«كريستيان مونغيو» والسينما الرومانية الجديدة: الحياة كشريط معطوب
ينتظر بسيارته وسط الزحام، ويراقب أمامه طوابير السيارات تتحرك ببطء شديد، لكن يبدو عليه عدم الاكتراث، وينظر إلى ما حوله بعين ميتة. يسأل فتاة جميلة تبيع المياه عن أقرب مقهى، وفي لحظة يقرر فيها الهروب يدعوها إلى الجلوس معه، تتحدث عن عملها الذي يتيح لها تذكرة مجانية لعطلة نهاية أسبوع على البحر، فحتى لو لم يكفها المال، تظل تملك دائمًا فرصة للهروب.
هكذا كانت البداية بفيلم شاعري قصير، فيلم «Trafic» للمخرج الروماني «كاتالين ميتوليسكو»، الذي فاز بجائزة مهرجان كان 2004 للأفلام القصيرة، عن محاولة للهروب من زحام واقع يبدو خارج السيطرة، ولا نملك أمامه سوى الاستسلام، لكننا ما زلنا نحاول، فنصحوا ولو بأمل خافت، وعلى الرغم من كل شيء نُفتن وننجو ولو لوقت قصير.
رومانيا الجديدة: موجة بدأت بفيلم قصير
بعد نحو 20 عامًا عليها، تعود الثورة الرومانية لتكون تركيز تجارب سينمائية تتصدر ما أصبح يُطلق عليه الموجة الرومانية الجديدة، وتأتي بعد سنين من القمع مرت بها رومانيا خلال الحكم الشيوعي.
تحكي هذه القصص جيلًا فقد الأمل في تغيير الأوضاع بعد الثورة، فلجأ إلى الكاميرا ليقص ما حدث، وما زال يحدث، لمستقبل يظل يتحول دون توقف لمَشاهد مكررة من الماضي.
تتجه الموجة نحو المُشاهد من طريق مختلف، فهي لا تطلب اهتمامه بل تمنحه الشعور بأنه بطل الحكاية. السينما الواقعية تتيح لنا أن نرى ما نعيشه ويعيشه مَن حولنا، مِن وجهة نظر شخص يحاول حل لغز الأسباب والنتائج، وتسمح لنا أن نرى تجارب الآخرين في التعامل مع الحياة بكل تبعاتها.
في كل مرة أشاهد فيها فيلمًا يُدرج تحت مظلة الواقعية، تسيطر فكرة النجاة عليّ تمامًا وأكاد أنطقها «انجُ بنفسك، العالم أوسع من هذا». التحدي هنا يكمُن في مدى حساسية الموضوع بالنسبة إلى المُشاهد، فكلما ابتعد الموضوع عن حياته الشخصية أو العامة كانت المشاهدة أسهل.
تعرض مَشاهد البداية في «12:08 East of Bucharest» كادرات لشوارع المدينة، وينتهي بنفس الكادرات كإشارة إلى فكرة الدائرة المفرغة.
في السينما الرومانية، وفي وقت فشلت فيه ثورات ما أُطلق عليه «الربيع العربي»، لن تجد قصصًا بعيدة عنك، بدايةً بروتينك اليومي حتى مزاجك العام، يحكون مِن نقطة تبدو في مستقبلنا نحن كجيل مر بكل هذا، هؤلاء المخرجون يمثلون جيلًا تذوق الأمل لبرهة، ليتحول بعدها إلى حلم لا يقدرون حتى على تمنيه.
تمثل اللحظة الثورية موضوع بعض هذه الأفلام، سواء كان ساخرًا كفيلم «12:08 East of Bucharest» للمخرج «كورنيليو بورمبوي»، الذي تدور أحداثه عن مذيع يحاول الوصول إلى إجابة سؤال: هل كنا إحدى المدن التي شاركت في الثورة؟ رغم أن الثورة مضى عليها 18 عامًا.
تبدأ خصائص الموجة، اللقطات الطويلة والكادرات المغلقة والقصة البسيطة، يبدأ الفيلم بإعطاء فكرة عن حياة وشخصية كلٍّ من المذيع والضيفين وطريقة تعاملهم مع مشاكلهم الشخصية والمجتمع حولهم، على طريقة الأفلام الوثائقية، ثم يأتي المشهد الأطول داخل الاستوديو، فنرى كيفية تعاملهم مع الموقف والتفاعل بينهم.
لو رجعنا هنا إلى مَشاهد بداية الفيلم، سنجدها تعرض مجموعة من الكادرات لشوارع المدينة، وينتهي الفيلم بنفس الكادرات خلال هطول ثلوج أعياد الميلاد، وهنا إشارة متكررة في أفلام الموجة إلى فكرة الدائرة المفرغة التي تجعل من النهايات أشبه ما تكون بالبدايات.
