فريد وأسمهان: كيف صقل الأطرش صوت الكروان؟
شكلت عودة أسمهان إلى القاهرة، عام 1938، فرصة حقيقية أمام أخيها فريد الأطرش لتغيير مسار حياة شقيقته المتخبطة وترسيخ أقدامها في عالم الغناء، وقبل ذلك فرصة لا تعوض لتطوير قدراته كملحن ناشئ ما زال يحلم بصوت قادر على توصيل ألحانه إلى الناس.
قراءة مسيرة فريد الأطرش قبل تعاونه مع شقيقته أسمهان، تكشف عن مدى إسهام صوتها في إعلاء شأنه ومساعدته على الارتقاء بموسيقاه، فقد كانت تشترط على أي منظم حفلات أن يظهر معها شقيقها مطربًا أو عازف عود، وبعد فيلمها الأول معه صار فريد الأطرش نجم السينما الغنائية الأول في مصر، واستطاع في ظرف سنوات قليلة أن يجبر موسيقار في حجم محمد عبد الوهاب على إعادة النظر في تجربته السينمائية واعتزال التمثيل نهائيًّا.
كانت الخطة التي وضعها فريد الأطرش لصوت أسمهان عقب عودتها إلى القاهرة، تقوم بالأساس على فتح مسالك عالم الغناء أمامها، وجذب الملحنين إلى طبيعة صوتها عن طريق بلورة قدراتها غير المعهودة في الغناء، وأراد فريد أن يكون صوت أسمهان بمثابة الحامل الرئيسي لرسائل عدة، أراد إرسالها إلى معاصريه من الملحنين والمطربين، وربما كان على رأس هؤلاء محمد عبد الوهاب والسيدة أم كلثوم، قمتا الغناء العربي في وقتها.
فريد الأطرش ورسائل صوت أسمهان
ترى الكاتبة شريفة زهور، في كتابها «أسرار أسمهان»، أن الربط بين سيرة أسمهان الشخصية وأغانيها، أوقع النقاد العرب في خطأ التصور أن مجمل ميراث أسمهان يمثل حداثة الأغنية العربية.
فمعظم أغانيها أقصى ما يمكن وصفها به أنها «كلاسيكية متطورة»، وتضرب شريفة مثلًا على ذلك بقصيدة «هل تيم البان» التي أراد القصبجي منها أن يلفت نظر أم كلثوم إلى قدرته على تلحين القصيدة الكلاسيكية، وحين لم تصل الرسالة انصرف إلى التجديد مع أسمهان.
حين استطاع فريد أن يحول الجملة الراقصة في بدايات اللحن إلى لحن شرقي على مقام «البياتي»، كان في ذلك رسالة صريحة إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم لإظهار قدراته اللحنية.
لكن شريفة زهور ترى أن حداثة أغاني أسمهان الحقيقية أتت من تمازج الموسيقى الشامية بالمصرية، وهو ما نجح فيه شقيقها فريد الأطرش حين استوعب قدرات أسمهان، وحاول إبرازها، لافتًا نظر ملحنيها إليها ليعيدوا تقييم قدرات صوتها.
كان فريد أكثر الفنانين قربًا من أسمهان، فأمدها بأكبر عدد من الألحان، إذا ما قورن بغيره من الملحنين. من أوائل ما غنت له، طقطوقة «نويت أداري آلامي»عام 1938، والتي سبق وغناها فريد لإذاعة القاهرة في سبتمبر 1936، فأعادتها أسمهان بصوتها مع توزيع جديد يناسب إمكانياتها الصوتية، وتحت إشراف الموسيقار عزيز صادق الذي تولى في تلك الفترة توزيع أغنيات فريد وغيره، إذ حاول فريد تقديم أسمهان في إطار مشابه بأم كلثوم التي سبق أن وزع لها عزيز صادق أغاني فيلم «نشيد الأمل» عام 1937.
أسس فريد طقطوقة «نويت أداري آلامي» من مقام«النهاوند»، وعلى إيقاع «التانغو»، في محاولة لتتبع خطى محمد عبد الوهاب الذي كان لحن قصيدة «سهرت منه الليالي» عام 1935، من نفس المقام، وعلى الإيقاع ذاته.
بخلاف الانتقال السلس الذي اتضح في ذلك المونولوغ، حين استطاع فريد أن يحول الجملة الراقصة في بدايات اللحن إلى لحن شرقي على مقام «البياتي»، كان في ذلك رسالة صريحة إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم لإظهار قدراته اللحنية، بينما كانت رسالة أسمهان الوحيدة في هذه الأغنية هي التعبير عن آلامها وأحزانها.
