هيتشكوك: الطفل الذي أحاط العالم بكفيه
في فترة عملي مُدرسةً للأطفال حدث كثيرًا أن التف حولي عدد من تلامذتي، يتحدثون جميعًا في الوقت نفسه. كنت أدور برأسي بينهم في محاولة يائسة لإعطائهم نفس القدر من الاهتمام، ولكن المنافسة الشرسة كانت أقوى مني في كل مرة. تتعالى أصواتهم في شراسة بما يظن كلٌّ منهم أنه القصة الأهم، ثم ينكزني أحدهم في كتفي، وصولًا إلى أن يجبرني آخر على الالتفات إليه وحده بأن يضع وجهي بين كفيه الصغيرتين ويديره ناحيته ويبدأ في الحديث.
كان هذا الفعل أعلى ما يمكن أن يصل إليه طفل في محاولاته لجذب الانتباه، وخطر لي بعدها بسنوات وأنا أشاهد أفلام ألفريد هيتشكوك، أو كما يعرفه العالم بـ«سيد التشويق»، أنه كان من قبل أيضًا طفلًا شغوفًا بحكاياته الشخصية، وأن كفيه أحاطتا بعدد لانهائي من الوجوه، وأنه ربما كبر وأصبح ذلك المخرج العبقري لأنه لم يستطع أن يتخلص من عادته القديمة، ولا من يقينه بأنه يمتلك أفضل الحكايات.
الفارق الوحيد بينه وبين طفل عادي راغب في الاهتمام، أنه، وإن لم يكن بالفعل يمتلك أفضل الحكايات، فهو دون شك يمتلك واحدًا من أعظم الأساليب في روايتها، إن أدرت وجهك إليه لن يخذلك أبدًا.
إذا كنت واحدًا من معجبيه، فمن المؤكد أنك تعرف أن أولى خطوات جذب انتباهك ستكون عن طريق الفيديو القصير/الترويجي لفيلمه (Trailer)، إذ يظهر هيتشكوك بنفسه، ويتجول في موقع التصوير، ويمر بجانب الممثلين، ويخبرك بقدر يسير من القصة، القدر الكافي الذي يجعلك متشوقًا لرؤية الفيلم، ثم انتظارك لظهوره في مشهد عابر منه، عادة ما يكون في بداية الفيلم حتى لا يشتت انتباهك عن باقي أحداثه.
لغز بداخل لغز، لغز القصة نفسها، ولغز آخر كالذي تجده في مجلات الأطفال، ربما تجده تحت عنوان «هل يمكنك أن تجد هيتش؟». لكن كيف احتضن هيتشكوك العالم بين كفيه؟
الحكي البصري
بدأ هيتشكوك مسيرته الفنية مصممًا للإعلانات وكاتبًا، ثم أظهر شغفًا كبيرًا بالتصوير، قاده إلى العمل في صناعة السينما في لندن، في البداية كمصمم للعناوين الفرعية للأفلام الصامتة، ليبدأ بعدها بخمس سنوات مسيرته الإبداعية كمخرج سينمائي.
أخرج أفلامًا صامتة في البداية. لذا، فقد كان دائمًا يبحث عن طرق مختلفة لإيصال المعلومات للمُشاهد في كل فيلم، وبالممارسة تمكن من ابتكار طرق جديدة للحكي السينمائي، ولم يقِلَّ شغفه بالحكي البصري حتى بعد انتهاء عصر السينما الصامتة، بل ظل متمسكًا به حتى النهاية.
في مقطع فيديو على قناة «The Nerdwriter» على يوتيوب، نشاهد مقطعًا من فيلم «Vertigo» يشرح كيف اهتم هيتشكوك بحساب موقع كل ممثل من الآخر بدقة، في كل كادر، بحسب السياق الذي يحكمهما، وكيف عبَّر عن ذلك من خلال تبادلهما الخفي للسيطرة على بعضهما.
فالمحقق «جون فيرغسون» الذي يجري زيارة سريعة لصديقه القديم ورفيقه في الحرب «جافين آليستر»، يؤدي دور المحقق، ويبدأ في طرح الأسئلة على صديقه، ويدور حوله، ويحاصره، ثم يمتلك الصديق زمام الحديث، فيقف في نهاية الغرفة، ويبدأ في حكي قصته، ليجلس فيرغسون في الطرف الآخر من الغرفة كأنه يشاهد عرضًا مسرحيًّا.
يُعرَف هيتشكوك حتى يومنا هذا بأنه مخرج أفلام رعب، ثم يشاهد الناس أفلامه فتجد أحدهم يقول: «لا أجد أفلامه مرعبة».
أيضًا تتركز الكاميرا كثيرًا على أشياء تحمل رمزًا ما في قصة الفيلم، أو تربط بين عدد من الأحداث.
