معمارية الإقصاء: كيف تؤثر المخططات السكنية على البدون؟
ترجمة: ربى عربش
يهدف المخطط السكني إلى توفير السكن للأفراد ضمن مدنهم بشكل استراتيجي، كما يهدف إلى ربط المناطق السكنية والتجارية بصورة أكثر تماسكاً لتسهيل إمكانية التنقل بين المنازل والخدمات الرئيسية ومناطق العمل والمرافق الترفيهية، فللمناطق السكنية قيمة وجدانية تعكس هويتنا الثقافية وتشكل أنشطتنا الاجتماعية وتشغل حيزاً كبيراً من ذاكرتنا الجماعية، لهذا يتطلب تصميم المخطط السكني حرص ومراعاة البنية المعمارية والحدود البيئية وعلم الإنسان والعلوم الصحية.
أثبتت دراسات علم تخطيط المدن الإقليمي والعمراني أن للمناطق السكنية التي تُنظم بشكل جيد تأثيرات إيجابية من الناحية الاجتماعية والبيئية والاقتصادية على المدن، كما أن للمناطق السكنية التي تُنظم بشكل رديء تأثيرات ونتائج عكسية، وبهذا يمكننا أن نتأكد بأنه هناك تأثير لبيئتنا العمرانية على حياتنا من خلال تبسيطها أو تعقيدها، كما يتأثر مستوى الصعوبات التي تواجهنا أثناء التنقل في المناطق السكنية بالموارد والقدرة الاقتصادية، الطبقات الاجتماعية، الأعراق والأجناس.
الرقعة الثقافية الاجتماعية والسياسية في الكويت متشعبة، وهذا قد يؤثر على إمكانية التنقل وتوفير السكن وعلى الهوية المعمارية والمخططات السكنية، بصرف النظر عما إذا كان ذلك بوعيٍ تام من قبل صناع القرار أم لا، وقد يؤثر هذا الأمر بشكل رئيسي على أفراد مجتمع البدون في الكويت وعلى المناطق السكنية التي يقيمون فيها.
بنية تحتية منهكة ومساكن مهترئه
أفراد مجتمع البدون في الكويت أقلية يبلغ عددها ما يزيد عن 200000 نسمة كما أنهم يشكلون نسبة ما يزيد عن 10٪ من إجمالي سكان البلاد وهم لا يمتلكون الجنسية الكويتية على الرغم من تواجدهم في البلاد لفترة طويلة امتدت عبر الأجيال، وتعتبرهم الدولة مقيمين بصورة غير قانونية، وعلى نحو منهجي أُقصوا بحيث عدم تمكنهم من الانتفاع من المرافق الحكومية والخدمات الرئيسية (كتوفير السكن والتعليم والرعاية الصحية) بسبب أوضاعهم القانونية، وعدم توفر وثائق الحالة المدنية لديهم.
يؤثر هذا الإقصاء المنهجي على كافة جوانب التواجد المجتمعي، من خلال المعاناة اليومية بدءاً من تأمين الأجور وصولاً إلى تدهور البنية التحتية في المناطق السكنية.
يركز هذا المقال بصفة رئيسية على دراسة كيفية مساهمة الهوية المعمارية وتصميم مخططات مجتمع البدون السكني في الإقصاء الاجتماعي.
يعيش العديد من البدون في مجمعات سكنية ذات كثافة سكانية عالية يمكن وصفها بأنها «عشوائيات وأحياء فقيرة».
منذ فترة السبعينيات والخمسينيات في القرن الماضي شيدت الحكومة وحدات سكنية بتكاليف منخفضة خصوصاً في مناطق بعيدة في الكويت مثل تيماء والصليبية والحساوي والأحمدي (لا سيما لأفراد الخدمة العسكرية من مجتمع البدون).
