نسخة مصدَّقة: ما الفن وقد استُهلكت كل الأفكار؟
يتمثل جمال العمل الفني في كونه أصليًّا، ففكرة الإبداع تأتي من ابتكار الشخص، حين يجسد الفنان فكرة بإحساسه الخاص إلى شيء ملموس مرئي، وحين يعيد خلق رؤية جديدة لشيء قد تراه آلاف المرات، فيترك روحه وبصمته فيه ليصير عملًا مختلفًا.
ولكن هل لتلك الأعمال التي يُعاد خلقها من عمل أصلي مبتكَر قيمة حقيقية؟
لا يقتصر السؤال هنا على اللوحات المرسومة، بل كل أنواع الأعمال الفنية والسينمائية والأدبية، أو حتى الموسيقية.
النسخة الأصلية
في مشهد من فيلم «نسخة مصدقة» (Certified Copy) للمخرج الإيراني «عباس كياروستامي»، تقف البطلة أمام إحدى اللوحات في المتحف وتقول: هذه اللوحة تُسمَّى «النسخة الأصلية»، وهي لوحة لامرأة رومانية أُعيد رسمها من لوحة أخرى قديمة، ولكنها بجمال اللوحة الأصلية وهذا يجعلها مميزة، مع أنها ليست إلا استنساخًا من عمل أصلي.
يقدم «كياروستامي» في هذا الفيلم فكرة كانت دائمًا تجتاح رأسي، فكرة الاستنساخ. أظنُّ أنني لم أكُن لأجد متعة حقيقية في مشاهدة فيلمه هذا لولا الطريقة التي طرح بها الفكرة، وكما قدم في أحد أفلام السابقة، (Close-Up)، فكرة الانتحال، جعلني هُنا أقف عند الزاوية أعيد التفكير في الأعمال الفنية الأصلية والنسخ المأخوذة عنها، وحقيقة الكينونة لهذه الأعمال على حدِّ سواء، وأتساءل:
هل للأعمال المنسوخة قيمة؟
يفتتح «كياروستامي» فيلمه هذا مع بطله الكاتب «جيمس ميللر»، الذي يُجري مناقشة في مؤتمر صغير عن كتابه الجديد الذي يحمل عنوان الفيلم، ويضع تحت عنوان الكتاب جملة جانبية تقول: «دعكَ من الأصل، فقط احصل على النسخة».
يواصل مؤلف الكتاب حديثه عن محتواه الذي يتكلم عن الأعمال الأصلية والنسخ، فيعود بالكلام إلى جذور كلمة (Original) التي لها معانٍ مختلفة؛ مثل: حقيقي، أصيل، موثوق، ومنها أيضًا باللاتينية: ولادة، ويبدو أن «ميللر» يريد الوصول في نهاية حديثه إلى أن كل الأشياء في هذا العالم ليست سوى نسخ من شيء مختلِف.
حتى الحمض النووي (DNA) في الإنسان يمثِّل فكرة الاستنساخ والتكرار، وحتى العمل الفني نفسه ما هو إلا نسخة من الواقع الذي جاء منه، وكما يقول بطل رواية «نادي القتال»: «كل شيء هو نسخة من نسخة من نسخة».
ما الأصلي إذًا؟
قد تجعلنا فكرة الاستنساخ نحاول العودة إلى أصل كل الأعمال الفنية، إلى جوهر العمل الفني، إلى ما هو أبعد من فكرة الفن نفسه.
ما الفرق بين لوحة لامرأة رُسمت من امرأة حقيقية، ولوحة أُعيدَ رسمها لتلك المرأة من صورة رُسمت لها؟
ربما سنجد أنه لا شيء حقيقي، حتى فِكر الفنان الخاص يمكن أن يكون نتاج مجموعة من الأفكار التي حصل عليها بسبب تأثير الآخرين عليه، وهم بدورهم كوَّنوا تلك الأفكار تحت تأثير آخرين تداخلوا في حياتهم، كأن العالم كله مجرد جذور أشجار يتشابك بعضها في بعض، لتخلق شجرة هي الحقيقة التي لن نصل إليها أبدًا.
لكن الفيلم لا يحاول جعل فكرة الاستنساخ تسيطر علينا، فهنا أيضًا يريد «كياروستامي» أن يجعلنا ننظر إلى العمل المنسوخ بالطريقة نفسها التي ننظر بها إلى الأصلي، فما الفرق بين لوحة لامرأة رُسمت من امرأة حقيقية، ولوحة أُعيدَ رسمها لتلك المرأة من صورة رُسمت لها؟ ألا يجعل ذلك اللوحتين تتساويان في كونهما نسختين عن شيء آخر حقيقي أو صورة عن الحقيقة؟
يقول الفيلسوف الألماني «مارتن هيدغر» (Martin Heidegger): «كل عمل فني يفتتح عالمًا بطريقته»، ولعله يعني بذلك أنه حتى العمل المنسوخ يفتتح طريقًا لعالم آخر.
المبدع أم المتلقي، مَن يصنع الفن؟
ربما تنشأ قيمة العمل من الطريقة التي ننظر بها «نحن» إلى العمل الفني، والرأي الذي نكوِّنه بمجرد النظر.
