«تشارلز مانسون»: مجرم يلوِّح بغيتار
في بداية سنة 1968 كان أحدهم يقود سيارته على الطريق السريع ليجد فتاتين تبحثان عن توصيلة. ركبتا معه، ومن خلال محادثتهم يتبيَّن له أن تلك الفتاتين تعيشان مثل «الهيبيز» مع مجموعة من الفتيات، ومعهم رجل يعزف على الغيتار، ويغني أغاني ألَّفها هو.
أعجب السائق نمط حياة هذا المغني، وقرر أن يساعده على احتراف الموسيقى. هذا السائق هو «دينس ويلسن»، درامر الـ«بيتش بويز»، والعازف المغني هو «تشارلز مانسون». هكذا دخل مانسون إلى الاستوديو. أما دخوله الزنزانة، فلم يحتج مساعدة من أحد سوى نفسه وشرطة لوس أنجلوس.
في البدء كانت الجريمة
كان لمانسون تابعون يسمون أنفسهم «The Family»، وهم من نفذوا لاحقًا الجرائم التي كان تشارلز العقل المدبِّر لها.
قد يخطر لبعضهم أن تشارلز مانسون المجرم الذي نفذ مذبحةً لسبعة أشخاص، ينبغي أن تتحدث أغانيه عن العنف والدم والقتل، إلا أننا عند الاستماع لها يتبيَّن لنا أنها «فولك» لا بأس به، يغني فيها كلمات عادية لا تخلو من شتائم تعبِّر عن عفوية تشارلز أكثر من أن تعبِّر عن ذلك الشرير الذي في داخله.
عندما سُجِنَ تشارلز عام 1966، بسبب جريمة مختلفة عن جرائمه التي جعلته أسطورة، تعرَّف إلى عدو الشعب الأول حينها: كالفن كريبي كاربس، رجل عصابات اشتُهِر بابتسامة مقلقة، وعلى إثرها لُقِّب بـ«كريبي».
خلال هذه الفترة التي لم تزد عن السنة، تعلَّم تشارلز على يد كالفن مبادئ العزف على الغيتار. قضى تشارلز بقية محكوميته يتدرب ويؤلف الأغاني، ثم خرج طامحًا إلى أن يصبح مغنيًا ناجحًا، بل أنجح من «البيتلز» إن توفرت له الإمكانات، كما كان يقول. طلب تشارلز من كالفن أن يعرِّفه ببعض العاملين في مجال الموسيقى، إلا أنه قوبل بالرفض من جميع من تواصل معهم، رغم أن أغانيه تلك كانت لا بأس بها.
كان لمانسون تابعون يسمون أنفسهم «The Family»، وهم من نفذوا لاحقًا الجرائم التي كان تشارلز العقل المدبِّر لها. عاد مانسون إلى حياته مع الفاميلي يغنِّي ويتعاطى المخدرات والجنس كأنه «روك ستار»، إلى أن ظهر دينس ويلسن من العدم، بمجرد صدفة، واستمع إلى تشارلز وهو يغني، فأعجبه ما سمع، وقرر مساعدته بمنحه بعض الوقت في استوديو أخيه «براين ويلسن» ليسجل بعض الـ«ديموز».
إضافة إلى ذلك، فقد قدَّم دينس المغني مانسون للمنتج «تيري ميلتشر» الذي عمل مع «The Byrds»، وأنتج لهم نسختهم عن أغنية «بوب ديلن» «Mr. Tambourine Man» التي حققت لهم بعضًا من النجاح.
خلال هذه الجلسات لم يكن تشارلز جادًّا قط. فقد كان يصل إلى الاستوديو ومعه دزينة من الفتيات، يدخنون الحشيش، ويتسكعون، وتشارلز يرفض العمل، أو حتى الاستماع لأي اقتراح من المنتِج.
كان يرفض التسجيل وحده، ولا يأتي إلا ومعه الفاميلي بأكملها، الأمر الذي جعله كابوسًا لتِقَني التسجيل الذي كان دائمًا يقول له: «لا تستطيع أن تصنع تسجيلًا جيدًا بهذه الطريقة». وتشارلز يُجيب: «أين المتعة إنْ لم نكن جميعنا هنا؟». تذمَّر تشارلز من هذه الجدية، ومن الأنظار الموجَّهة إليه. كان يرى الموسيقى شيئًا يتدفق منه بشكل غير واعٍ، وليس صناعة سلعة.