لم تُرمم أو تُحسن الوحدات السكنية والبنى التحتية المحيطة بها منذ وقت البناء، وهذا ما أدى إلى تدهور حالتها، فيعيش العديد من البدون في مجمعات سكنية ذات كثافة سكانية عالية يمكن وصفها بأنها «عشوائيات وأحياء فقيرة»، ويتشارك العديد منهم منزلاً واحداً ضمن مساحات ضيقة على الرغم من تدهور جودة هذه المنازل على مر السنين، بسبب التعرض لعوامل المناخ الشديدة وقلة الصيانة والمتابعة، كما تدهورت جودة البنى التحتية داخل هذه المساحات السكنية، وأُهملت من قبل الدولة، بالإضافة إلى تدهور أحوال الطرق وضعف آليات رصد النفايات، وتدهور حال المرافق والخدمات الأساسية، منها الكهرباء والماء، مما يؤدي إلى التأثير على السكن في هذه المناطق كما يخلق هذا الأمر عدة مخاطر تهدد سلامة الأفراد وصحتهم الجسدية.
تتعرض المساحات السكنية التي يعيش فيها مجتمع البدون لظروف بيئية أقسى من تلك التي تتعرض لها المناطق السكنية الأخرى في البلاد، بسبب ما ذُكر سابقاً وأيضاً نظراً لقلة المساحات الخضراء فيها، تسمى هذه الظروف «عنصرية بيئية» حين يتعلق الأمر بالمجتمعات المحلية المهمشة في بقاع العالم، لكم فيما يتعلق الأمر بمجتمع البدون فإنه لم يُنظر للظروف البيئية وتقييم شدتها بالشكل الكافي.
إقصاء اجتماعي ممنهج
ساهم هذا الفصل الجغرافي والاجتماعي في طمس الأهمية الاجتماعية لمجتمع البدون داخل المجتمع الكويتي، كما خلق هوية معمارية وسكنية منفصلة، وهذا ما يخلق قضايا طبقية داخل الكويت ويعزل باقي أفراد المجتمع عن الصعوبات التي تواجه أفراد مجتمع البدون، هذا بدوره يساهم في القمع المنهجي، إذ يشعر الكثير من البدون بالعزلة عن المجتمع الكويتي.
بتول أحد أفراد مجتمع البدون توضح لي بقولها: «هناك فروقات بين المناطق السكنية التي أغلب سكانها من مجتمع البدون الكويتي مقارنةً بالمناطق الأخرى، وأنا متحاملة جداً على المجتمع الذي يقبل بأن يعيش أفراد آخرين معه في الدولة تحت ظل هذه الظروف. مناطق البدون الكويتيين السكنية فعلياً تعكس واقع حياة الكويتيين البدون، ضيقة وصغيرة ومتهالكة ولا أحد يهتم بها. نرى بأن لا جهة حكومية تهتم بالبنية التحتية للمناطق، فأغلب السكان يحاولون بأن يحلوا هذه المشاكل بأنفسهم، ويضطرون للقيام بأعمال ترميم الشوارع بأنفسهم. حتى أصبح الموضوع متعارف عليه وطبيعي، هذه هي علاقة الفرد البدون مع ممتلكات الدولة وأنها لن تنظر في هذه الترميمات».
تضيف بتول: «أزمة كورونا أوضحت كثيراً من الفروقات بين مناطق الكويتيين البدون والمناطق الأخرى من ناحية تطبيق القوانين، ففي تلك الفترة شعرت بكمية هائلة من التمييز ضدي، سُورت منطقتي (الجليب) بالأسلاك الشائكة عكس المناطق الأخرى. كما أن قرب مناطق البدون من أماكن مثل السجن المركزي، المصانع، والمقابر لها أثر سيكولوجي على الأفراد، يبدو هذا وكأنه تجهيز لحياة مليئة بالمعاناة».
تذكر بتول نقطة أخرى عن بعد مناطق البدون عن بقية المجتمع: «الجميع في الكويت يقولون بأن الكويت صغيرة والتنقل فيها ليس صعباً، ولكنهم لا يعلمون صعوبة ذلك الأمر علي، مجرد فكرة الذهاب إلى عملي البعيد مرهقة جداً».
