المغامرة والإرث: كيف طوَّر التضاد بين الأخوين دوخي موسيقى الكويت؟
يبدأ الشغف من الذاكرة. أتذكر بداية معرفتي بعوض دوخي، كانت عن طريق والدتي، عندما قالت لي على خلفية صوت عوض وهو يغني «حيَّرت قلبي»: «ده الوحيد اللي كان مستأذن من أم كلثوم عشان يغني أغانيها».
بعد عدة سنوات يقع عوض أمامي مرة ثانية، عندما أجد مقطع فيديو باسم «أم كلثوم دويتو مع رياض السنباطي - حيَّرت قلبي معاك»، وعند سماعه راجعني هذا الصوت الناعم النافذ إلى القلب بكل سهولة، إنه بكل تأكيد عوض دوخي وليس رياض السنباطي، وهو بالطبع أيضًا ليس دويتو، بل شخص ركَّب تسجيل عوض على تسجيل أم كلثوم.
بدأت في التعرف إلى عوض، ومن ثَمَّ شقيقه الدكتور يوسف، ووجدت أن ذكرى رحيل الأخير في سبتمبر، فكانت فرصة للقيام برحلة غوص في مسيرة الأَخوين دوخي، لأنه إذا ذُكر يوسف ذُكر عوض والعكس.
لكن الموضوع أكثر اشتباكًا من أنهما شقيقان أو عملا معًا، أو صعدا في نفس الفترة وكان لهما دور مهم في تطور الموسيقى الكويتية وتحديد هويتها بشكل كبير. الموضوع يدور حول اتجاهات صناعة الموسيقى وتطويرها.
تبدأ الحكاية دائمًا في الخليج، من البحر، وما يكمُن في البحر من أسرار، بدأ عوض ويوسف عملهما في البحر والغوص وهما طفلان في سن الثالثة عشرة. عملا في البداية في وظيفة «تباب» (عامل صغير يعاون البحارة)، ثم ترقى عوض حتى وصل ليكون «نهَّامًا» (مطرب السفينة). كان لأخيهما الأكبر، النهَّام عبد اللطيف دوخي، دور مهم في تعليمهما العود وحبهما للموسيقى، رغم أن موسيقى البحر تعتمد على الأصوات والطبول فقط، وقد كان للبحر أهمية كبيرة في تعلق الأخوين بالموسيقى والغناء، بالطبع مع فوائد أخرى مثل السفر والاختلاط والتعرف إلى ثقافات متباينة في الهند وإفريقيا.
جلسات السمر الفنية كانت المكان الأول لانطلاق صوت عوض يرافقه شقيقه يوسف، ومن ثَمَّ الانتقال كمستمعين إلى جلسات الملحن أحمد الزنجباري، أحد أبرز رواد التطوير الموسيقي في الكويت.
مع بدء تكوين فرقة الإذاعة الكويتية تحت إشراف نجيب رزق الله، كانت الفرصة سانحة للانتقال إلى مرحلة جديدة في حياة عوض دوخي.
ثم انطلق عوض يغني، وانطلق إلى جمهور أوسع عندما سجل عام 1947 لإذاعة «شيرين»، أول إذاعة خاصة في الكويت لصاحبها مراد بهبهاني، الأغنية التي تنتمي إلى فن الصوت: «يشوقني برق»، وقد غنى عوض في وقت لاحق أغنية «ألا صبا نجد» بلحن الزنجباري، عِرفانًا بدوره المهم في بداياته الفنية.
استمر الأخوان في تعلم الموسيقى وسماع ما قدمه الكبار من أصوات، مثل محمد بن فارس وضاحي بن وليد، والأغاني الشعبية والتراثية من المطربة عودة المهنا، التي كان لها فضل كبير في تقديم عوض في بداياته.
مع بداية إذاعة الكويت في نهايات خمسينيات القرن الماضي، وبدء تكوين فرقة الإذاعة الكويتية تحت إشراف عازف الكمان المصري نجيب رزق الله، كانت الفرصة سانحة للانتقال إلى مرحلة جديدة في حياة دوخي.
عمل الشقيقان على أول أغنية تسجل للإذاعة بصوت عوض: «يا مَن هواه أعزه وأذلني»، التي كانت صدمة للوسط الغنائي وللعامة أيضًا، إذ فوجئ الناس بنبرته وصوته، كان صوتًا مختلفًا كُليًّا عمَّن سبقوه وأيضًا من عاصروه، أما الوسط الموسيقي فقد توقف كثيرًا أمام اللحن، حتى أن أحدهم سأله مستنكرًا: «أنت من السودان؟»، بسبب ما يحمله اللحن من نكهة للسلم الخماسي.
من هنا، بدأت مرحلة جديدة في الموسيقى الكويتية على يد الأخوين دوخي، ولمدة تقترب من 10 سنوات قدما معًا عدة ألحان أَرْسَت قواعدهما في أرض الموسيقى الكويتية، فكانت «قل للمليحة بالخمار الأحمر» و«طال الصدود»، إضافةً إلى «صوت السهارى»، أشهر أغاني الثنائي، التي طوَّر كلماتها يوسف ولحنها وغناها عوض، وأحدثت انقلابًا موسيقيًّا في الكويت وخارجها، وغناها عديد من مطربي الوطن العربي على رأسهم فايزة أحمد.
