كسر الحائط الخامس: الممثل أهم من النص
ربما يذكر كثيرون ذلك المشهد من فيلم «رصيف نمرة 5»، حين يواجه الشاويش خميس (فريد شوقي) المعلم بيومي (زكي رستم) في المسجد بعد أن يفرغ الأخير من الصلاة، فيحاول بيومي الهرب من المواجهة بأن يقوم ليصلي ركعتين، لكن فريد شوقي يقطع عليه صلاته قائلًا: «لأ لأ لأ، دانا عاملها قبل منّك»، في إشارة إلى مشهد في فيلمه «جعلوني مجرمًا»، يهرب فيه من القبض عليه بالصلاة في المسجد.
لنكسر الحائط الرابع أولًا
يأتي كسر الحائط الخامس أكثر اتساقًا مع فكرة الخروج عن النص، فمن الصعب افتراض أن الكاتب وضع في نَصِّه هذه الإحالات الواضحة إلى أعمال سابقة للممثلين.
أن يُحِيلَ الممثل الجمهور إلى أعماله السابقة، فهذا التصرف واحد من تخريجات مصطلح كسر الحائط الخامس، باعتبار هذا الحائط المعنوي يفصل بين العمل الحالي والأعمال السابقة. هذا المصطلح امتدادٌ للمصطلح الأقدم الأشهر، كسر الحائط الرابع، عندما يكسر الممثلون في المسرح أو السينما أو التلفزيون الحائط الوهمي الذي يفصلهم عن الجمهور ويخاطبونه، في إشارة إلى الطبيعة الخيالية للدراما ولشخصياتهم.
فعلها كثيرون، وفي كل مكان في العالَم بالتأكيد.
قد يكسر أحدهم الحائط الخامس لزميله، مثلما فعل الممثل الطفل آنذاك «أوستن أوبرايان» في فيلم «Last Action Hero» خلال حديثه مع «أرنولد شوارتزنيغر»، حين أشار إلى فريد مراد الإبراهيم بعد خروجه من الكادر بأنه «قَتل موتسارت» ، مستدعيًا دور الإبراهيم في شخصية الموسيقار «أنتونيو سالييري» في فيلم «Amadeus».
كذلك فعلها عادل إمام في مسرحية «الواد سيد الشغال»، في أثناء حواره مع عمر الحريري، إذ ذَكَر دور الحريري في «ألف ليلة وليلة» مجسدًا شخصية الملك كهلان.
قد يعجبك أيضًا: الشيخوخة تنخر عرش الزعيم عادل إمام
يأتي كسر الحائط الخامس أكثر اتساقًا مع فكرة الخروج عن النص، وذلك أنه من الصعوبة بمكان افتراض أن الكاتب المسرحي أو كاتب السيناريو في الأمثلة السابقة وضع في نَصِّه إحالات واضحة إلى أعمال سابقة للممثلين، إلا لو كان يكتب وفي ذهنه أن فريد شوقي ومراد الإبراهيم وعمر الحريري تحديدًا سيؤدون تلك الأدوار. الأقرب إلى طبيعة الأمور أن الإحالة حدثت عفوًا وبشكل تلقائي تمامًا خلال تصوير «رصيف نمرة 5» و«Last Action Hero»، وكذلك «الواد سيد الشغال».
النص ووراؤه الممثل
في كتابه «ازدهار وسقوط المسرح المصري»، يستعرض الناقد المسرحي الراحل فاروق عبد القادر ثلاث مراحل مهمة مرّ بها المسرح المصري في تقديره، أولها مرحلة التكوين قبل يوليو 1952، مسرح نجيب الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسّار، ثم مرحلة الازدهار في خمسينيات ومعظم ستينيات القرن العشرين، ثم السقوط منذ نكسة 1967 إلى زمن انتهائه من الكتاب في أواخر السبعينيات.
ما نلاحظه بسهولة، رغم أن عبد القادر لا ينُصّ عليه صراحةً، أنه في استعراضه هذا لم يتوقف طويلًا، بل لم يتوقف إطلاقًا إن لم تكن الذاكرةُ قد خانتني، عند أسماء أبرز الممثلين الذين قامت على أكتافهم النهضة المسرحية التي يتحدث عنها في الخمسينيات والستينيات، بينما في مرحلة التكوُّن، التي أدانها بشدة واعتبر بريقها التاريخي زائفًا، وكذلك في مرحلة الانهيار، أفاض في سرد أسماء الممثلين الذين حققوا إيرادات استثنائية للمسرح التجاري على خلفية نصوص ضعيفة أو سطحية التناوُل في رأيه.
الشاهد من هذه الملاحظة أن الممثلين يتوارَون خلف النص أو يذوبون فيه تمامًا في الدراما الجيدة من وجهة نظر فاروق عبد القادر. فمسرحيات ألفريد فرج وميخائيل رومان وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي، رغم حملة فاروق عبد القادر على الأخير لأسباب خارجة عن موضوعنا، أذابت المؤدِّين على خشبة المسرح تمامًا، بينما أتاحت النصوص الأكثر سطحيةً صعود نجم الثلاثي فؤاد المهندس وشويكار وعبد المنعم مدبولي في المسرح التجاري.
