بورتريه عالمي للطفولة البائسة يرسمه أزهر جرجيس في «حجر السعادة»
«هكذا بعد عمر قضيتُه مسالمًا كالدجاج، وجدت نفسي وجهًا لوجه مع قاتل مأجور». هكذا تأتي الجملة الافتتاحية لرواية «حجر السعادة» المنشورة عن دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع عام 2022، للكاتب العراقي أزهر جرجيس، حاملة استهلال يخطف الأنفاس اكتفى به صاحبه كسبب للمتابعة ومعرفة الأصل والمآل بعد أن غاب التشويق عن بقية السرد ذي الإيقاع البطيء.
الرواية المرشحة لجائزة البوكر العربية لهذا العام تقع في 32 فصلًا أو 318 صفحة بادئًة من الموصل ومنتهيًة في بغداد. السرد ذاتي يرويه كمال توما الذي نصحبه منذ أن كان في الثامنة وحتى منتصف الستينيات. يوضح الراوي منذ السطور الأولى أنه لا يعرف الأسباب الموجبة لقتله ولا هوية قاتله الملثم حامل المسدس كاتم الصوت، ساخرًا من أن خبر موته سيصبح سببًا في تعرف الناس إليه. ربما تكون حياة كمال غير ذات قيمة، لكن النفيس هو ما بحوزته في السيارة على المقعد المجاور ويضم ذاكرة الناس والمدينة، ولا يضر طالب الغنيمة الانتقام من صاحبها بل في ذلك عبرة لمن يعتبر.
على وقع عملية القتل، تدور في مذياع سيارة كمال «معزوفة بغداد» للموسيقار العراقي الشهير منير بشير. يضع الكاتب قارئه منذ الوهلة الأولى في أجواء فنية يقمعها السلاح: من ذا الذي يريد إخراس الصوت وقتل الفن؟ أصول بشير موصلية كما الكثير من الفنانين العراقيين مثل كاظم الساهر.
تاريخيًا، اعتُبرت الموصل منبعًا للفن والموسيقى، وقد بلغت شهرتها الذروة في العصر العباسي الأول وأشهر روادها في ذلك الوقت زرياب. وقبل عامين، أطلقت غوغل مشروعًا إلكترونيًا بعنوان «موصل الفن والحياة» لتخليد تراث المدينة وثقافتها.
وقت الحادث، أصابت بطل الرواية كمال رغبة شديدة في التبول مُستدعيًا ما كان يحدث له في الصغر، عند تعرضه للسان زوجة أبيه السليط وكلامها الذي ينفذ للقلب كالسهام، أو للضرب والتعذيب من أبيه السكير وزوجته تنظر في تشفٍ. أبوه أيضًا كان لديه خزانة من الشتائم «لا تفرغ ولا تشتكي العوز».
يرمز عنوان الرواية وغلافها إلى حجر أزرق عثر عليه كمال في بستان الجن. بمجرد أن يضعه في فمه ويُقلِّبه بلسانه تسهل الحياة، وتختفي التأتأة، وتبرد نار الغضب، وتتلاشى الرغبة في الانتقام، ويحل محلها شعور جارف بالسعادة.
الطفل الضحية
يرسم جرجيس بقلمه صورة واقعية قاتمة لطفولة بائسة في بيت من رماد هو مصنع الذل، يعيش أهله الفقر المؤبد تحت رحمة مزاج ناري يأبى صاحبه أن يُخمده. هذه الصورة مُشاهدة وبقوة ليس في المجتمع الموصلي أو العراقي فحسب بل في العديد من المجتمعات العربية بل والأجنبية أيضًا ولهذا تمثل الرواية الإحساس العالمي المشترك.
