لعنة العندليب: ما فعله «حليم» بعماد وفادي وعمر
في منتصف سبعينيات القرن الماضي، رحل كثير من عمالقة الزمن القديم على رأسهم أم كلثوم، واعتزل وتوارى عن الأضواء كثير أيضًا، وما زال عبد الحليم حافظ يقاوم المرض والتغيرات الموسيقية، يحاول الصمود أمام تحول الغناء من الفردية إلى الجماعية بعد النكسة، وتمرد الشباب على كل أشكال الموسيقى العربية واتجاههم إلى الغربية، بدايةً من فرق «البلاك كوتس» و«ليه بتى شاه»، وانتهاءً بـ«الجيتس» و«المصريين» و«الأصدقاء» و«النهار» و«طيبة» و«فور إم».
وسط كل ذلك رحل حليم عام 1977، بعد سيطرة تامة على الغناء الفردي منذ ثورة 1952، وبدأ جيل جديد من المطربين يظهر على الساحة، منهم من حاول استكمال نفس الشكل الغنائي لحليم، مثل هاني شاكر، ومنهم من تمرد على ذلك الشكل بكل قوة مثل محمد منير.
سنحاول في هذا الموضوع قراءة ثلاث تجارب لم يُكتب لها الاكتمال، لكنها تعكس بقدر كبير شكل هذه الفترة الانتقالية في الموسيقى.
كانت تلك الفترة «انتقالية» في كل شيء، ليس في الموسيقى فقط، ولا في المجال الفني فقط، بل كانت إعادة تشكيل للوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للدولة، بعد خسارة وانتصار لم يحقق أي مكاسب للمواطن المصري، بالعكس، كانت انتفاضة الخبز مقابلة لسياسة الانفتاح.
يوم الأحد 29 إبريل عام 1973، في قاعة «جمال عبد الناصر» بجامعة القاهرة، وفي حفل عبد الحليم حافظ بمناسبة الربيع، تقدم الفنانة لبلبة الطفل عماد عبد الحليم، ابن الإسكندرية، الوردة التي تفتحت في يوم شم النسيم، والتي اكتشفها حليم بنفسه، ليقدم طفلًا لا يتعدى عمره 15 عامًا، وينسب اسمه إليه، ويغني أغنية «الحب الوطن»، وهي الأغنية التي سينساها بعد عدة سنوات عندما يُطلب منه أن يغنيها في برنامج، ويقول إنه لا يتذكر كلماتها، وأغنية «يا صلاة الزين» التي غناها وهو طفل عام 1975 في فيلم «وانتهى الحب».
قبل الدخول في رحلة عماد، نقف مع فكرة التأريخ وما يحوم حولها من عبث، خوف من أن يكون تأويلك قائم على خطأ تاريخي، قصة حُكيت بشكل مختلف، أو من مكان رؤية آخر، فتحاول التأكد من الرواية بكل ما أوتيت من قدرة، حتى ترى الصورة أقرب بقدر المستطاع من الحقيقة، رغم أن ذلك يكون دائمًا أكثر سوداوية، لكنه تأكيد لأنه واقعي، ولم يقع عليه زخارف التجميل والدراما.
يقول سمير صبري إنه صاحب فكرة إعطاء اسم عبد الحليم لعماد، لكن شريط تسجيل حفل الربيع يؤكد حقيقة قصة اكتشاف حليم لموهبة عماد.
لقصة لقاء حليم بالطفل عماد عبد الحليم روايتان، واحدة يحكيها صاحب الشأن، عماد، ويقول فيها إنه كان يغني في حفل في بيت الطبيب الخاص لعبد الحليم، وكان حليم موجودًا وأعجب بصوته، وطلب من شقيقه الأكبر الموسيقار محمد علي سليمان، والد المطربة أنغام، أن يحضره إلى القاهرة كي يعتني به ويتبناه، وهنا الأقاويل كانت إلى محاولة حليم لتطبيق مقولة «كُل نفسك قبل ما حد ياكلك».
يقدم حليم للسوق موهبة جديدة تأكل من نجاح المطرب الشاب هاني شاكر، الموهبة الصاعدة بقوة ودعم من بعض الجهات والأشخاص، لذلك كان دعم حليم لعماد بأقوى شكل دعائي، أن يحمل اسمه ويصبح عماد عبد الحليم، بجانب الاعتناء به في كل الأمور المادية والدراسية والفنية.
الرواية الأخرى على لسان سمير صبري، الذي يحكي بصفته كان حاضرًا كل ما يحكي عنه، بدايةً من قدوم محمد علي سليمان بشقيقه الطفل إلى عبد الحليم، ليطلب منه سماع صوته وتقديمه في حفل معه. يؤكد صبري أنه صاحب فكرة منح اسم عبد الحليم لعماد، وأن حليم رفض، لكن الاسم خرج من فم سمير صبري وهو يقدم عماد على المسرح، نافيًا أن حليم قدمه كي ينافس هاني.