بوسع فنان ما، كما قال «ميللر» في الفيلم، أن يضع عنصرًا عاديًّا (لوحة علبة صلصة الطماطم التي رسمها «أندي وراهول» مثلًا) في متحف، ولكن ما سيجعل لذلك العنصر قيمةً ليس كونه عملًا أصليًّا أو نسخة، بل الطريقة التي سننظر بها إلى العنصر.
لو أننا جعلنا لعنصر عادي قيمة فنية فسيصبح بالفعل عملًا فنيًّا، وهو ما وضَّحه «كياروستامي» في مشهد الطريق المليء بأشجار السرو على ضفتيه، إذ ينظر البطل إلى كل شجرة على أنها مختلفة ومميزة، ولكن، لمجرد أنها في حقل زراعي، لا يستطيع أحد أن يرى جمالها ولو كان عمرها يتجاوز ألف سنة، في حين ستحصل علبة كوكا كولا على كل الاهتمام لأنها في متحف فني.
هذا هو ما بُني عليه مفهوم «الفن الحديث»، آراء الناقد حول العمل هي ما يصنع قيمته، وبالطريقة نفسها يمكن أن تنظر إلى لوحة منسوخة على أنها بجمال الأصلية، فتصير جميلة.
لنفترض ضياع النسخة الأصلية، فهل تحلُّ النسخة البديلة محلها في جمالها لمجرد أن الأصلية لم تعُد موجودة؟ قد يكون اﻻستنساخ فكرة جيدة
قد يخلق الاستنساخ أفكارًا جديدة، فالتاريخ يثبت أن كثيرًا من الفنانين عثروا على أساليبهم الخاصة والمبتكرة من خلال نسخ أعمال أو أساليب لفنانين آخرين، حتى إن البعض يستشهد بأن على الهاوي أن يصقل مهاراته بنسخ أعمال الفنانين الكبار حتى يجد أسلوبه الخاص.
بالفعل تأثر بعض الفنانين بأساليب الآخرين حتى عثر على نفسه؛ مثل الأعمال الأولى للرسام النمساوي «إيغون شيلي» (Egon Schiele)، التي كانت متأثرة بوضوح بأسلوب صديقه الرسام «غوستاف كليمت» (Gustav Klimt)، وحتى في الوقت الحاضر سنجد هذه الفكرة حيَّة مع مخرجي أفلام كُثر، تتشابه أعمالهم إلى حدٍّ كبير مع مخرجين سابقين.
ربما تطورت السينما خصوصًا نتيجة تأثر فنان بآخر، حتى إذا نظرنا كمثال إلى فكرة إعادة صنع فيلم آسيوي بنسخة أمريكية، فهذا يصور لنا الفارق الذي يمكن أن تخلقه النسخة من العمل الأصلي، إذا تناغمت مع ثقافة شعب آخر تختلف عن ثقافة الشعب الذي جاء منه العمل الأصلي.
الفن الحقيقي هو القيمة
لا شك في أن بين الاستنساخ والإلهام فرقًا كبيرًا، لكن المهم هو القيمة التي يصنعها العمل الفني، سواءً كان أصليًّا أو نسخة.
هدف الفن الأساسي هو أن يجعلنا نسأل ونحتار ونبحث ونسعى لإيجاد إجابة، أو أن نخلق واحدة بأنفسنا.
أظن أن فيلم «نسخة مصدَّقة» لم يجد إجابة في النهاية، رغم أنه طرح الفكرة بشكل غريب، إذ سيلتقي الكاتب «جيمس ميللر» أحدَ الحضور من مؤتمره؛ امرأة تُدعى «إيلي»، صاحبة متجر للتحف القديمة، وبعد حوار معها يتظاهران بأنهما زوجان لأن صاحبة المقهى ظنت ذلك، ثم يتصرف كلاهما بناءً على فكرة أنهما زوجان وأنهما يعرفان بعضهما، حتى يجد المشاهد نفسه ضائعًا في حقيقة ما يحدث، هل هما زوجان بالفعل أم غريبان يلعبان الدور؟
هذه الخدعة التي لعبها «كياروستامي» في طرح القصة تجسد فكرة كتاب بطله، الأصل والنسخ، فقد تتخيل أن «جيمس» و«إيلي» غريبان فعلًا، لكنهما أيضًا نسخة من زوجين حقيقيين، ومن خلال استنساخهما فكرة الزوجين يحاولان حل مشكلاتهما الشخصية ومناقشة المشكلات التي قد يتعرض لها أي زوجين في وضعهما.
حتى لو لم يضع «كياروستامي» نفسه إجابة عن حقيقة فكرة العلاقة بين شخصيَّتيه، فقد نجح في اختلاق هذا العمل بشكل باهر، لأن هدف الفن الأساسي هو أن يجعلنا نسأل ونحتار ونبحث ونسعى لإيجاد إجابة، أو أن نخلق واحدة بأنفسنا، وأيضًا أن نبحث عن الحقيقة، وهو بالتحديد السبب الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال.
رؤيا شعبان