أما فيلم «The Paper Will Be Blue» للمخرج «رادو مونتين» فيناقش، بجدية لا تخلو من سخرية من الواقع ومن تصرفات البشر في لحظات الاضطراب، أحد أعقد أحداث يوم الثورة، حين يقرر أحد الجنود الانضمام إلى الثوار للدفاع عن مبنى التلفزيون، ويمر اليوم به تارةً كبطل في أعين بعض الناس وتارة كخائن في عيون آخرين.
تدور أحداث الفيلم خلال يوم واحد، وبعد انتهائه نكتشف الارتباط بين النهاية البداية، لنجد أنفسنا مجبرين على إعادة النظر في الحدود بين ماضٍ وحاضر ومستقبل يكاد الخط بينها يختفي.
يعود كاتالين ميتوليسكو بعد فيلمه القصير «Trafic» بفيلم شاعري جديد هو «The Way I Spent the End of the World»، فيلم يحتفي بالثورة وتدور أحداثه قبيل قيامها، ويحكي عن أطفال يحلمون بالتخلص من الطاغية «تشاوشيسكو».
يظل المناخ السياسي هو المؤثر المفهوم ضمنًا في كل أفلام الموجة، لكننا سنركز في الجزء التالي على أحد رواد الموجة الرومانية وأبرزهم، المخرج «كريستيان مونغيو»، لنتعمق أكثر في أسلوبه السينمائي الذي يتميز بجدية الموضوعات وشاعرية التناول حتى للأحداث الأكثر مأساوية.
كريستيان مونغيو: ذروة الموجة الرومانية
ولد كريستيان مونغيو عام 1968 في مدينة ياش، العاصمة الثقافية لرومانيا كما يُطلق عليها، وموطن أول جامعة رومانية. في تلك الجامعة درس الأدب الإنجليزي، وعمل بعدها مدرسًا وصحفيًّا لبضع سنوات، ثم انتقل إلى بودابست لدراسة الإخراج السينمائي حتى تخرج عام 1998، وبدأ بإخراج عدة أفلام قصيرة في 2002، وصولًا إلى فيلمه الطويل الأول «Occident»، الذي حقق نجاحًا ملحوظًا بين النقاد وعُرض في مهرجانات عدة.
بدأت شهرة مونغيو في الوسط السينمائي بعد فوز فيلمه «4 Months, 3 Weeks and 2 Days» بجائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي عام 2007.
تدور أحداث الفيلم في رومانيا 1987 خلال حكم تشاوشيسكو، إذ تحاول «أوتيليا» مساعدة صديقتها «غابرييلا» في إجراء عملية إجهاض، ويعرض لنا الفيلم يومًا واحدًا من حياة الصديقتين. هنا تبدأ رؤيته السينمائية في التكون، فالقصة تبدو مُعادة ويمكن تناولها من وجهة سياسية وحقوقية مغرية، لكن مونغيو يختار أن يقترب أكثر من العامل الإنساني وتأثير هذا المناخ الضمني في أبطاله دون اتخاذ مواقف حادة.
يبدأ الفيلم في منتصف حوار بين الصديقتين وينتهي بالطريقة ذاتها، فحياة كلٍّ منا لا تبدأ بـ«كان يا ما كان» ولا تنتهي بـ«خلصت الحدوتة»، وهذا الشعور العام بعدم الاكتمال يجبرنا على تلوين دوافع الشخصيات بأنفسنا، لنجد فيها ما يشبهنا.
مونغيو: عودة إلى مهرجان كان
بعد عرض فيلمه الأول في مهرجان كان بنحو 10 سنوات، يعود كريستيان مونغيو بفيلم «Graduation»، الذي حصل على جائزة أحسن مخرج في المهرجان نفسه مناصفةً مع المخرج «أوليفييه أساياس».
مع كل مشهد في فيلم «Graduation»، تجد نفسك تحاول أن تفهم دوافع الشخصيات لتكون أقرب إلى نفسيه البطل وتفهم اختياراته، حتى لو لم تتفق معها.
يحكي الفيلم عن الصراع الأخلاقي للبطل بعد حادث اعتداء على ابنته، كل ما يشغل تفكيره هو إبعاد ابنته عن المكان الذي أهلك عمره فيه دون جدوى، يريد إرسالها لتكمل دراستها في بريطانيا، ويبدو مضطرًا إلى التخلي عن مبادئه في سبيل ذلك.