خلال هذه الجلسات في الاستوديو سنة 1968 سجل تشارلز عدة أغان، مثل «Garbage Dump» و«Cease To Exist». هاتان الأغنيتان درجتا في ألبومه الصادر في اليوم السادس من مارس سنة 1970 «LIE: The Love and Terror Clut» بغلاف عليه صورته، وهي الصورة نفسها التي استخدمتها مجلة «لايف» في غلافها الشهير.
بيْعَت 300 نسخة فقط من هذا الألبوم الذي أصدرته «Awareness Records» التي أصدرت أيضًا ألبوم «بوب ديلن» «The Great White Wonder».
أنكر دينس حق تشارلز في أغنية «Cease To Exist»، وقال له: «ارفع قضية إن إردت». وهنا رد تشارلز بإنه لن يرفع عليه أي قضية، بل هدد بأن يؤذيه.
أغنيته «Cease To Exist» التي تتحدث عن الحب هي المنعطف الذي أودى بعلاقة تشارلز والبيتش بويز، خصوصًا دينس ويلسن، إلى نهايتها. ففي ألبومهم «20/20» الصادر سنة 1969 استخدموا أغنية «Cease To Exist» بمجرد تغيير بعض كلماتها، وإعادة توزيع اللحن، وتغيير اسم الأغنية الأصلي إلى «Never Learn To Love».
رأى تشارلز ذلك سرقة لأغنيته، خصوصًا أن اسمه لم يُذكَر، ولم يأخذ شيئًا من حقوقه التي يملكها للأغنية، ما جعله ساخطًا، وأرجَعَ هذا الفعل إلى أنه الرجل الشرير في هذا الموقف، وبالتالي لا يحق له التكلم بأي شكل، إلا أن تشارلز سليط اللسان، ومتحدّث فذ لدرجة أنه دافع عن نفسه في محاكمته التي استمرت لسنوات.
حاول تشارلز التواصل مع دينس بشكل حاد، والذي أنكر بدوره حق تشارلز في الأغنية، ورفض إعطاءه أي شيء، ثم قال له: «ارفع قضية عليَّ إن إردت». وهنا رد عليه تشارلز بإنه لن يرفع عليه أي قضية، بل هدد بأن يؤذيه. وكانت هذه قطيعة تشارلز مع البيتش بويز.
عن ماذا يغني تشارلز مانسون؟
استثمر تشارلز موسيقاه لغرض شخصي، وللاستمتاع دون الاكتراث بإرضاء شخص آخر، وهذا ما عبَّر عنه في أغنيته «People Say I'm No Good».
«- أخبرنا بجملة واحدة مَن أنت.
- لا أحد. أنا لا أحد. أنا متشرِّد، متسكِّع، متسوِّل. أنا عربة للنقل، وإبريق للخمر، وموسى حلاقة إن اقتربت جدًّا مني».
هذه الإجابة هي ما أثار انتباهي لتشارلز الذي لم أعرف عنه شيئًا. مَن يكون هذا الرجل الجالس بثياب السجن، وصاحب هذه الإجابة التي تذهب وتجيء مثل بندول بين كلام فيلسوف عدمي ومجنون لا يكترث لشيء؟ تشارلز كان في مقابلاته الكثيرة يتسلى ويستمتع بالاهتمام الموجَّه إليه، وبخاصة كشخص يمضي عقوبة المؤبَّد في السجن، ولا يوجد ما يفعله.
اكتشفت بعد ذلك أن تشارلز مانسون يعرفه العالم كله كمجرم، ولكن قلة قليلة تعرفه كموسيقي قدَّم رصيدًا لا بأس به من الأعمال. تشارلز مانسون مجرم فريد من نوعه، فقد استطاع أن يُدخِل مشهد موسيقى الفولك إلى السجن من خلال تصرفاته ومنظومة فهمه وتسجيله لأكثر من ثلثي أغانيه داخل السجن.
وهذا أكثر ما استوقفني، وها أنذا أكتب عن موسيقاه، وليس عنه بالتحديد. ومن المؤكد أن هناك موسيقيين دخلوا إلى السجن، أو لهم سجل غير نظيف، أو حتى سجلوا بعض أغانيهم في السجن، لكن حتى طريقة تعامل تشارلز مع الموسيقى داخل عقله كانت استثنائية، وجعلته يدخل التاريخ، ولو ليس كما تمنى (أو ربما كما تمنى، لا أحد يعلم).