ويوضح لي فرد آخر من مجتمع البدون الدكتور فايز الفايز قائلًا: «أشعر بالاضطهاد، بالتمييز ضدي، اقطع 48 دقيقة ذهاباً وإياباً للوصول لعملي، أشعر بأنني أُعامل كشخص أدنى من نظرائي في كافة مناحي الحياة، وفي منطقتي بشكل خاص، فلا ممشى للرياضة في تيماء كسائر المناطق، ولا طريق طبيعي بلا حفر وبرك ماء مثل أي منطقة أخرى، ولا منزل طبيعي يمكن أن يلجأ له الإنسان بعد يوم طويل في العمل».
يضيف الفايز: «المنازل متشابهة، مكدسة مهترئة، حتى البلدية لا تهتم بالنظافة في مناطق البدون كاهتمامها بباقي المناطق رغم كثرة المناشدات».
لهذا نعتبر بأن المخطط السكني للمدن أحد عوامل إقصاء مجتمع البدون اجتماعياً، وتعديل ذلك خطوة أولى نحو حل مشكلة البدون الاجتماعية، كما يجب أن تساهم بيئتنا المبنية وهويتنا المعمارية في تعزيز الإدماج الاجتماعي لا الإقصاء، من الأهمية أن يشعر الأفراد بالأمن والأمان والانتماء في منازلهم ومجتمعهم، لأن غياب هذا الشعور له آثار أخلاقية ومعنوية، ويسلب الأفراد عدالتهم الاجتماعية، لأنه لا يمكن تأسيس العدالة الاجتماعية في وجود الإقصاء الاجتماعي الذي ساهم المخطط السكني في تحقيقه.
كيف يمكن أن نحسن الوضع؟
لا يوجد نموذج مثالي لتخطيط المدن، ولكن هنالك عدة عوامل تساهم في تعزيز الإدماج الاجتماعي لأفراد مجتمع البدون، والتي قد تؤسس بيئة معمارية بشكل أفضل.
أولاً : ينبغي ضمان العدالة الاجتماعية وعدم اتباع أي شكل من أشكال الإقصاء الاجتماعي ضمن سياسات وتصاميم المخططات السكنية في المستقبل، وذلك من خلال إدماج المناطق السكنية لأفراد البدون مع بقية أفراد المجتمع الكويتي.
ثانياً : إن هدف توفير السكن الأساسي هو تأمين المأوى، ونظراً إلى مناخ الكويت القاسي فإن تأمين المأوى من عوامل المناخ القاسية ضروري لحماية الأفراد وضمان سلامتهم، لذلك يجب ترميم وتحسين الوحدات السكنية وضمان تبريدها وحصانتها جيداً لتحسين ظروف المعيشة، أما إذا لم يكن التحسين ممكناً فينبغي إعادة إسكان الأفراد في مساكن آمنة ومناسبة أكثر، لأن المسكن حق أساسي لكل إنسان.
أخيراً : يتم توفير السكن وفقاً لمخططات إسكان محسنة وآمنة، وبتكاليف مناسبة مصممة خصيصاً لأفراد مجتمع البدون لضمان إتاحة حق السكن لجميع أفراد المجتمع، كما ينبغي أن يتيح المخطط السكني سهولة التنقل والوصول إلى الخدمات الأساسية والأهم من كل ذلك هو تحقيق الإدماج الاجتماعي.
يوضح لي خبير تخطيط المدن Deen Sharp رأيه قائلًا «إن تصميم مدن متكافئة ومستدامة وشاملة يتطلب توجه المخطط السكني نحو ضمان توفير السكن بما يتناسب مع الأجور والطرقات وأنظمة النقل ونحو تقريب المجتمعات من بعضها، عوضاً عن تقسيمها والسيطرة عليها».
واجه أفراد مجتمع البدون عدة صعوبات نظراً لوضعهم القانوني في البلاد، كما يعود سبب غيابهم الاجتماعي لحقيقة إقصاءهم كثيراً وعزل مناطقهم السكنية، لذا يستحق أفراد هذا المجتمع أن يعيشوا في بيئة آمنة ومريحة وصحية، كما أن توفير هذه البيئة سوف يساهم في تحسين الظروف المعيشية لأفراد مجتمع البدون وسوف يحقق جزء من تلك العدالة المنتظرة.
مريم السعد