يحكي سمير هذه الواقعة كي يجعلك ترى حليم ملاكًا طيبًا، يهتم بالمواهب ولا يحارب المنافسين بكل الطرق.
في النهاية، نحن أمام روايتين لنفس الواقعة ويمكنك أن تصدق ما تحب، لكن مع ظهور شريط تسجيل الحفل من الإذاعة، ووضوح صوت لبلبة تقدم وهي تؤكد اكتشاف حليم لعماد، يمكنك هنا أن تقول إن قصة سمير صبري دخلت عليها تعديلات كثيرة أخلَّت بسياق الحقيقة، مع ترك مساحة لاحتمالات أخرى، مثل أن كل شخص يحكي جزءًا من الحكاية الكاملة، ليرينا ما يحب ويخبئ ما يكره.
حافظ عماد عبد الحليم على طريق حليم في رزانة المطرب وارتداء الملابس الرسمية، وتعاون مع أبناء مرحلة حليم، كالملحن حلمي بكر والشاعر عبد الوهاب محمد.
كان عماد ينتمي إلى أسرة فقيرة، لم تمتلك جهاز تلفزيون ولا راديو، ولا حتى قدرة حتى على شراء الجرائد، لذلك كان يعرف صوت حليم لكنه لم يرَ أبدًا صورة له، بحسب ما أكده بنفسه في أحد البرامج.
في نفس المدينة، الإسكندرية، وفي أجواء مختلفة تمامًا عن التي جاء منها عماد عبد الحليم، وفي عام 1975، يعود الشاب فادي إسكندر ابن الطبقة المتوسطة القاطن بفيلا في حي رشدي الراقي، من رحلته الفنية في لبنان، بعد دعوة من الموسيقار فريد الأطرش في نهاية الستينيات.
بدأ إسكندر حياته في كلية الزراعة، وغنى في عدة أماكن في الإسكندرية، قبل السفر إلى لبنان والعودة مع قيام الحرب الأهلية، وبدأ في إطلاق مشروعه الجديد، معلنًا غضبه وتمرده على المركزية في كل شيء، بدايةً من مركزية النجاح والشهرة في القاهرة، مرورًا بمركزية الموسيقى عند حليم قبل وبعد رحيله، نهايةً بالتمرد على الموسيقى نفسها، في تحدٍّ ذاتي للموسيقى والبحر والانطوائية.
في نفس الفترة تقريبًا، وفي القاهرة قادمًا من الأقصر، يقف شاب وسيم مع إحدى فرق الصوت الجماعي، فرقة «المصريين»، ومع متمرد آخر هو هاني شنودة، يغني عمر فتحي «8 سبتمبر»، أغنية تلخص شكلًا من أشكال التمرد على الأغنية الحليمية، كلمات مختلفة وذاتية حتى في اسمها، تاريخ لا يحمل أي ذكرى جماعية في أذهان الناس.
كان هذا تمرد على الجماعية في الغناء، الغناء باسم الشعب وللشعب والتواريخ والمناسبات المعروفة للجميع، الشكل الأهم في تاريخ عبد الحليم. كانت «8 سبتمبر» صرخة رفض عمر فتحي لكل الأشكال السابقة من الغناء، أو حتى رفضه لحمل راية حليم وإكمال مسيرته الغنائية، وجملة زاعقة تقول بوضوح: أنا هنا لأقدم ما أحب بالشكل الذي أحب.
ثلاث تجارب مختلفة، الكل كان له علاقة بصورة ما بحليم وتأثيره في شكل الأغنية العربية، فصار عماد في كنف حليم، وقدم شخصيته في مسلسل «العندليب الأسمر» عن قصة حياة حليم، اقترب عماد من حليم لدرجة أنه حمل على عاتقه استمرار هذا الشكل الغنائي، وشارك في بطولة أعمال سينمائية لم تلقَ النجاح، صار موهبة قادمة بقوة الصاروخ، مثل وليد صلاح الدين بعد أن سلمه محمود الخطيب الفانلة الخاصة به في مباراة اعتزاله، ليحمل رقم 10، وإلى جوارها عبء أن يكون خليفة أمهر لاعبي الكرة المصرية وقتها.
استمر عماد في تقديم نفس شكل أغاني حليم، حافَظَ على رزانة المطرب وارتداء الملابس الرسمية، وتعاون مع أبناء مرحلة حليم، كالملحن حلمي بكر والشاعر عبد الوهاب محمد. امتلك عماد صوتًا يدخل القلب بكل سهولة، خصوصًا عند غنائه الأغاني الحزينة الدرامية، مثل «ليه يا دنيا حظي كده»، التي نعلم حين نسمعها على العود في أحد البرامج التلفزيونية كيف كان يعيش الأغنية والغناء، وربما كانت الأغنية تلخيصًا لحياته الشخصية ومشاكله.
