامر مفخخة تحت إهمال «طُعم النقرة»، فارضين بها عالمية فارغة. ويدون الراوي: «يبتسم كبار السن في الإعلانات بحس تفاؤلي.. أما صغار السن فلا يتوقفون عن الضحك، فاغرين أفواههم حد انكشاف اللسان واللبان».
يشمئز الراوي خائبًا من الناس الذين يراقبهم على أرض الواقع، يأكلون الدجاج في مطعم «بوبايز» متجاهلين رجلًا مستلقيًا على الرصيف وصفير صدره لا يتوقف، ويتجنبون أبسط إشارات التواصل البشري حين مشاركة المصعد مع شخص غريب. ويقول عن نيويورك إنها «مدينة من الزومبي (الموتى الأحياء) الملتصقين بشاشات هواتفهم». يصعب في عصر خرائط غوغل اتباع تحريض بنيامين بالتجول بلا هُدى.
يستمر تشاكوف في نقل الاقتباسات عن المدينة، فيأتي على ذكر جزء من مقالة افتتاحية كتبها مونيوث مولينا لصحيفة «إل باييس» عام 2014، ذكر فيها أن «المدينة عبارة عن مخلوق ينمو ويقتات على الأوضاع القاسية، وقد ينهار على حين غرة وفي غفلة عن الكارثة القادمة وسرعة الانحطاط».
تسبب وباء كورونا في إغلاق العديد من المقاهي والمحلات الصغيرة، وأخلى شققًا لعمال معفيين مؤقتًا لا يقدرون على تحمل تكلفتها بعد الآن. وقد كثف الفيروس بدوره أيضًا من عملية التقهقر إلى الحياة الرقمية. يعكس شكل رواية مونيوث مولينا تحول المدينة إلى مجموعة رتيبة من الأماكن المنفصلة، فهي تتكون من قطعٍ ذات فقرة واحدة، كل فقرة تستهلها جملة بخط عريض تبدو كأنها أُخذت من القصاصات التي يجمعها الراوي، إعلانات تجارية، عناوين رئيسية، إعلانات الخدمة العامة: «خذ لقمة من مذاقنا معك»، «مهرجون مفزعون يُرهبون بريطانيا العظمى»، «إذا رأيت خطأً فتحدث».
تتجول الشخصية الرئيسة وتعبّر بأسلوب أشبه بالارتجال، متنقلة ما بين أسلوبَي رواية المتكلم والغائب. وهو لا يركز كثيرًا على المعالم حتى يحددها. وبعيدًا عنه، أقرب الشخصيات في الكتاب للوصف «شخصية متكررة» هو شخص غامض، قد يكون قرينًا أو شبيهًا، يرمقه أحيانًا في المقاهي والشوارع.
استخدام القطع ليس أسلوبًا غريبًا على المتسكعين، إلا أنه يُعد في حالة مونيوث مولينا تأليفًا من مجموعة بيانات بصرية وصوتية بلا خط يجمعهم ودون التركيز على معضلة معينة. يمنح المترجم بليشمار اهتمامًا مبالغًا لتفاصيل إيقاعات اللغة الإسبانية عند المؤلف. لا ينادي الراوي بالاحتفاء بأي من أبطال الأدب في الكتاب (مثل أميت تشودهوري وريبيكا سولنت وتيجو كول)، بل هو أقرب لشخصية في رواية لدون ديليو: «أستمع إلى وط الخفافيش الذي يهتدون به لمعرفة طريقهم من خلال الهواء بتحديد الموقع من الصدى، ترددات أعلى بكثير مما تميزه أذنيَّ البشرية البسيطة تتموج جميعها معًا في الهواء في نفس اللحظة، شبكة سميكة من الإشارات اللاسلكية تنتشر في كل مكان، حاملة جميع محادثات الهاتف الخلوي الجارية في هذه اللحظة».
المُلاحظ هنا أنه ارتياب القرن الواحد والعشرين أكثر من كونه تجولًا مدنيًا، فالقلق الذي عزم الراوي على التخلص منه بدا باقيًا، رغم زعم الراوي تلاشيه. ما يتوقعه المرء من ملنخوليا خريفية عند متسكع منعزل تتبدل إلى مسنثروبيا (بُغض البشرية) شتوية، تعزز السخرية عوضًا عن البصيرة التأملية.
ذاكرة المكان
يشرع الكاتب في الفصل الأخير عائدًا إلى كتب منشول، فيذكر أن المتجولين يجدون في «تحت قدمَيَّ» و«تنزّه» مرة تلوى الأخرى سبلًا للخوض في الماضي. تلاحظ إديث وارتون ضمن حديثها عن التجول في إيطاليا النمو الغزير لأوراق الشجر المتساقطة في وديان معينة، مشيرة إلى أن ذات المحاجر كانت تستخدم للقتل والتعذيب في عصر مضى: «لم يسبق أن قضى بفعل الزمان أمر أكثر شاعرية من تحول حفر الموت الجرداء المكشوفة هذه، حيث قُتل أسرى معركة سلاميس الإغريق تحت وطأة أسواط سادة العبيد الصقليين وسهام الشمس الصقلية الحارقة، إلى آبار باردة تسودها النضرة والظلال».
تتشابك أحيانًا هذه اللمحات عن الماضي مع ذكريات أكثر حميمية، ففي فقرة من «عودة لزيارة بولندا» مُضمنة في «تنزّه»، يتجول جوسيف كونراد بصحبة أكبر أبنائه ليريه كراكوف مدينة طفولته، مدهوشًا بالتناوب من عدم إمكانية التغير والتغير السريع للأشياء. ويستذكر آخر أيام والده، مسترجعًا الليالي التي بكى فيها حتى النوم بعد تلصصه على غرفة والده كي يقبله قبل النوم.