الأب عاطل عن العمل معتمدًا على عمل زوجته وعياله، يقضي يومه بين النوم والطعام والمقهى والحانة، يده مع صغاره أقرب للبطش منها للاحتواء، ولا تفرقة في هذا بين ذكر وأنثى، لا تُردعه الدموع الهاطلة في صمت على وجنتي الضحية أثناء إنزال العقاب، أو التبول اللاإرادي، أو حتى فقدان النطق والتأتأة خوفًا، يفعل ما يفعل ليتجرع الصغار كؤوس الانكسار والمهانة وتصير ديدنهم في الحي إلى الحد الذي لا تنفع معه أي رايات بيضاء تُرفع، فـ«واحدة من عيوب الصمت أنه لا يشبع رغبات الأوغاد».
يتزعزع إيمان الطفل بواقعه البائس كما يحدث في الواقع لكثير ممن في مثل سنه وعاشوا ما عاشه. يقول: «يخالجني شعور بأن الرب قد تخلى عني منذ اللحظة التي غادرت فيها رحم أمي، وأنه نادم كل الندم على خلقي». يقول أيضًا: «أنا باختصار لم أشعر يومًا بأن الرب يقف معي، ولم يراودني الإحساس بالطمأنينة الذي يتحدث عنه الوعاظ والقساوسة أكثر مما يفعل بائعو الخواتم والأحراز، والعائد بحسبهم إلى وجود يد تحمينا».
طفولة من الشقاء عاشها من يُناديه أبوه بـ«الساقط»، متعرضًا للتنمر ومعاملة دونية عن أخيه ريمون غير الشقيق، ومع ذلك ينجو من عقدة قابيل النفسية، فكمال يحب أخاه ولا يحقد عليه.
لا يترك الأب فرصة إلا ونال منه أينما كان في البيت أو في الشارع بحي المياسة. ينعته باللص والفاشل وابن العاهرة كذلك بعد أن ماتت أمه. يتساءل كمال: «لا أدري لم هو غاضب منا على الدوام، علمًا بأن رفاقه يصفونه بالرجل الأنيس، الذي لا يقصر في مشاركتهم ساعات الأنس والبهجة، لكن ما جدوى أن يكون الآباء مبتهجين خارج أسوار المنزل فحسب؟ كان أبي واحدًا من أولئك الآباء الذين يخلعون معاطف بهجتهم لدى الباب ليبدلوها بجلابيب الوحشة والنفور والغضب».
وحدها جانيت أخت كمال من تحنو عليه، وإن لم تلقَ معاملة أفضل منه في البيت، ولم تنجُ من سباب أبيها الذي ينعتها بـ«القحبة» ويتهمها بالسرقة. هي نفسها ضحية أبيها الذي زوَّجها لمسن سكير وقبض مهرها. رحلة مقتضبة من العنف الزوجي قادتها إلى الغربة والرهبنة قبل أن تموت في أرض غريبة.
ينتصر جرجيس للإنسان مسلمًا كان أو مسيحيًا، بينما قلمه يرسم نماذج مذمومة من رجال المُعتَقَدين والميليشيا التابعة لكليهما.
تميمة زرقاء
في عنوان «حجر السعادة» تناقض بين ما هو شعور وبين ما هو جماد، وكأن السعادة لا تجد منفذًا لحياة بطل هذه الرواية إلا عبر الحجر. يرمز عنوان الرواية وغلافها إلى حجر أزرق داكن مثقوب من الأعلى عثر عليه كمال في بستان الجن ولبسه كالقلادة بعد أن صار منجاته. بمجرد أن يضعه في فمه ويُقلِّبه بلسانه تسهل الحياة، وتختفي التأتأة، وتبرد نار الغضب، وتتلاشى الرغبة في الانتقام، ويحل محلها شعور جارف بالسعادة. احتاج الحجر كثيرًا لتجاوز الخيبات قبل أن يقرر في النهاية التخلص منه في نهر دجلة، ملقيًا معه نسخته الهشة التي لا تجيد استرداد الحق.
للون دلالته وتأثيره في الحالة النفسية والتقلبات المزاجية للإنسان، وقد صار شائع الاستخدام في تخصص صار يُعرف بـ«العلاج بالفن» معتمد لدى العديد من المراكز النفسية. الأزرق مثلًا يوحي بالهدوء والاسترخاء والطمأنينة والسلام والتوازن والحكمة والبرودة، ويناسب أماكن الراحة لأنه يقلل الشعور بالغضب ويزيل ضغوط الحياة.
