أدب البدون: عن المقاومة والمنفى وصراع الهوية
برز نزوع ملفت نحو العقلانية وقضايا العدل والمساواة في عصر الحداثة، فقد سعى هذا النظام الحداثي إلى الإعلاء من شأن الإنسان وقيمته، وألقى بظلاله على المجال الأدبي، فأخذ الأدباء الحداثيون على عاتقهم إنشاء أدب خاص يعد امتدادًا للحياة، خلال سعي الإنسان فيها لتحقيق فردانيته.
بحسب الكاتب السوري جمال شحيد في «خطاب الحداثة في الأدب»، فإن الأدب الحداثي التفت إلى المهمشين وما يعانونه من تمزق وقلق وانشطار في الهوية، وصدّره أدباء من هذا الهامش الاجتماعي. ويقول أنطونيو غرامشي بحسب شحيد: «تصدر عن مثقف عضوي ارتبط مصيره بمصير الطبقات المحكومة لا الحاكمة، لأن هذه الطبقات تمثل الغالبية الساحقة من الناس».
وقد عبرت الرواية الحديثة عن تلك القضايا، حتى بات من غير الممكن فصل الرواية عن السياق المجتمعي، لأن الرواية إنتاج إنساني، وهي مادة غنية وفضاء يتسع لحمولات القضايا الثقافية، يتجذر فيه الواقع والحياة الإنسانية، وتأتي انعكاسًا لجوهر صراع الإنسان في هذا العصر الذي يرمي إلى إرساء قاعدة ذاتية يبني عليها فردانيته.
تمكنت الرواية من تحليل الذات في المجتمع الحديث بعمق حتى تصدر موضوع الهوية فيها. والهوية كيان ذاتي يصفه الباحث مصطفى محمد طه في مقاله «الهوية: الشكل والمضمون» بأنه «الشعور العميق الوجودي الأساسي للإنسان، والشعور العميق الخاص بانتمائه». وإذا تعرضت الذات للكبت أو ترافقت مع عدم الأمان والتشرد ولم تستطع التماسك، ستصاب الهوية بالهشاشة، مما يولد صراعها وأزماتها. والأزمة تعني التصدّع والاضطراب في العلاقات، والانكسارات في أشكال الروابط الذاتية والاجتماعية، كأن يتعرض الفرد للإقصاء من الجماعة، أو تتخطفه الانتماءات المتناقضة والمتعارضة في آن واحد.
يعد شعور الانتماء عصب الهوية، وشرطًا أساسيًا لوجود الفرد، وهو عامل مهم في رؤيته لنفسه كجزء من منظومة وكيان أكبر.
ويعد أدب البدون تمثيلًا لأدب الهامش، وأرشيفًا لحفظ هوية البدون، التي تسعى السلطة لانتزاعها منهم.
تاريخ أدب البدون
نهضت الرواية الكويتية وانفتحت على مختلف القضايا متأثرة بالتحولات السياسية والمجتمعية، وقد نضجت على يد الكاتب الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، والذي يعد نتاجه الروائي بداية حقيقية للرواية الكويتية، إذ رصد فيه التحولات في المجتمع الكويتي وأبعادها على الإنسان في الكويت بشكل سردي تتوفر فيه جميع مقومات الرواية الحديثة.
وما فتئت الرواية الكويتية تطرق باب المسكوت عنه، ومن ذلك قضية البدون، حتى شهد الأدب الكويتي ظاهرة عرفت بأدب البدون، وهو مسمى يصف الأدب الناتج والمتحدث عن البدون، وكان يظهر على استحياء من قبل، وقد أطلق عليه الناقد والأديب والأستاذ الجامعي سليمان الشطي مصطلح «النص المجاور» في كتابه «الشعر في الكويت»، الأمر الذي أثار جدلًا مستمرًا حول من يكتب أدب البدون، وما إذا كانت الأعمال التي يكتبها من يمتلكون الجنسية الكويتية حول واقع البدون ضمن سياق هذا الأدب أم لا. إلا أن هنالك قراءات نقدية قدمت لاحقًا قراءات حول الحضور المغرق في رمزيته لتمثيل عديم الجنسية داخل السرد القصصي الكويتي (من يمتلكون الجنسية).
لكن أدب البدون في السنوات العشر الأخيرة صار أكثر جرأة، واكتسب شرعية أعلى في الأوساط الأدبية نتيجة لصعود فكر المهمشين وأدب الهامش بعد أحداث الربيع العربي، وعاش هذا الأدب حالة من التطور والانتشار وحقق نجاحًا في المشهد الثقافي الكويتي على يد جيلين من الأدباء، أبرزهم الأدباء البدون الذين عاشوا حياتهم ضمن هذا الهامش الاجتماعي، وهم على سبيل المثال: ناصر الظفيري، وكريم هزاع، وسعدية مفرح، ومحمد النبهان، ومنى كريم، وخالد تركي، وهنادي الشمري.