اقرأ أيضًا: الست والأفندي والفوضوي: في مديح الصراع بين السنباطي وبليغ
قال محمد منير إن أسوأ حفل قدمه في مسيرته كان عندما جاءه خبر رحيل عمر فتحي قبل صعوده إلى المسرح.
أتذكر أغنية سمعتها منذ عدة سنوات على يوتيوب، ولم يكن اسم المغني مكتوبًا، لكن صوته كان ساحرًا، يخطفك في عالمه الخاص. كانت الأغنية درامية، تحكي قصة مطرب فقير جاءه خبر وفاة ابنه، ويضطر إلى الغناء في نفس الليلة. صوت المغني كأنه صاحب القصة، صوته درامي مخيف كأنه صوت القدر، واللحن بسيط يلعب على جيتار فقط. كل ما عرفته وقتها أنها من كلمات شاعر الإسكندرية بيرم التونسي.
كان ذلك فادي إسكندر، المتمرد الجالس على شاطئه وحيدًا، يختلط مع الماء والملح ليُخرج لنا شكلًا جديدًا من الغناء يمثل شخصيته هو، مغامر لا يشغل باله بمن سبق كحليم، ولا من ينافسه. قدم أول ألبوماته بصحبة الجيتار فقط، ثم أعاد تقديمه مرة أخرى بالآلات الموسيقية. كان ألبومًا سكندريًّا بشكل واضح، ألبوم في مواجهة القاهرة المركزية، ويسيطر بيرم التونسي على أغلب أغانيه، وتتضح شخصية فادي المتمردة في أغنية «إسكندر»، وطريقة تقديمه للشعب السكندري كما جاء على لسان بيرم:
«ما إحنا يا إسكندرانية، طالعين جميعًا شُضَليَّة
طبيعة في الطين والميَّه، متركبة تحت سماها
الإسكندراني إذا صافح، يغلط ساعات ويروح ناطح
ورثها عن جده الفاتح، فَحْل الملوك اللي حماها»
منذ 11 عامًا، كنت أستمع إلى حوار لمحمد منير في برنامج «حوار صريح جدًّا» عام 1989، حكى فيه منير عن أسوأ حفل قدمه في مسيرته الفنية، إذ كان في إحدى العواصم العربية عندما جاءه خبر رحيل عمر فتحي قبل دقائق من صعوده إلى المسرح. يحكي منير: «غنيت، لأني كنت لازم أغني، بس غُنا كان دمه تقيل». كان منير يتحدث بكل صدق لدرجة جعلتني أحب الشخص الذي يتحدث عنه دون أن أعرف من هو، وماذا كان يفعل في الحياة.
من هنا بدأت رحلة التعرف على هذا الصوت، المبهج والمرح، عمر فتحي، الذي قرر أن يقف بين عماد وفادي، بين ضفتي النهر، بين التمرد التام والانسياق التام، فكان زعيم الشكل الغنائي الجديد والأغنية الخفيفة، الأغنية التي هاجمها الجميع وأعلنوا الحرب على جيل كامل، ضم محمد الحلو وعلي الحجار ومحمد منير ومدحت صالح.
لذلك كان منير يتحدث بحب وتقدير عن عمر فتحي، لأن له الأسبقية في النجاح والتمرد على القوالب السابقة، فكان العمل في كباريهات شارع الهرم بداية تغيير شكل الأغنية الشبابية، ليس فقط في الشكل الموسيقي، أو حتى في مكان الغناء، لكن في شكل المطرب على المسارح في الحفلات الرسمية وغير الرسمية. كان عمر من أصحاب السبق في الصعود بالملابس «الكاجول» في الحفلات، وهدم أسطورة البدل والملابس الرسمية.
اقرأ أيضًا: مضناك جفاه مرقده: من تركيا لعبد الوهاب وليس انتهاءً بمريم صالح
من فرقة رضا إلى المصريين، ثم يبحر عمر وحده، يقدم ألبومًا جديدًا على الساحة الفنية، بداية تشكيل الأغنية الشبابية، الأغنية اللي سيحصد نجاحها محمد منير وعلي الحجار على وجه الخصوص.
لم يكن عمر فتحي أشهر وجوه جيله و«أَلْفَة» الجيل من فراغ، أو من باب أنه جاء قبلهم، بل كان حقًّا أحسن من يمثل هذا الجيل بكل ما فيه من أشكال واختلافات، كان يجمع بين الصوت الجميل العذب، وخفة الروح، والقدرة على الرقص وتقديم الاستعراضات، والسيطرة على المسرح والجمهور في الحفلات، واختيار الكلمات الجديدة، لذلك ليس غريبًا أن يقدم فوازير رمضان بصحبة شريهان، أو يعود بعدها إلى فرقة رضا بصحبة فؤاد عبد المجيد، ويقدم عدة موشحات.