بعد ذلك، لحَّن فريد جميع أغنيات فيلم أسمهان الأول معه: «انتصار الشباب» عام 1941، وهي: «ياللي هواك شاغل بالي» و«يا ليالي البشر» و«كان لي أمل»، و«يا بدع الورد»، و«إيدي في إيدك» و«الشمس غابت أنوراها»، وأوبريت «انتصار الشباب» الذي كان أول أوبريت متكامل العناصر في السينما الغنائية.
غنت أسمهان من ألحان فريد أيضًا في فيلم «غرام وانتقام» أغنيتي «ليالي الأنس» و«أنا أهوى» وموال «يا ديرتي مالك علينا لوم» الذي كان دخيلًا على الفيلم، لكنه أكد العلاقة بين الكلمات وحياة المطربة، إذ كان بمثابة رسالة موجهة إلى أهلها في جبل العرب.
أداء أسمهان في «غرام وانتقام» بالتحديد، يعكس ما بداخلها. ففي أغنية «ليالي الأنس» المبهجة ذات إيقاع «الفالس» الراقص، كسا غناء أسمهان نبرة حزن، وتحول مسار اللحن الراقص إلى ما يشبه الرثاء في بعض المقاطع، ليظهر أداء أسمهان احتفاليًّا كحورية تغني في الجنة، تلك الصورة التي طُبعت في الأذهان، وشكلت في ما بعد جزءًا من أسطورية أسمهان.
من مجمل ما لحن فريد لأسمهان نتوقف بشكل خاص عند أغنيتين شكلتا منعطفًا حاسمًا في تلك العلاقة الفنية، الأغنية الأولى «رجعت لك يا حبيبي» عام 1941، وتكمن قيمة هذه الأغنية في أنها لخصت ملامح موسيقى فريد الأطرش، باستثناء الغناء.
في الأغنية نغمات عود فريد الواضحة، وفيها ألحانه ذات الطابع الحيوي مثلما يظهر في مقطع «في كل يوم يزداد حنيني إليك»، تلك الحيوية التي توارت بعد موت أسمهان ليغلب على نتاجه الحزن والنواح. ربما في تلك الأغنية ما يؤكد أن فريد، وإن كان موهوبًا في التلحين، فأنه عكس ذلك في التفكير الموسيقي.
كان لألحان فريد فضل في إظهار مساحات مختلفة في صوت أسمهان، ولصوت أسمهان فضل في تطوير قدرات فريد الملحن الناشئ.
ففي مطلع الأغنية، وهي على مقام «الكُرد»، أربع قفلات تستقر على قرار المقام، ما يصيب بنيان اللحن بالضعف. وعندما تصل أسمهان إلى مرحلة القرارات عند كلمات: «بعد الفراق والعذاب»، ثم «من بعد طول الغياب»، فإنها تفقد قدرة التحكم في صوتها، ويصيبه وهن خفيف، لأنها وصلت إلى حدود مجالها الصوتي.، ليس العيب في صوت أسمهان، بل في أن اللحن لم يراع مساحة صوتها، ولم يناسب مناطق القوة والضعف في حنجرتها.
أما الأغنية الثانية، فهي «عليك صلاة الله وسلامه» التي أظهر فيها فريد الأطرش ميلًا خاصًّا إلى استلهام الموروث الشعبي وإدماجه في أعماله، ما يصبح في ما بعد صفة مميزة في إنتاجه الغنائي.
الأغنية، وإن استندت إلى أساليب شعبية، فإنها أظهرت قوة صوت أسمهان في ترجمة المعاني الدينية. واللحن، وإن بدا بسيطًا، فإنه استطاع أن يطوِّع مقام «البياتي» في تعظيم الإحساس المرتبط بالشعائر الدينية. وفي ختام كل فقرة تضفي أسمهان بصوتها مسحة خشوع، بخاصة عند مقطع «دي قبلتك يا نبي قدامه»، في روحانية دينية لم تكررها أسمهان في صيغة غنائية بعد ذلك.
كان لألحان فريد فضل في إظهار مساحات مختلفة في صوت أسمهان، ولصوت أسمهان فضل في تطوير قدرات فريد الملحن الناشئ. رغم ذلك، لم يجبرها شقيقها على الاكتفاء بألحانه وتكوين عائلة فنية مغلقة، لكنه عمل على إبراز صوتها من أجل لفت الأنظار إليها.