مثلًا في مشهد من فيلم «The Lady Vanishes» يجمع بين شابة اسمها «إيريس هيندرسون» وسيدة عجوز تُدعى «ميس فروي»، نجد الفتاة تسأل المرأة الغريبة عن اسمها، فتخبرها السيدة، لكن الفتاة تعجز عن سماعها بسبب صوت القطار، لذا تكتبه لها السيدة على نافذة القطار المجاورة لهما. ولاحقًا بعد الاختفاء المفاجئ لهذه السيدة من القطار، وسؤال إيريس عنها، وإنكار الجميع أنها كانت موجودة من الأصل، تتأكد الفتاة من كذب الجميع عندما تجد الاسم مكتوبًا على النافذة، وتبدأ رحلتها في البحث عن السيدة وإنقاذها.
التشويق
يُعرَف هيتشكوك حتى يومنا هذا بأنه مخرج أفلام رعب، ثم يشاهد الناس أفلامه فتجد أحدهم يقول: «لا أجدها مرعبة». يختلف التشويق عن الرعب أو المفاجأة أو الخوف، فالتشويق حالة من التوتر تنشأ عندما يعرف المُشاهد شيئًا لا تعرفه شخصيات الفيلم. ويعطينا هيتشكوك مثالًا على ذلك عندما يقول:
«نشاهد مثلًا شخصًا فضوليًّا في إحدى الغرف يعبث بأغراض شخص آخر، ويبحث في أدراجه. في هذه اللحظة يتوجب عليك أن تنتقل بالكاميرا إلى صاحب الغرفة وهو يصعد السلالم متوجهًا إليها، ثم تنتقل مجددًا إلى الشخص بداخل الغرفة، وهكذا تخلق داخل المُشاهد رغبة في تحذيره، بأن يصرخ فيه ويقول: انتبه، هناك من يصعد السُّلم. وحتى إن كان المتلصص شخصية غير محبوبة، لا يزال المُشاهد يشعر بالقلق من أجله».
في مشهد القتل الشهير في فيلم «Psycho» يحطم هيتشكوك كل القواعد عندما يقتل البطلة (جانيت لي) في منتصف الفيلم، في مشهد غير متوقع على الإطلاق. فالبطلة كانت منذ دقائق تتبادل حديثًا وديًّا مع «نورمان بايتس» (أنطوني بيركينز) صاحب الفندق الذي تنزل به، وبعدها تذهب لتستحم قبل أن تنام، ولا يتخيل أحد منا أنها على وشك أن تُقتَل، بل نفكر في الكيفية التي ستتطور بها علاقتها مع نورمان بايتس ووالدته المريضة، لا أن تنتهي حياتها على يده.
ترجع أهمية حركة الكاميرا عند هيتشكوك إلى بداياته في عصر السينما الصامتة، إذ غاب عنصر الصوت، واعتمد المخرجون كليًّا على الصورة.
يشرح هيتشكوك مفهومه عن التشويق، وينفي ارتباطه الشرطي بالخوف في أذهان الناس، فيضرب لنا مثالًا من فيلم «Easy Virtue»، إذ نرى رجلًا يعرض الزواج على إحدى الفتيات ولا تعطيه هي جوابًا، بل تخبره بأنها ستتصل به عندما تعود إلى منزلها في تمام الساعة الثانية. وعلى الجانب الآخر نرى عاملة الهاتف التي تنتظر في شوق رد الفتاة، فتخلق حالة من الإثارة لدى المُشاهد، تنتهي بموافقة الفتاة على عرض الزواج.
لا يرتبط التشويق دائمًا بالخوف، فهو كثيرًا ما يرتبط بالسعادة أيضًا.
حركة الكاميرا
تُعد حركة الكاميرا أحد تلك العناصر التي تدعم بقوة الحكي البصري. وهنا يجب أن نفسر مدى أهميتها بالنسبة إلى هيتشكوك، الذي كان يؤمن بضرورة أن تتخذ الكاميرا بعض الصفات البشرية، كأن تتجول بحرية، وتبحث بشكل هزلي عن أي شيء مهم داخل الغرفة. ومن خلال تنقلها أفقيًّا ورأسيًّا وأخذها للقطات مقربة للأشياء، تسمح للجمهور بأن يرى عناصر محددة للحبكة الدرامية ليصبح مشاركًا في كشف أحداث القصة.
ترجع أهمية حركة الكاميرا عند هيتشكوك إلى بداياته في عصر السينما الصامتة، إذ غاب عنصر الصوت، واعتمد المخرجون كليًّا على الصورة لحكي قصصهم للجمهور.
بساطة القصة
أدرك هيتشكوك أن القصص البسيطة تتيح للجمهور بكل سهولة متابعة الفيلم حتى نهايته، ووافق ذلك رغبةً داخله في خلق حالة من الجاذبية لكل مشهد من مَشاهد الفيلم.
أدرك الرجل أيضًا أن القصص المجردة أو المربكة ستصيب الجمهور بالملل، لذا كانت قصص أفلامه مبسطة لتفسح مجالًا لأكبر قدر ممكن من الإثارة.