أعلن عوض دوخي أن أول من أثر فيه كان عبد الوهاب وأم كلثوم وكارم محمود، وغيرهم.
مع «صوت السهارى»، سنجد ألحانًا قدمها يوسف لشقيقه مثل «رد قلبي » و«مستحيل» و«لك حبي واشتياقي»، يجمعها كلها طعم الأغنية المصرية، حتى أن يوسف غنى أغنية على نفس الشاكلة هي «كلمني مرة»، رغم أن عوض قدم أغاني كويتية شعبية كثيرة، وغنى أصواتًا كويتية، وقدم له يوسف ألحان الطنبورة ليغني عليها، مثل أغنية «يا جميلة»، وعزف عوض فيها الطنبورة.
في أواخر الستينيات، قرر يوسف الانتقال إلى القاهرة لدراسة الموسيقى في معهد الموسيقى العربية، يدفعه شغف القراءة والبحث وراء أصل الأشياء، وكل بحث يصل إليه يثير بداخله الأسئلة والشغف أكثر، ليس فقط في الموسيقى، ولكن في كل ما يقع تحت يده، كل ما يأخذه الشغف إليه. علم يوسف أنه من أجل التوغل في الموسيقى يجب أن يكون ملمًّا بالمكان والزمان، بالجغرافيا والتاريخ، بالقصص الشعبية والتراثية، بأنواع البشر، وغيرها من العلوم.
في الجهة المقابلة، يغوص عوض كغيره من الفنانين العرب في ذلك الوقت في الموسيقى المصرية وهو لا يزال داخل الوطن. ورغم أنه يغوص في الموسيقى الكويتية والفِرق الشعبية والتراث، فإنه يتفاعل مع أغاني محمد الوهاب وأم كلثوم وكارم محمود، حتى أنه يعلن عام 1975 على التليفزيون الكويتي أن هذه الأسماء كانت أول من أثر فيه، بجانب آخرين بالطبع.
أحَبَّ الموسيقي المصري نجيب رزق الله عوض وفضَّله على شقيقه، فقدم يوسف أغنية «مين علمك الجفا» كتحدٍّ موسيقي لعوض.
رغم أن رحلة يوسف امتدت في مصر لفترة تصل إلى 20 عامًا، استمر شغفه بصناعة الموسيقى المحلية، المبنية على التراث العربي والكويتي بشكل خاص، حتى أن رسالته للماجستير كانت عن الأغنية الكويتية.
في بداية الرسالة، تحدث يوسف عن دولة الكويت جغرافيًّا وتاريخيًّا، وأثار مقارنةً بين اثنين من مؤسسي الموسيقى في الوطن العربي، المصري عبده الحامولي (1836-1901) والكويتي عبد الله الفرج (1836-1901)، مقدمًا أدلة كثيرة على تأثر الحامولي بالموسيقى التركية، مثل الموشح، بينما كان الفرج في الجانب الآخر يقدم الفن عربيَّ التكوين: «الصوت».
قد يهمك أيضًا: كيف طارد باحث أمريكي «فن الصوت» في الكويت
ربما لا يتفق بعضنا مع وجهة نظر يوسف دوخي، فكل مكان تأثر بموسيقى خارجية وداخلية، وأنتج قوالب غنائية متأثرة بمناطق وثقافات أخرى، أنتجت أيضًا قوالب غنائية محلية الفكرة والصنع والشكل.
يوسف كان غير مهتم بمن أفضل بقدر اهتمامه بالموسيقى المحلية العربية، حتى إنه تحدث عن إشكالية أن الطنبورة فن غير كويتي أم لا، مستندًا إلى قراءات في التاريخ والمكان، وتاريخ رحلة آلة الطنبورة، واختلافاتها بين دول الخليج.
أحَبَّ عوض دوخي أم كلثوم وألحانها بين زكريا والسنباطي وعبد الوهاب، ساعده في ذلك أن الإذاعة الكويتية كانت تضم المصري نجيب رزق الله، الذي فضَّله في فترة على شقيقه يوسف.
يحكي يوسف في لقاء تليفزيوني بعد رحيل عوض تفاصيل أحد هذه الخلافات، الذي بسببه قدَّم أغنية «مين علمك الجفا» على ألحان الطنبورة للمطرب الشاب آنذاك عبد المحسن المهنا، كتحدٍّ موسيقي لشقيقه، وكانت من أسباب نجاح المهنا.
استكمل يوسف دوخي مسيرة البحث واكتشاف أصول الموسيقى برسالة الدكتوراه في نقد وتحليل كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني.
رغم ذلك، ستجد أن عوض قدم أغاني كثيرة من الفنون الكويتية، وعديد من فن الصوت، وكان له دور مهم في إثراء هذا الفن وتأكيد وجوده في الخليج عامة والكويت بوجه خاص، وقدم «النهمات» و«الحدادي» و«الردحة» والطنبورة و«السامري».