مونولوغ «يا طيور».. ودرس القصبجي اللحني
رغم تنوع الألحان في مسيرة أسمهان الغنائية، وتعدد نقاط التجديد في منتَجها الموسيقي، يظل مونولوغ «يا طيور» الذي قدمته من ألحان القصبجي وكلمات يوسف بدروس عام 1941، علامة فارقة في تاريخ الغناء العربي، ونقطة مضيئة في مسيرة القصبجي الذي عجز على تكرار التجربة بعد وفاة أسمهان بعدما فقد أهم عناصرها، وهو صوتها المعجز.
ولد مونولوغ «يا طيور»، حسب شهادة الدكتورة رتيبة الحنفي في كتابها «محمد القصبجي»، بعدما استوحى الموسيقار المجدد اللحن من فالس «غابات فينيا» للموسيقار النمساوي «يوهان ستراوش»، حين غنت إحداهن في نهاية اللحن مع الأوركسترا بطريقة شبيهة بتغريد الطيور. وزع القصبجي العمل على مشهدين معتمدًا على بناء هارموني متكامل. وربما كان الهدف منه التعبير عن أنماط مختلفة من الطيور.
في المشهد الأول تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية قصيرة استهلها القصبجي بجملة متوثبة تعبر عن تحرك أسراب الطيور، مكونة في الأساس من نغمات متتالية في تصاعد يوحي بصعود الطيور إلى أعلى وهي تحلق.
في ختام المقدمة يمهد سكون اللحن للإحساس براحة الطيور على الأشجار، لتدخل أسمهان في الغناء بصوت الحنجرة مبتدئة بجملة «يا طيور» بمد مشبَع وبحزن واضح، ثم يتبع ذلك لازمة موسيقية بعد النداء مباشرة تتميز بالضغوط القوية على كل نغمة، كأنها تصور الطيور وهي تستدير تلبية للنداء الأول في الأغنية، ثم تغني أسمهان «غني حبي وانشدي».
فتح مونولوغ «يا طيور» باب الجدل حول صوت أسمهان وإمكاناتها الصوتية. بل يمكن القول إنه رسخ مبدأ المفاضلة غير العادلة بينها وبين أم كلثوم.
بعد ذلك تدخل الأوركسترا بلازمة موسيقية طويلة ذات جمل مركبة. عندما تعود أسمهان إلى نداء «يا طيور» تحدث المفاجأة، وتغني آهات متقطعة. لكن هذه المرة من صوت الرأس لا من صوت الحنجرة، ما يعرف بالغناء الأوبرالي. يضعنا المشهد الثاني من الأغنية في تحول عجيب، عندما يتغير مقام اللحن من «النهاوند» إلى «البياتي» الشرقي الذي تؤديه أسمهان بحرفية كبيرة. يختفي التوزيع الهارموني معطيًا المساحة لصوت أسمهان القادر على خلق مشاهد صوتية متعددة.
ما إن يغيب غناء أسمهان حتى يعود التوزيع الهارموني ليسيطر على اللحن. هنا أَقدم القصبجي على مجازفة حين مزج بين «البياتي» الشرقي والتوزيع العالمي الذي لا يعرف منطق الموسيقى العربية ونغماتها الناقصة (الربع التون)، وذلك دون أن يشعر المستمع بالتنافر، وهذه إحدى ومضات عبقرية القصبجي وموسيقاه.
مع توالي المقاطع الغنائية يبدل القصبجي موازين اللحن وإيقاعاته، وينتقل بين مجموعة مقامات موسيقية ليصور أشكال الطيور في حالاتها المختلفة، وينقل مختلف الحالات التي كانت عليها نفسية أسمهان وهي تغني، محققًا توليفًا بديعًا بين أنماط موسيقية متقابلة في ظاهرها، ومترجمًا معاني كلمات الأغنية.
في النهاية تختم أسمهان الأغنية بمحاكاة واضحة بين صوتها وآلة «الفلوت» المعبرة عن صوت الطير، بتسلسل صاعد وهابط مع بعض القفزات النغمية في استعراض واضح لإمكاناتها الصوتية الخارقة. فتح مونولوغ «يا طيور» باب الجدل حول صوت أسمهان وإمكاناتها الصوتية. بل يمكن القول إنه رسخ مبدأ المفاضلة غير العادلة بينها وبين أم كلثوم.
منذ ذلك العام الذي قدم فيه القصبجي هذا المونولوغ، بدأ أثره يخف تدريجيًّا من مسيرة أم كلثوم اللحنية، التي ربما أدركت بوعي عظيم أنه لا بد لها أن تعود إلى مسلكها الغنائي الأهم في تقديم الغناء الطربي القائم على التطريب لا التجريب، وأن تترك الساحة التعبيرية إلى أسمهان التي حمل صوتها بشائر التجديد.
كريم جمال