اتَّسمت أغاني تشارلز المبكرة بمدِّتها القصيرة التي تراوحت بين الدقيقة والنصف والدقيقتين والنصف. أغانٍ لا يوجد فيها توليف موسيقي معقَّد، فببساطة هناك شخص يعزف بعض الكوردات على غيتار ويغني، ويجرِّب أن يتحدث عن أفكاره الخاصة، وإيصال ما يريد قولَه.
استثمر تشارلز موسيقاه لغرض شخصي، وللاستمتاع دون الاكتراث بإرضاء شخص آخر، وهذا ما عبَّر عنه في أغنيته «People Say I'm No Good».
تغيرت طريقة تقديمه للموسيقى مع الوقت، خصوصًا بعدما بدأ بتسجيلها من داخل السجن، فقد أصبح لديه كثير من الوقت ليطور قدراته على الغيتار، وجرَّب لعب البلوز في بعض أغانيه، وكتابة الكلمات، أو الأصح كتابة قصائد طويلة وغناءها بشكل مطوَّل قد يصل إلى سبع دقائق، مثل أغنية «Peace In Your Heart».
قدَّم تشارلز نفسه كشاعر ومتمرِّد ومشاكس يحب الأفعال غير القانونية، ويحب أن يُظهِرَ نفسه أحيانًا كرجل حكيم، ففي أغنيته «Look At Your Game, Girl»، التي سجلها عام 1967، وأعادت غناءها فرقة «Guns N' Roses» عام 1993 في ألبومهم «The Spaghetti Incident» على شكل «Hidden Track»، يتحدث مع/عن فتاة ضائعة في العالم ومرتبكة بمشاعرها المتضاربة، ليوجِّهها أو ليمنحها صحوة وهو يغني.
أما عن ألبومات تشارلز:
ألبوم «One Mind» هو آخر ما قدمه مانسون، وقد سجله داخل السجن، فتخلل التسجيل أحاديث في خلفية الأغاني، ما جعله حقيقيًّا أكثر.
«Lie: The Love & Terror Cult»: سجل تشارلز ألبومه الأول قبل ارتكابه الجرائم، وهذا الألبوم الوحيد الذي عمل عليه بشكل احترافي. إنه الألبوم الذي غنَّى لاحقًا معظم أغانيه عدة فرق وموسيقيين، منهم «مارلين مانسون» الذي اختار هذا الاسم تيمنًا بتشارلز مانسون و«مارلين مونرو».
«All The Way Alive»: ألبوم تجريبي لتشارلز، سجله عام 1967، وأدخل فيه بعض التنويعات من موسيقى البلوز. يتسم الألبوم بدقة تسجيل جيدة نوعًا ما، وكـ«تحلية» للألبوم يختتمه تشارلز باستعادة لأغنية «ويلي نيلسن» «Night Live».
«Commemoration»: أرى أن هذا الألبوم أفضل ما غنَّى تشارلز، ومع الوقت، وبعد الاستماع إليه عدة مرات، أضبحت أراه من أفضل الألبومات. هذا الألبوم عبارة عن تجميع لأغانٍ غنَّاها تشارلز في السجن خلال الثمانينيات، ألبوم «لَيلي»، إذا صح التعبير.
«One Mind»: آخر ما قدمه مانسون، وقد سجله أيضًا داخل السجن، التسجيل سيئ بعض الشيء، ويتخلله أحاديث في خلفية الأغاني، ما يعطيه ميزة، أو ما يجعله حقيقيًّا أكثر. هذا الألبوم يعد بمثابة العصا التي إن أمسكنا بها ستؤدي بنا إلى معرفة أين أصبح تشارلز موسيقيًّا.
البيتلز كدليل إلى القتل:
في شهر نوفمبر سنة 1968 صدر ألبوم «White Album» للبيتلز يتضمن أغنية «Helter Skelter» التي أصبحت، كسخرية، أغنية تشارلز مانسون المفضَّلة لى درجة أن جريمته التاريخية ستسمى تيمنًا بهذه الأغنية، وستُكتَب (مع خطأ إملائي) بالدم على الثلاجة التي في منزل «لينو لابيانكا»، نُفِّذَت هذه الجريمة على دفعتين، في الليلة الأولى قتل خمسة أشخاص، وفي الليلة الثانية شخصين، وكان إحدى ضحايا الجريمة ذات الجزأين/الليلتَين «شارون تات»، زوجة المخرج البولندي «رومان بولانسكي».