عقدة الذنب تولدت لدى كمال من مرة وحيدة حاول فيها أن يكون ذئبًا لا أرنبًا فكانت حماقة كلّفته الكثير. ومنذ ذلك الحين وهو لا يتشاجر، فقد تشاجر ذات مرة وخسر أخاه. واستقرت في ذهنه نصيحة ألا يتمسك بفكرة ثمنها الهلاك. يقول بكل وضوح: «أنا لا أملك استعدادًا للتضحية دفاعًا عن فكرة ما».
بعد غرق أخيه ريمون إثر عراك بين الأطفال، أقسم الأب القاسي بالمسيح على ذبح ابنه الحي، وهكذا بدأ فصل طفولة كمال المشردة التي كان منتهى أمله فيها سقف وطعام. عاش حياته برمتها على الهامش منبوذًا مطرودًا فكان التسكع ديدنه لا يعرف أين يذهب، يمتهن ما يسد به رمقه، يُغبط الخراف لنومها بأمان، يدعو الله أن ينقذه من القطط المفترسة، ويشكر الفقر أن جعل منه صبيًا نحيلًا لا تضيق به حاويات القمامة.
كان ينام في الخرابات ويأكل التبن، ويُزج به في الزنازين مع النشالة والمدمنين، مأوى الشارع أفقده كليته جرّاء طعنة أصابته، يتلطم بين الأماكن ومن هجر منازل الصبا هانت عليه الأمكنة، حتى بيته عندما سكنه لم يشعر فيه بوجوده وقد حُرم حتى من خزانة للثياب. يقول كمال: «أريد أن أكون شبحًا، الأشباح لا تحتاج إلى طعام، ولا منازل ذات سقوف آمنة، كما لا تحتاج أبًا يمنحها الأسماء ويجلدها بالخيزرانة بغية التأديب».
فماذا لو زاد القهر من انتماء الضحية إلى أقلية دينية في البلد؟ أقلية بعد سنوات ستواجه ميليشيا دينية تُلطّخ أبواب منازلها بالبوية الحمراء، لتنشر الفزع في القلوب بنقش حرف النون على الأبواب لتقول: هنا نصراني بالداخل؟ واقعيًا، عانى المسيحيون في الموصل وفي حي المياسة أحد الأمكنة التي يدور فيها هذا النص الأدبي، من ويلات سيطرة الميليشيات الدينية المسلحة لفترة من الزمن ليست هينة، لكن الانتصار في النهاية كان للتنوع والسلام وعادت المدينة بعد الأنين وبعد الضحايا موصل الفن والحياة.
إنسانية لا طائفية
ينتصر جرجيس للإنسان مسلمًا كان أو مسيحيًا، بينما قلمه يرسم نماذج مذمومة من رجال المُعتَقَدين والميليشيا التابعة لكليهما.
في النص يظهر نموذجان مذمومان لرجلي دين هما «قس» و«مولانا». القس معلم اللاهوت في مدرسة كمال كان يناديه بـ«الساقط»، كما أبيه، ويهاجمه لإساءة أدبه في الكلام عن الله. ينهره بشدة حين يقول كمال في الفصل «نحن جئنا من الطبيعة» فيبصق في فمه ويجبره على ابتلاع البصاق المخلوط برائحة الصدأ والتبغ وسط ضحك التلاميذ. لم يرَ كمال خيرًا من أي قس في حياته، بل حتى في أزمة أخته مع زوجها رصد غطرسة الآباء فيقول: «يراودني شعور بأن بعض الآباء قد حباهم الله بآذان متحركة كالهيدفون؛ يضعونها متى ما شاءوا ويرفعونها متى ما شاءوا. فتراهم ينصتون لدبيب نملة عاهرة تناغيهم من تحت التراب، لكن سرعان ما يصيبهم الصمم حين تشتكي الزوجات والأبناء وأسرى المنازل».