شهرة الممثل وخروجه عن النص
نعود من استطرادنا الطويل إلى مسألة كسر الحائط الخامس. فإمكان حدوث هذا الكسر يختلف باختلاف الوسيط الذي تُعرَض من خلاله الدراما، ويختلف أيضًا حسب مدى شهرة المؤدِّين وجماهيريتهم. في السينما والتلفزيون، حيث تُعاد المشاهد مرات ومرات حتى تنضبط كما يراها المخرج، وحيث ينفصل المؤدُّون عن الجمهور مكانيًّا وزمانيًّا، تقلُّ فرصة الخروج عن النص إجمالًا، وتقل بالتالي فرصة كسر الحائط الخامس.
بإمكاننا أن نتخيل مئات المرات التي لم يُشِر فيها عادل إمام إلى دور عمر الحريري في «ألف ليلة وليلة»، لكن حضور الكاميرا مرةً واحدةً فقط كفيلٌ بإغرائه بهذا الكسر.
لكن عامل شهرة الممثلين يظل مُحَدِّدًا بالغ الأهمية في احتمال حدوث هذا الكسر، فمن نافلة القول أن ممثلًا ناشئًا حديث عهد بالكاميرا، أو ممثلًا مغمورًا أفنى حياته على المسرح دون أن يحظى بالجماهيرية، لن يجد رصيدًا من الأعمال المعروفة عند الجمهور يُحيلُهم إليه من الأساس.
هناك عامل آخَر شديد الأهمية ويرتبط بالشهرة، هو حضور الكاميرا وإمكان تسجيل العرض. بإمكاننا أن نتخيل مئات المرات التي اعتلى فيها ممثلو «الواد سيد الشغال» خشبة المسرح ولم يُشِر فيها عادل إمام إلى دور عمر الحريري في «ألف ليلة وليلة»، لكن حضور الكاميرا مرةً واحدةً فقط كفيلٌ بإغرائه بهذا الكسر.
ما يحدث في كسر الحائط الخامس أشبه بأن يكون معادلًا موضوعيًّا من ناحية الممثل لنشر الأعمال الكاملة لمؤلف مسرحي. الممثل في هذا الكسر ينشُر بالفعل سِجِلّ أعماله السابقة أمام المتلقين، داعيًا إياهم بشكل غير مباشر إلى إجلال مشواره الفني وتقدير ظهوره أمامهم.
يمكننا أن نرى في هذا الكسر شكلًا من أشكال انتقام محترفي التمثيل لأسلافهم الممثلين الذين جسّدوا آلاف الأدوار على المسرح، منذ «إسخيلوس» و«سوفوكليس» و«يوريبيديس» و«أريستوفانس» اليونانيين إلى ما قبل اختراع التصوير السينمائي وتصوير الفيديو. هؤلاء الأسلاف هم من أعطَوا النصوص المسرحية لَحمَها الحقيقي الذي شاهدها به جمهور العصور الغابرة، دون أن يكون لهم نصيب من المجد الاستثنائي الذي حَظِيَ به كُتاب الدراما، فمجدهم انتهى بموتهم، ولم يبقَ منهم إلا قليل من الحكايات المتناثرة هنا وهناك في سطور المؤرخين.
أما وحوش التمثيل الكاسِرَة، التي ظهرت مع تصوير السينما والفيديو، فلها أن تخلِّد أسماءها بكل الطرق أمام الكاميرا، ولا يمكن في الواقع الحَجر على هذه الطرق.
بالطبع يمثل هذا قيمة سلبية لدى قامة من قامات النقد المسرحي كالراحل الكبير فاروق عبد القادر، تُضاف إلى تهافُت النصوص وسطحيتها المحرضة على الخروج عليها في الأداء في وجهة نظره. لكن هذا لا يغير من الواقع شيئًا: نحن أمام مسرح الممثل في مواجهة مسرح المؤلف. وهذا الموضوع لا يتبني رأيَ فاروق عبد القادر بصورة تامة، ولا يرى تلازمًا محتومًا بين مسرح الممثل والانهيار، بقدر ما يعنيه رصد الظاهرة ومحاولة فهمها على الوجه السالف بيانُه.
ماذا لو عاد شكسبير؟
نتذكر رأيًا عابرًا للشاعر والمسرحي الكبير الراحل صلاح عبد الصبور، أورده في مقدمة لمسرحياته الشعرية، يُبدي أسفه على خسارة المؤلف المسرحي المعاصر دورَ المُخرِج لنصوصه على خشبة المسرح.
ربما، كي يعود المؤلف المسرحي وكاتب السيناريو إلى مكانة ما قبل الكاميرا، فعليهما أن يتجاوزا طموح صلاح عبد الصبور في الإخراج إلى الظهور في لحم الدراما كممثلين.
منذ أكثر من أربعة قرون، لم يكن لوليام شكسبير أن يحلم بكل هذا المجد لو كان قد بقيَ مجرد ممثل في فرقة مسرحية، حتى لو كان أعظم ممثل في عصره. أما لو عاد شكسبير إلى الحياة بعد الكاميرا، فربما لم يكن ليجد نفسه مضطرًّا إلى كتابة حرف واحد، ما دام ممثلًا جذابًا تلاحقه العدسات.
محمد سالم عبادة