أصبح «أدب البدون» إذًا مفهومًا مكرسًا مع حراك البدون في 2011، والذي تأثر به عديمو الجنسية في الكويت بحسب محاضرة «على أطلال الأدب القومي: عن أدب يكتبه الغرباء» للكاتبة البدون منى كريم. وتشير منى إلى أن البدون نزحوا لكتابة الشعر، وهو ما أعاده البعض إلى تفسير أنثربولوجي بحكم عودة أدباء البدون لأصولهم العشائرية، ولكن منى تعتبر أن الدافع وراء اختيار الجنس الأدبي «الشعر» سياسي، وذلك لضمانه مساحة كبيرة للتعبير دون التعرض للملاحقة الأمنية.
إلا أنه ومع أحداث حراك البدون ذلك العام، تولد نوع من «الوعي الجمعي» الذي أصبح دافعًا للشعور بالسردية المشتركة لجماعة هم «البدون»، فكان الاتجاه للرواية. نقرأ حول جِدة هذا المفهوم مثلًا في حوار أجري مع الشاعر البدون دخيل الخليفة عام 2014 حول مدى اتفاقه مع انتشار مصطلح «أدب البدون»، يقول فيه إن الأدب الكويتي لم يجرب مرارة الإقصاء وأزمة الوجود وضياع الحقوق الأساسية، فضلًا عن الوصم الذي تحمله كلمة بدون، مما حتم ظهور هذا التميز بإطلاق هذه التسمية «أدب البدون».
وجد الأدباء البدون في الأدب خلاصًا، فارتموا في أحضانه مجسدين معاناتهم، ومنحهم الأدب فرصًا لحياة جديدة، يقاومون من خلاله الإقصاء ويحاولون التفاعل مع المجتمع.
ومع بحثنا، توصلنا إلى مقال قصير ومقتضب حول أدب البدون بوصفه «البعد الإنساني» لواقع البدون في جريدة «الجريدة» مطلع عام 2012، للكاتبة والناقدة الكويتية نجمة إدريس. وحتى قبل اصطلاح هذه التسمية، يمثل المقال الآن وثيقة للتحول في وجود البدون والتعامل السياسي معهم قبل حرب الخليج وبعدها، والتي تعد تحولًا في العلاقة بين السلطة في الكويت وعديمي الجنسية.
الجدير بالذكر أن موقع بلاتفورم الذي يعد منصة تعبر عن أصوات البدون اليوم، خصص قسمًا منه لأدب البدون، يتراوح الجنس الأدبي فيه بين الشعر الفصيح والشعبي والنثر والقصة القصيرة والسرد غير المجنس، ويتناول ثيمات العزلة، والإقصاء، والحيرة أمام الواقع الذي ما زال البدون يعيشونه دون أي حلول سياسية تلوح في الأفق.
الجيد في هذه المنصة أنها تعرفنا إلى أصوات جديدة تتجاور مع أسماء كرست نفسها لمشهد أدب البدون مثل سعدية مفرح، وهي بذلك قد تصبح أرشيفًا مهمًا لتجارب الأدب التي يكتبها البدون اليوم وفي المستقبل، ومرجعًا لدراسة بِنى هذه النصوص التي تعكس هذا الواقع المأزوم.
قضايا أدب البدون
على رأس المسائل التي أثارها أدب البدون مسألة الهوية، إذ تقف هوية البدون أمام تحدٍ كبير في مواجهة الأوضاع والعقبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتمثل الرواية في أدب البدون واقعهم هذا، وتعكس التصدعات في ذواتهم خلال صراعهم مع الظروف والمجتمع، إذ تسبر أغوار الإنسان المسحوق والمشتت فيهم، وتثير اهتمام الناس بقضيتهم من خلال أسلوبها الذي يتخذ من الخيال الأدبي واللغة الفنية أدوات مؤثرة للتفاعل.
ونتيجة لتدافع قوى الصراع بين المركز والهامش، المتمثل في صعود قضايا حقوق الإنسان ونزول فكرة امتلاك طرف واحد لحقيقة مطلقة، خُلقت في الهامش آمال وأحلام وتطلعات للارتقاء بحيواتهم، فاتخذوا من الأدب وسيلة لبث الوعي والنضج بين الناس، ووجد الأدباء البدون بدورهم في الأدب خلاصًا، فارتموا في أحضانه مجسدين معاناتهم، ومنحهم الأدب فرصًا لحياة جديدة، يقاومون من خلاله الإقصاء ويحاولون التفاعل مع المجتمع.