إلا أنني لستُ هنا للغوص في الحديث عن جريمة تشارلز مانسون، بل للحديث عن ما يتعلق بالموسيقى في حياة هذا الإنسان الذي فهم الموسيقى كدليلٍ إلى ارتكاب جريمة موسعة ستدخل تاريخ أمريكا.
الأمر لم يتوقف عند أغنية «Helter Skelter»، بل رأى مانسون أن هناك رسائل مبطَّنة في الأغاني الثلاثين التي في الوايت ألبوم، مثل أغنية «Pig» و«Blackbird» و«Revolution 9». وفهِمَ منها أن البيتلز يدعون إلى حرب عِرقية بين البيض والسود. وعندما صدر الوايت ألبوم سمعه تشارلز مانسون مرارًا وتكرارًا، كما تقول «كاثرين شير» إحدى فتيات الفاميلي الخاصة بمانسون.
ما هي إمكانية أن يتمنى شخص ما أن يصبح موسيقيًّا وكاتب أغان، إلا أن العالم يقدمه كسفاح؟
مانسون رأى أن أغنية «Revolution 9» لها ارتباط بسفر الرؤيا «Book of Revelation» في الإنجيل، فقد خلق رابطًا متعلقًا بالآيات التي في السفر وبالبيتلز وبه، فقد رأى ما ورد في سفر الرؤيا 9، 1: «ثم بوَّق الملاك الخامس، فرأيتُ كوكبًا قد سقط من السماء إلى الأرض، وأعطى مفتاح بئر الهاوية»، أن المقصود بالملاك الخامس هو مانسون، ولا أحد غيره.
أما في سفر الرؤيا 9، 15: «فانفكَّ الملائكة الأربعة المعدون للساعة واليوم والشهر والسنة، لكي يقتلوا ثلث الناس»، فيرى تشارلز أن هؤلاء الملائكة الأربعة هم أعضاء فرقة البيتلز المؤلَّفة من أربعة أشخاص. وسفر الرؤيا 9، 7-8: «وشكلُ الجراد شبه خَيل مهيّأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليل شبه الذهب، ووجوهها كوجوه الناس. وكان لها شَعر كشَعر النساء، وكانت أسنانها كأسنان الأسود»، فيرى تشارلز أن البيتلز هم المقصودون بالجراد الأربعة التي لها وجوه كوجوه الناس، وشعرها كشعر النساء (أي شعر طويل).
إذًا، رغم رغبة تشارلز مانسون في أن يصبح أفضل من البيتلز، إلا أنه مع تحليلاته وطريقة فَهمه السابقة الذكر هذه، يرى تشارلز أنه قد بجَّل البيتلز، وورآهم الأشخاص الذين سيتعاون معهم لنشر العدل والقضاء على غرور أصحاب البشرة البيضاء، وقد بدأ هذا حقًّا بجريمته التي قتل فيها سبعة أشخاص.
أدلى البيتلز ببعض التصريحات في ما يخص أفعال تشارلز مانسون وتحليلاته التي تتناولهم، وتجعل أغانيهم بكلماتها مرجعًا لكل فلسفته هذه، تصريحات تجعلك تندهش كيف لشخص ما أن يفهم موسيقاهم بهذه الطريقة، كما قال «جون لينون» في مقابلته مع مجلة «رولينغ ستون»: «لا أعرف كيف تكون أغنية Helter Skelter سببًا في طعن أحدٍ ما».
في النهاية ما هي إمكانية أن يتمنى شخص ما أن يصبح شيئًا ما، ويصبحه، إلا أن العالم يقدمه كشيء آخر أيضًا أصبح عليه، أي تفضيل شيء من الشيئين؟ ما هي إمكانية أن يتمنى شخص ما أن يصبح موسيقيًّا وكاتب أغان (تقنياً هذا ما هو عليه الآن)، إلا أن العالم يقدمه كسفاح؟ هذا ما حدث مع تشارلز مانسون الذي يستحق أن نستمع إليه لأنه يقدم لنا فرصة الدخول إلى رأس رجل مجنون وشغوف مثله عن طريق أغانيه، وفهمه لأغاني غيره، والذي لربما لو أن مسيرته الفنية قد نجحت لَما جنح إلى هذا الهياج والقتل... ربما.
فراس المعصراني