عند غنائه الفن الكويتي الشعبي، تشعر في صوته وعزفه أنك في رحلة سحرية عبر الزمن، ترى التاريخ الكويتي، والبحر. وفي لحظات يمكن لعوض أن يتحول ويقدم أغاني أم كلثوم وأغانيه مصرية الطابع، لتسمع صوت يهمس في أذنك بكل هدوء وحنان، تشعر بالراحة.
هذا الصوت يُخرجه صاحبه دون أي عناء أو افتعال، كأنك تسمعه خِلسة دون أن يشعر، ورغم ذلك فهو لم يقلد أحدًا، وأضاف طعم الغناء الخليجي إلى هذه الأغاني، ويُنسب تصريح على لسان أم كلثوم عند سؤالها عن غناء عوض لأغانيها: «لم يشوِّه أغانيَّ، بل قدمها بخليجيته، ولم يكن مقلدًا لي في كل أعمالي»، كانت كلها محاولات مزج بين ثقافتين موسيقيتين.
في المقابل، يكمل يوسف مسيرة البحث واكتشاف الأصول، تأكيدًا لفكرة شغفه بالموسيقى العربية المجردة وحبه للفنون الشعبية، فأتمَّ رسالة الدكتوراه في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني نقدًا وتحليلًا.
رغم ذلك ستجد أن أهم أغاني عوض التي قدمها بالشكل المصري كانت من ألحان شقيقه يوسف، بجانب اشتراكهما في تقديم عديد من الأغاني الوطنية المهمة في تاريخ الأغنية الوطنية الكويتية.
توفي يوسف دوخي بسبب نقص الأدوية بعد غزو العراق للكويت.
في النهاية، قدم الاثنان أغلب أشكال الغناء الكويتي، لكن يبقى لكل واحد منهم فضل مهم في جزء محدد، فتأثر عوض بالغناء المصري والكوادر الموسيقية العاملة في الكويت في تلك الفترة، وانتشار الأغنية المصرية في الإذاعة ووسط الشعب، ويوسف بالقراءة والدراسة الأكاديمية، والبحث عن الموسيقى المحلية وأصولها، وإثبات محليتها ونسبها إلى الكويت والتاريخ الكويتي.
رأينا عوض يغامر في محاولات دمج الموسيقى المصرية بالكويتية، علمًا بأنها كانت من المحاولات الأولى في الكويت، مراهنًا على نجاحه في عملية الدمج، ليقدم قالبًا جديدًا يُنسب له الفضل الأكبر فيه، بجانب آخرين مثل شادي الخليج.
هذه المغامرة والشغف كانت أحد أسباب زيادة الرقعة الجماهيرية للأغنية الكويتية ونجاحها على المستوى الجماهيري والفني، فتغني فايزة كما ذكرنا «صوت السهارى»، وتبدأ الأغنية الكويتية في جذب انتباه الوطن العربي، خصوصًا مصر، ونجد نجاة مثلًا تغني أغنية كويتية هي «دومي بعزك»، من ألحان يوسف دوخي.
نجد كذلك يوسف دوخي يعيد تقديم فن الطنبورة في شكل جديد، ويُسهم بشكل كبير في حفظ تراث الكويت الموسيقي، بدايةً من كتابة المقالات أو رسالة الماجستير، أو تقديم موسيقى لأفلام تسجيلية، أو كتاب «الأغاني الكويتية»، بجانب عمله على إعداد أجيال من الموسيقيين الكويتيين بشكل أكاديمي وعلمي، عبر عمله عميدًا للمعهد العالي للفنون الموسيقية في الكويت بين عامي 1983 و1990، قبل أن يرحل في 6 سبتمبر 1990 بسبب نقص الأدوية بعد الغزو العراقي.
أي دولة تحتاج دائمًا إلى الاتجاهين لتقديم موسيقى خاصة بها وإثراء المحتوى الموسيقي، تحتاج إلى هذا التضاد والتباين.
على سبيل المثال سنجد محمد عبد الوهاب في مصر يحمل فكرة تطوير الموسيقى العربية واشتباكها مع الموسيقى الأوروبية، مكملًا لمن سبقوه: سيد درويش ومحمد القصبجي، وفي المقابل، يعمل الشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي على تطوير الموسيقى العربية بشكل محلي، ونرى تفاعلهما مع التراث الشعبي، مثل الألحان البدوية لزكريا، و«على بلد المحبوب» للسنباطي.
كانت الموسيقى الكويتية تحتاج إلى الاثنين معًا، كانت بحاجة إلى الاشتباك مع موسيقى أخرى معاصرة، والاستفادة من انتشارها لتقديم شكل جديد، وأصبح شائعًا الآن أن تجد أغنية خليجية في شكل مصري تمامًا، والعكس أيضًا. وكذلك كانت الموسيقى الكويتية بحاجة إلى الاشتباك مع التراث والموسيقى المحلية، ومحاولات اكتشافها وإعادتها وتطويرها.
شريف حسن