انطلق عماد عبد الحليم من نقطة النهاية، من نقطة أنه الوريث الموسيقي لعبد الحليم حافظ ويجب معاملته على هذا الأساس. تخبطات كثيرة، وشائعات أكثر، واختفاء لفترات عن الساحة الفنية.
عماد، رغم أنه قدم أغاني ما زالت تُغنَّى حتى الآن، مثل «ماتفوتنيش أنا وحدي» مع سيد مكاوي وحسين السيد، وربما تكون أغنية «الأم» من كلمات الأبنودي وألحان جمال سلامة من أحلى ما قُدِّم في الأغنية العربية عن الأم، رغم أن عماد قدم في بدايته أغنية للأم أيضًا، لكن مع الأغنية التي تشتهر باسم «أنا مهما خدتني المدن». كانت أغنية مكتملة الأركان، أغنية خُلقت كي تبقى مهما مر عليها الزمن.
مات عماد عبد الحليم في الشارع وحيدًا، ولم ينجح أحد في إنقاذه من الاكتئاب والإدمان.
دخل عماد في صراعات كثيرة، صراعات مع الجيل السابق له لأنه يرى أنه في نفس مكانتهم وأن ما يقدمه هو «الأغنية الجديدة». بعدها بعدة سنوات، مع وضوح شكل الأغنية الجديدة على يد عمر فتحي، كان عماد من أول المهاجمين لهذا الشكل، أصبح عماد يمتلك عقلية قديمة، توقف بين الزمنين، أصابته لعنة حليم، ولم يشفَ منها، لم يستطع أن يقدم شكل الأغنية القديمة وسط ثورة التجديد الموسيقي، ووقف عاجزًا أمام الأغنية الشبابية.
«صعبانة عليَّا يا مزيكا، هتضيعي في حارة شيكا بيكا
على هز الوسط وع الواحدة، الفن هيصبح روبابيكا»
بينما الكل يحارب من أجل الوصول إلى القاهرة وتقديم الأغنية الشبابية أو المحاذاة مع الشكل القديم، كان فادي جالسًا بكل هدوء، لا يبالي بما يحدث، يعيد النظر إلى كلمات بيرم التونسي، ويعيد تقديم التراث بشكل مختلف وصادم. تقديم أغنية تحاكي أغاني التراث مهمة صعبة وغير مضمونة النجاح.
لم يقف الأمر عند هذا الشكل الغنائي، بل قدم إسكندر أغاني بالفصحى، مثل «قضي الأمر» و«ستمرين» مع الملحن كامل الشريف، في تجربة قدمها بعد سنوات كثيرة يوري مرقدي. كان فادي يقف بعيدًا عن مشروع حليم، كأنه لم يسمع ما قدم من قبله من أغانٍ، حالة من التمرد الكامل.
قد يهمك أيضًا: هل جعل الغناء بالفصحى يوري مرقدي مختلفًا؟
مع عمر فتحي كان التمرد بحساب وذكاء، تمرد يخلق شكلًا غنائيًّا جديدًا، يعبِّر عن جيل كامل. حتى في تعامله لم يذهب إلى جيل الملحنين أبناء مرحلة حليم، بل فضَّل القادمين من نفس مكانه، مثل محمد الشيخ وهاني شنودة.
وما بين الغناء وفرقة رضا والفوازير والمسلسلات، واللعب مع الفلكلور والقصص الشعبية مثل «ياسين وبهية»، أصبح عمر فتحي في منتصف الثمانينيات نجم هذا الجيل وهذه الفترة الانتقالية.
أصابت لعنة الشهرة عماد، ولم ينجح أحد في إنقاذه من الاكتئاب والإدمان، حتى رحل في 20 أكتوبر عام 1995.
مات عماد عبد الحليم في الشارع وحيدًا، بعدما جاء به القدر في هذه الفترة الانتقالية من تاريخ الموسيقى، وبعده بأعوام رحل عمر فتحي بدون مقدمات تاركًا قصة تسودها الدراما الإنسانية، لينهي تجربة كان يمكن أن تصير إحدى أهم تجارب هذا الجيل. أما فادي إسكندر، فبعد ألبومين فقط، ومع إصراره على تقديم الموسيقى بعيدًا عن المركزية الفنية والجغرافية للقاهرة، اختفى عن الأضواء، ولم يحاول الرجوع مرة أخرى بأي شكل، حتى رحل في هدوء عام 2013.
شريف حسن