تجربة ناصر الظفيري نموذجًا
كان نتاج ناصر الظفيري السردي ضمن أول الأعمال الأدبية التي أصدرها الأدباء البدون في التسعينيات، مثل «وليمة القمر» عام 1990 و«عاشقة الثلج» عام 1992 و«سماء مقلوبة» عام 1995.
يعد الظفيري صوتًا معبرًا عن قضية البدون وأهم من كتب عنها، إذ حملها في أدبه قضية كبرى عُرف بها. يقول الظفيري في أحد حواراته عن قضيته إن «الوعي بها ارتبط معي بالفقر الذي صاحبها، كان ذلك فقرًا يرتبط بالمكان المهمش الذي صنع الإنسان الهامشي الملقى بعيدًا عن تطور البلاد التي تشهد ثورة نفطية بشكل متسارع، لا يلقي بظلاله عليه. كانت الجهراء إحدى هذه الضواحي المنبوذة التي ضمت أطيافًا من البدو، الذين استوطنوا المدينة بعيدًا عن صحراء الجدب والقحط، كانت الوظائف الممكنة لهم هي الجيش والشرطة وبقية الأعمال الخفيفة التي يجيدها هؤلاء الأميون المتعبون. عشت معاناة الناس وبؤس حياتهم، وحين اكتشفت أنني مولع بالكتابة كانوا هم هدفي، أشكل من حيواتهم ما يصلح للكتابة. كنت مغرمًا ككاتب بشخوصهم وجنونهم وولعهم بالحياة، وكانت القصص الأولى لهم وعنهم».
استلهم الظفيري تجربته ومشاهداته في رواياته منطلقًا من هموم ذاتية، وعكس أزمة الفئة التي ينتمي إليها وآلامها، فتواترت رواياته التي تناولت معاناة البدون في تمزقهم وتشتتهم وحيرتهم، وصنع واقعًا متخيلًا في رواياته لا يتقاطع تمامًا مع الواقع الفعلي ولا يتناقض معه، وذلك لتقديم رؤية معينة وموقف محدد يتبناه من قضيته. نلحظ في رواياته مشاهد حقيقية عاش الظفيري بعضها شخصيًا، كوصفه لحيوات الناس في الجهراء، والطرق التي تفصلها عن العاصمة، ونقله بعض الأحداث المجتمعية والتاريخية والسياسية، كرفض قبول البدون في الجامعة، والغزو العراقي والمقاومة الكويتية، وتداعيات قرارات الهجرة إلى كندا. اتكأ على تلك المشاهد فأنتج لنا أعمالًا أدبية شديدة الارتباط بواقعه وتجربته واهتماماته المعرفية، التي تَبرز على شكل أفكار ورؤى وأحداث تتبناها شخصياته الفنية.
ثنائية الوطن والمنفى
يترك الوطن والمنفى بصمتيهما على هوية البدون، وقد أولى الظفيري في رواياته عناية كبيرة لهما، وذلك لارتباط حياته بهما، والأجواء النفسية التي تشكلت حولهما، فهما قوام رواياته، ولعبا دورًا بارزًا في التعبير عن إشكالية هوية البدون، فهما أساس صراعهم وعدم استقرارهم، وجذر مشكلتهم التي تفرعت منها جميع المشاكل الأخرى.
يحمل الإنسان المنفي بين ضلوعه معاناة ويعيش في وحدة، ويكون غريبًا ويعيش حالة من الانفصال والانشطار، فقد اقتُلع من جذوره الأصلية في الوطن، وأخفق في مد جذوره في المنفى.
يحيلنا المنفى تلقائيًا للحديث عن الوطن، الذي هو حاضن للإنسان ومستقره وأمانه ومؤسس لهويته الأولى، وهو في روايات الظفيري قضية أساسية مفسرة لمشكلة البدون بكل تجاذباتهم وصراعاتهم، إذ عاش فيه الظفيري ورصد ملامحه ممزوجة بخياله ورؤاه، وهو مبتعد عنه في منفاه، فهو على حد وصف الكاتب والمترجم الأردني غالب هلسا في كتابه «المكان في الرواية العربية»، مكان عاشه مؤلف الرواية، وبعد أن ابتعد عنه أخذ يعيش فيه بالخيال.
يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار عن تلك الحالة في كتابه «جماليات المكان»: «المكان الممسوك بواسطة الخيال لن يظل مكانًا محايدًا، خاضعًا لقياسات وتقييم مسّاح الأراضي. لقد عيش فيه، لا بشكل وضعي، بل بكل ما للخيال من تحيز. وهو بشكل خاص في الغالب مركز اجتذاب دائم، وذلك لأنه يركز الوجود في حدود تحميه».
أما المنفى فهو مكان ثانٍ تلجأ إليه الذات المقتلعة من وطنها ومكانها الأول وأرضها الصلبة التي تأسست فيها الهوية، يلجأ إليه المنفي اضطرارًا، ويعيش فيه تائهًا، وتزداد أزمته فيه اضطرابًا، فهو بحسب إدوارد سعيد في كتابه «صور المثقف»، «أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة. وفي أزمنة ما قبل العصر الحديث كان الإبعاد عقابًا مرعبًا بصفة خاصة، لأنه لم يكن يعني فقط: أعوامًا يعيشها الإنسان تائهًا دون هدف، بعيدًا عن الأسرة وعن الأماكن المألوفة، بل يعني أيضًا: أن يكون أشبه بمنبوذ دائم، لا يشعر أبدًا كأنه بين أهله وخلانه، ولا يتفق البتة مع محيطه، لا يتعزى عن الماضي، لا يذيقه الحاضر والمستقبل إلا طعم المرارة».
جمع الباحث العراقي عبد الله إبراهيم في مقال «الرواية العراقية الجديدة: المنفى، الهوية، اليوتوبيا» المفردات التي يحيل إليها الفعل نفى، ووجدها ذات دلالة واحدة مترابطة الأطراف هي: الإبعاد، والتنحية، والطرد، والإخراج، والتغريب، والذهاب، والانتفاء، والانعدام، وجميعها تؤكد حال الانقطاع والاجتثاث وعدم التمكن من التواصل.
يحمل الإنسان المنفي بين ضلوعه معاناة ويعيش في وحدة، ويكون غريبًا ويعيش حالة من الانفصال والانشطار، فقد اقتُلع من جذوره الأصلية في الوطن، وأخفق في مد جذوره في المنفى.
يأتي المنفى في روايات الظفيري ليمثل حلًا يوفر للبدون كرامة إنسانية وورقة انتماء تحسن من مستوى معيشتهم، ولكنه يزيد غربتهم ألمًا وهويتهم تصدعًا. ورغم نأي الجسد في المنفى، تبقى روحهم في الوطن، يستذكرونه بجرح نازف. ولعله من المهم الإشارة إلى التفرقة بين الانتماء والجنسية، إذ أن إثبات الانتماء ليس هو جوهر سياق أزمة عديمي الجنسية اليوم، فمن المهم بمكان طرق مسألة الجنسية كوثيقة سياسية تعتبر حقًا بديهيًا لطالبيها، وعدم الحصول عليها يعني عنفًا له أشكال لا حصر لها. وهذا ما أشارت إليه منى كريم في المحاضرة التي سبق أن تطرقنا إليها في بداية هذا الموضوع.
في رواية «كاليسكا: القيوط يطارد غزالًا»، يعيش بطلها الشاب الكويتي البدوي ابن الجهراء محمد الأسود المشهور بلقب العوّاد، مسالمًا بسيطًا فقيرًا في كنف عمه، الذي تبناه وسجله باسمه بعد وفاة والديه صغيرًا، وينال الجنسية بالتبعية. وفي حياته الجامعية بكلية الهندسة، يلتحق بفرقة موسيقية ليمارس هوايته وشغفه في العزف، مبدعًا حساسًا مشاركًا بدوره في الحياة الاجتماعية.
تنتبه إليه طالبة كويتية حضرية غنية (رشا)، وتعشق فنه ثم تعشقه هو، ويعيشان قصة حب حتى يتقدم العواد لطلب يدها من أخيها العقيد عبد الرحمن اليزاز، فيرفضه ويهين هو ووالده. يصر العواد على علاقته برشا بدافع حبه وتمسكه بها، ويبدأ صراعه مع العقيد اليزاز الذي يحاول منع الزيجة وإبعاد شقيقته عن عشيقها، فيعمل أولًا على سحب الجنسية من العواد، فيهدم كيانه إذ يمسي بدون جنسية، ويحس الشاب الطموح بأنه لا قيمة له. يقول العواد: «أن تكون بلا اسم حقيقي، وبلا أبوين حقيقيين، أن تسقط منك هويتك، فأنت لست رجلًا كاملًا لا شيء ينقصه. أنت لا شيء».