أما «مولانا» صاحب «خان الرحمة» فكان يأتي بأطفال الشوارع، يحنو عليهم ويضمهم إلى «إخوان الليل» لتنفيذ عدالة الله حين يحل الظلام بسرقة الأغنياء بحجة مساعدة الفقراء، والتأديب في السرداب واجب لكل من يفشل أو يحاول التفلت أو الهرب. يقول كمال: «لن تجد أتباعًا يسهل إخضاعهم كالجياع.. الجوع طريق معبدة نحو عتبات الخضوع». لكن «مولانا» يمد خط الإخضاع إلى آخره حتى العلاقات الشاذة، يراه كمال ذات مرة متلبسًا فيكتشف سره وتكون نهاية إقامته في الخان. يقول: «أنا محض فرد مسلوب الإرادة في قطيع مولانا، والنقاش ليس من شأن القطيع.. القطيع ينفّذ ولا يناقش».
في المقابل، يرسم الكاتب لوحة إنسانية منمقة بين طفل مسيحي ورجل مسلم تتجاوز الطائفية في بلد صارت الطائفية عنوانه، وذلك من خلال علاقة كمال بخليل المصور. كان خليل كل أهله، سحره بعبارة «أنت بطل» وتشجيعه الدائم، وجاد عليه بالقليل الذي يساوى لدى كمال الكثير، لم يفرض عليه دينه أبدًا، لهذا كان طبيعيًا أن تضرب الوحدة كمال من جديد عند وفاة من كان له الدنيا. أقام له مجلس عزاء في الجامع، ثم اكتشف أن خليل كتب له الاستوديو خاصته في الوصية مُرجّحًا ميزان الصلة الفعلية لا ميزان الدم والقرابة، وبذلك قطع الطريق على أبناء الرحم من دينه الذين لا يصلونه.
علاقة من طور آخر جمعت كمال ونادية وإن اختلفا في الدين. ربما تخلت نادية عن كمال في لحظة ضعف وخضوع لإغراءات أمها بالزواج من ابن عمتها الثري والسفر إلى لندن، لكنها كانت عنيدة. أسمت ابنها على اسم حبيبها، واشترت له كاميرا قبل أن يعجل القدر بوفاته.
في لقائهما الثاني، انغمسا في ما قد همَّا به قبل سنوات واستأنفا علاقتهما بدرجة أكبر. نلحظ تباينًا كبيرًا في شخصيتيهما فنادية قوية، رفعت لواء حرب الكلمة ضد الميليشيا التي سطت على متحف والدها، وجنَّدت نفسها للمعركة، اتخذت اسمًا مستعارًا وصارت تتهكم في كنفه من زعيمهم طاهر الحنش، بينما جُلُّ ما يفعله حبيبها ضعيف الشخصية هو الإعجاب بها وتشجيعها. من اللافت اختيارها اسمًا مستعارًا لرجل لا لامرأة، فـ«من يُصغي للنساء، وما زال هنالك من يصف صوتهن بالعورة؟».
على الرغم من إقامة الكاتب العراقي المسيحي بالنرويج وبعده المكاني عن أي انتقام محتمل جرّاء ما كتب ممن نالهم بالقلم من ميليشيات وتنظيمات في بلاده البعيدة، فإنه حرص على أن يختم كتابه قائلًا «إن الرواية من نسج الخيال وأي تشابه ورد في الأسماء والأحداث والأمكنة إنما هو محض مصادفة ومجرد من أي قصد» تفاديًا ربما لأي ردود فعل غير محمودة. أزهر جرجيس رُشحت روايته الأولى «النوم في حقل الكرز» في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في عام 2020، وها هي «حجر السعادة» تعود به إلى الجائزة لكن في قائمتها القصيرة هذه المرة.
هذه المراجعة جزء من ملف جائزة البوكر العربية: «منشور» يراجع الكتب المرشحة في القائمة القصيرة.
حنان سليمان