يبدأ المشهد الافتتاحي بعرض آثار حفر في حديقة بالمجمع السكني الذي يقطن فيه البطل، ويختار المخرج أن لا نعرف هوية الفاعل أو أي أدلة على وجوده، فلا نسمع صوته ولا نرى وجهه، فقط نسمع صوت الحفر ونرى أثره على السطح، ثم تنتقل الكاميرا إلى بيت البطل، ينكسر زجاج النافذة بحجر رُمي من الشارع، وهنا وللمرة الثانية نرى الفعل ولا نرى الفاعل. يحاول البطل بعدها مطاردة شخص في الشارع مقتنعًا أنه مَن رمى الحجر، وعندما يقترب منه يمر القطار ثم يختفي الرجل.
كل ما يشغل تفكير البطل هو إبعاد ابنته عن هذا المكان الذي أهلك عمره فيه دون جدوى، يريد إرسالها لتكمل دراستها في بريطانيا، ويبدو مضطرًا للتخلي عن مبادئه في سبيل ذلك.
يساعد المناخ العام الموحي بالقلق، مِن مشهد المطاردة الأول إلى تلقي البطل مكالمة الحادث في بيت صديقته ثم المستشفى ومركز الشرطة، في تورط المُشاهد في الأحداث، واستخدام المخرج للكادرات الضيقة والمَشاهد الطويلة يعمق هذا التورط، فمع كل مشهد تحاول أن تفهم دوافع الشخصيات وتكشف ما يخفيه كلٌّ منهم، لتكون أقرب ما تكون إلى نفسية البطل وتفهم اختياراته، ولو لم تتفق معها.
يحكي الأب عن حياته التي بدأت حالمةً وانتهت به جزءًا من مجتمع لا أخلاقي، وفي النظام البيروقراطي الذي أجهز على ما تبقى له من أمل في حياة أفضل في هذا المكان. ومع فشل محاولاته، ينصَبُّ كل تفكيره في أن تفعل ابنته ما عجز هو عن إنجازه، مُغفِلًا حقيقة ما تريده هي، أو محاولًا الهرب من وجوده بالأساس.
كلٌّ منا لديه قصة تستحق الحكي
يختار مونغيو أن يصور أفلامه بكاميرا غير ثابتة، يحملها المصور على كتفه وتتأثر فقط بتنفسه، فلا حركة زائدة ولا ثابتة غير مناسبة لطريقته في العرض.
حين يؤطِّر الكادر وجه البطل، أو يعرض أحد عناصر المشهد ويستغني عن الباقي، يعطي هذا للمُشاهد حرية كبيرة في توقع ما يجول في خاطر البطل، كل ما يملكه هنا هو تعبيرات الوجوه والنظرات والإيماءات، سواء في أثناء الحوار أو لحظات السكوت.
تبدو الكاميرا هنا كأن لها شخصية مستقلة، ففي بعض الأحيان لا تعرض المشهد كاملًا، فلو رأى المخرج أن شخصيةً ما هي الأهم في المشهد، سيلتزم المصور بالتركيز على هذه الشخصية والحركة معها، يدور الحوار في كثير من الأحيان بين شخصين أحدهما غير موجود في الكادر.
يختار مونغيو أن يصور أفلامه بكاميرا غير ثابتة، يحملها المصور على كتفه وتتأثر فقط بتنفسه، فلا حركة زائدة ولا ثابتة غير مناسبة لطريقته في العرض أو للقصة بشكل خاص، ولا يلجأ كثيرًا إلى المونتاج المحترف لأفلامه، فغالبًا ما يصور المَشاهد كاملةً ويعرضها في الفيلم كما صُورت، إذ يرى أن هذا يعمق تأثير المَشاهد التي تبدو أقرب ما تكون إلى الحقيقة بعشوائيتها وارتباكها.
يقول المخرج الروماني إن الرتم البطيء يأتي من القصة، ويجب عليه كمخرج أن يلتزم بهذا، وهو ما يتيح له حرية عرض تفاصيل صغيرة ومهمة: حركات الأيدي والإيماءات وتعبيرات الوجوه والنظرات، وكل هذا يعطي الفيلم طابعًا أقرب إلى الرواية. فكما يستخدم الكاتب التفاصيل ليُري القارئ عالم الرواية كأنه حقيقة، تخلق التفاصيل في الفيلم جوًّا عامًّا يؤطِّر للقصة.
بطء الأحداث في أفلامه كريستيان مونغيو مقصود، فهو لا يهتم بانتقالات سريعة لا هدف لها سوى جذب انتباه المُشاهد، بل يكتفي بالفضول الذي تثيره القصص والشخصيات ليستمر المُشاهد في متابعة ما يحدث. أفلامه تُخفي الكثير، بدايةً بدوافع الشخصيات وماضيها، إلى الحبكة التي تأخذ شكلًا أكثر حرية. ورغم بطء الأحداث، تجد أنك تتفاعل مع القصة وأبطالها وكأن كل هذا يحدث أمامك بالفعل.
إسلام سعدي سالم