يذكر المفكر المصري مصطفى حجازي في كتابه «الإنسان المهدور» أن هدر حق المواطنة يولد «مآزق وجودية كبيرة يصعب على الإنسان تحمل قلق مجابهة حجمها، لأنه ليس من اليسير على الإنسان تحمل جحيم أن لا يكون، ذلك أن الوجود الإنساني محكوم بالقيمة وباعتراف الآخر بقيمتنا الذاتية، كمدخل وشرط ضروريين لاعترافنا بأنفسنا ومكانتها وقدرها وإيجابياتها».
ومع إصرار العواد على علاقته برشا وتمسك رشا به، يستمر العقيد اليزاز في تهشيم كيان العواد، فيستغل حادث تفجير المقهى الشعبي ويتهمه بتنفيذ هذا الفعل الإجرامي، فيُعتقل العواد ويعذب ويتهالك جسده وتُهزم روحه، ويصير يسترجع ذكرياته وهو مسجى في زنزانته، محاولًا بفعل التذكر هذا وانتقاء الصور الدافئة لوطنه الذي يحب الشعور بكيانه وبقائه والتمسك بخيط استقرار ذاته، وكانت الذاكرة تخفف عنه الألم فتتدافع في مخيلته الصور. وكان متمسكًا بمخرج الذاكرة الذي تقتات عليه ذاته ويتنفس منه كيانه ويخاف أن يخسره. يحاول صديقه فهد غانم بعد إبعاده عن وطنه إلى سوريا أن يجعله يشرب ويسكر لينسى، فيرفض العواد قائلًا: «هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لي، أن أنسى».
تبقى أزمة الوطن تقض مضجعه في منفاه، لأن الوطن جزء من كيانه ومكوّن أساسي لهويته، روحه، ومكانه، وذكرياته. وفي الرواية «يتمنى لو أن الوطن قلق صغير يمكن التخلص منه بالخروج منه، ولكن قلقه يزداد في البعد عنه. يتمنى لو كان الوطن إزعاجًا بسيطًا كمسمار اللحم في باطن القدم، ولكنه في الرأس، في الرأس، في الرأس».
تظهر أزمة وصراع الهوية عند العواد حين تبوء محاولة إعادة تشكيل ذاته في المنفى بالفشل، إذ يمسي غير قادر على استرجاع روحه الرقيقة الشفافة والمتماسكة، فيصير محطمًا ويائسًا. يقول مخاطبًا رشا في كندا مقر هجرته، بعدما عندما سافرت إليه لتعرض عليه أن يفتتحا مشروعًا بمالها الذي وفرته، فيرفض ويقول: «سأبقى أنا، كل ما أحتاجه هو أن أكون أنا، أنا الذي فشلت في أن أكونه».
لم تستمر ذاته المسالمة على حالها، فالاضطهاد والقهر والتبخيس والنفي أدى إلى نمو النزعة السلبية، وبدأت جذوة الحقد والانتقام تكبر شيئًا فشيئًا في نفس العواد، فتجاربه التي مر بها أثرت كثيرًا على بنيته النفسية، وطمست كل محاولات التسامح والغفران: «تنمو بذرة الانتقام غصنًا أحمر بوردتين من نار».
وعندما تهرب رشا إلى كندا حيث يستقر العواد، يتبعها شقيقها بتخطيط من العواد نفسه ليتمكن من الانتقام منه، فيستقبله بصفته سائق تاكسي في المطار، ويمضي به نحو طريق وعر ومكان ناء ليتركه في الصقيع يواجه البرد والمصير الغامض كما واجهه العواد، ويمضي العواد وهو يخاطب نفسه، ويعترف ببؤسه وتبدل شخصيته وهويته إلى قاتل، ويعزو ذلك إلى روحه التي عانت ومورس عليها أنواع التعذيب والاضطهاد، فيقول: «لم أفكر وأنا أرسله إلى حتفه بغير الحقد الذي ملأني عليه، حتى أعمى كل إنسان بداخلي. ليس لي أن أغفر له، فأنا لست إلهًا ولا نبيًا، لست سوى موسيقي بائس نسي رقة الوتر الذي يعزف عليه. تحولت بسببه إلى قاتل أكثر بؤسًا منه».
أسهم ناصر الظفيري وغيره من أدباء البدون في إضافة نوعية في التعبير عن الهوية والانتماء داخل الرواية الكويتية، ونلاحظ في هذه الأعمال اتصال الهوية الفردية بالهوية الجمعية، ويتبين كذلك أن المكان معضلة تؤسس الحبكة الرئيسية في أعمال الأدباء البدون، باعتباره جرحهم الأول الذي يثير أسئلة وعذابات شخصية لا تنتهي.
مريم بو رحمة فريق منشور