تتراءى له بعدها صور من جنازة والده، «التأرجح الأرعن» لعربة الموتى، و«توهج الشموع المارة تحت المدخل المنخفض» لبوابة المقبرة. إن كانت السمة المميزة للمتسكع هي الاهتمام بحياة الآخرين، فهذا الاهتمام لا يقتصر على الحيوات الملموحة من خلال نافذة محل أو مدخل باب، بل تشمل حتى أولئك المنسيين خلف حجاب الماضي.
يرجع تشاكوف مرة أخرى إلى مولينا، فيخلص إلى أن أكثر اللحظات فتنةً في «أن تسير وحيدًا بين الجموع» تأتي حينما يدع الراوي ذكرياته تتسرب من سد الإعلانات المزعجة والعناوين المتوسلة. ويستذكر الراوي في آخر صفحات الكتاب المؤثرة تحوله إلى كاتب شاب في غرناطة، بعد قراءته لدي كوينسي وبودلير.
لقد واجه الصحوة المفاجئة لواقع العالم الحالي، مبصرًا المدينة للمرة الأولى رغم عيشه فيها سبع سنين. لكن مثل هذه الفقرات الشخصية موجزة لا تكفي حتى تشكل انطباعًا وافيًا عن حياة الراوي. كذلك توجد اختصارية مخيبة لتأملاته، والكثير من توافه الإرشاد السياحي: مرَّ براساي من خلال هذا الباب لزيارة بيكاسو، عاش بلزاك في هذه المنطقة، بات أوسكار وايلد في هذا الفندق مرة، وكأنها نسخة منمقة لقاعدة بياناته الدائمة.
عوضًا عن الظفر بعمق المنظور الذي يوفره الماضي، ينغمس «أن تسير وحيدًا بين الجموع» في الحاضر، ساخرًا من سطحيته واختياله، مبرزًا قصور الانتباه فيه وإدمانه على النمطية (يعتبر ترامب ترسيخًا متكررًا في الرواية). يأتي عنوان الكتاب لا ليبين تناصف الانتماء المقصود عند وولف، بل لنوع آخر رائج ومعاصر من الوقوف بين وضعين: تحدق في هاتفك بينما تتوالى التنبيهات وتنبثق الإعلانات على الدوام، عالقًا ما بين العزلة والجمعية دون نيل روح أي منهما. يلحظ الراوي: «يظهر التافه والمروع في تقارب عجيب، حتى يكادا يختلطان ببعضهما البعض»، تستنسخ الرواية هذه الحالة ولا تقاومها.
في صباح يوم ما في نيويورك، حين بزوغ الشمس وبداية ذوبان الثلوج، يصف الراوي الأرض: «تتشبث نفحة هواء الانقراض الشديدة في الأشياء التي بدأت تتشكل جزئيًا: قفاز من الصوف كأنه يد بارزة من الأرض، علبة قهوة دانكن دونتس البلاستيكية لا تزال ملعقتها ثابتة داخل غطائها، طرف علبة سجائر مارلبورو، فرشاة مرحاض بشعة، هيكل مظلة مكسور، قفص طير (خاوٍ لحسن الحظ)، دلو دجاج كنتاكي داخله بقايا قضمها جرذ، جرذ كامل لا يزال متجمدًا، كومة من فضلات الكلاب، قبعة من الصوف، شوكة بلاستيكية، حمامة مسحوقة، حفاظة رضيع، إسفنجة مليئة بالشعر، مايكروويف، الساحب الأسود من أداة تسليك المراحيض، آلاف من أعقاب السجائر».
يبدو أن التغير المناخي يشغل بال الراوي، فالعديد من عناوينه الرئيسية تهتم بخطر الاستهلاكية الحادة. ليست بادرة أسبقية الاكتشاف التقليدية لدى المتسكع هنا -أيًّا كان مصدر انزعاجه- هي تخيل قصص إنسانية أو تأمل شبح الماضي للمدينة، بل سرد قائمة من منتجات مستهلكة مذكورة بأسماء علاماتها التجارية العالمية، مشيرةً إلى ذاتها ولا شيء وراء أو أبعد من ذلك.
في الكتاب كله، يصعب على القارئ تخمين المدينة التي يتجول فيها الراوي إذا لم يحددها بالاسم. يبدو أن السبب وراء هذا الإبهام هو نقد مضمر في الأسلوب: هل أضحت المدن الكبرى في جميع انحاء العالم منتجات أيضًا، متغيرة على الدوام خاوية الروح؟ ومع ذلك، لا يزال هناك حس انهزامي في عمل معنيّ بإجلال وتقدير التسكع البادئ في الاضمحلال.
يختتم الكاتب مقالته بتلخيص ما هو مفقود حقًا، الإنسانية، أو لحظات طبيعية منها. يُجسد راوي مونيوث مولينا عزلة المتسكع وليس سعة تعاطفه. يحاول أن يكون «سامعًا ناظرًا»، وهذه غاية مختلفة عن التي تتبناها وولف، ألا وهي «أن تسكن للحظات أجساد وعقول الآخرين». استعراض تخيلي كهذا هو محرك وولف للتجول، محاولة الهروب من الذات. وهو سبب معتبر حتى لقراءة الروايات الخيالية عمومًا. وكما كتبت وولف في آخر سطور «سكون الشارع» بعد ملاحظة أن بوسع المرء إبصار حيوات أخرى عديدة في مدينة مثل لندن: «أهناك دهشة ومتعة أعظم من ترك الخطوط الشخصية المرسومة وسلْك مسلكٍ يمر تحت العليق وجذور الأشجار الضخمة إلى قلب الغابة حيث تعيش الوحوش، يا رفاقي البشر؟».