كتابة السيناريو
فرض هيتشكوك سيطرته على الجمهور من خلال طرقه المبتكرة في كتابة السيناريو، وغالبًا ما كان يضع توصيفًا نفسيًّا لكلٍّ من شخصياته الأساسية والثانوية. فقد استخدم التعليق الصوتي على سبيل المثال في فيلميه «Rebecca» و«Shadow of Doubt» ليخلق حالة من الغموض والكآبة طوال الفيلمين.
المونتاج (Film Editing)
ركز هيتشكوك في أفلامه على تيمات رئيسية، مثل «الهوس» و«الروح المعنوية».
آمن هيتشكوك بقوة تأثير عملية المونتاج على أي فيلم، في حال قطع المَشاهد بشكل صحيح واختيار الموسيقى المناسبة، وبالطبع لو كان الجو العام مُهيأً لحكي القصة. وتعد أفضل أفلامه من ناحية المونتاج هي «Rope» و«Under Capricorn»، و«Sabotage».
المواقف المتناقضة
كانت لهيتشكوك طريقة مفضلة لخلق حالة من التوتر في أفلامه عن طريق استخدام مواقف متناقضة، أي موقفين لا يمُت أحدهما بصلة إلى الآخر، يحدثان في نفس الوقت ونفس المكان. وبينما يركز الجمهور على حدث معين يخلق بالتدريج حالة من الزخم لديهم، حينها فقط يتدخل حدث آخر. وعادةً لا يكون للحدث الثاني أي معنى أو أي دور في قصة الفيلم، ولا غرض منه سوى تشتيت الجمهور.
في فيلم «The Man Who Knew Too Much» على سبيل المثال نجد «جيمي ستيوارت» و«دوريس داي» مشتبكَين في مكالمة تلفونية يغلفها التوتر، وفي اللحظة نفسها يصل الضيوف الذين يضحكون ويلقون النكات، فيضيف وصولهم مزيدًا من التعقيد على حالة الزخم الحقيقية في المشهد.
الموضوعات
ركز هيتشكوك في أفلامه على تيمات رئيسية، مثل «الهوس» و«الروح المعنوية»((morale)، وتناول عددًا من التيمات الفرعية الأخرى مثل «استراق النظر» و«النفوذ» و«الموت» و«الشعور بالذنب» و«العائلة»، واستخدم هذه التيمات الفرعية ليضفي عمقًا لحكيه، ويخلق رابطًا قويًّا بينه وبين جمهوره.
أداء الممثلين
وضع هيتشكوك أداء الممثلين في قائمة أولوياته برغم ما عُرِفَ عنه من تحكم وتسلُّط في موقع التصوير. كان لا يسمح سوى بقدر قليل من إسهام كل ممثل في الإضافة إلى الشخصية التي يؤديها، وكان محددًا في ما يتوقعه ويطلبه من كل ممثل، لذا لم يُعِرْ أشياء مثل الارتجال أي أهمية، وفرض سيطرة محكمة على موقع التصوير.
وبسبب صعوبة العمل معه، كان عادة ما يتعاون مع نفس الممثلين فيلمًا بعد الآخر.
الموسيقى
كان المخرج الكبير محددًا في استخدامه للموسيقى في أفلامه، سواء كان هذا لخلق حالة من الإثارة، أو لزيادة التوتر، أو لتصاعد وتيرة الأحداث، وصولًا إلى المشهد الختامي. حتى شخصيات أفلامه نفسها شديدة التأثر بالموسيقى، أو كما أشار إليه «إدوارد روسثتاين» بأن «الموسيقى في أفلامه تؤدي دورًا شديد الأهمية، للدرجة التي بإمكاننا أن نعتبرها شخصية قائمة بذاتها».
تروفو وهيتشكوك: حبل نجاة واحد وغريقين
لم يكن الأمر مماثلًا في فرنسا، فالمخرج «فرانسوا تروفو»، الذي عمل في بداية مسيرته كناقد للأفلام بالمجلة الفرنسية الشهيرة «كراسات السينما»، كان لديه شغف واضح بأفلام هيتشكوك. ولم يكن وحده، بل أيضًا المخرج الفرنسي «جان لوك غودار» الذي كان يعمل معه في نفس المجلة، واللذان سيصبحان في ما بعد، هما وكثير ممن عملوا معهما، أهم مخرجي «الموجة الفرنسية الجديدة».
في هذا الوقت كان هيتشكوك في الثالثة والستين من عمره، وأخرج عددًا من الأفلام المهمة، آخرها «Psycho»، أما تروفو فكان في منتصف عشرينياته وأخرج ثلاثة أفلام فقط حازت إعجاب النقاد والجمهور.
ذهب بعدها تروفو في زيارة إلى أمريكا ليسأله الصحفيون: من مخرجك المفضل؟ فيجيب بكل ثقة: ألفريد هيتشكوك، وسط دهشتهم واستنكارهم الخفي. يفهم تروفو الأزمة التي يقع فيها مخرجه المفضل، فيبعث إليه برسالة يناقشه في بعض أفلامه، ثم يختمها قائلًا:
«يتوجب على العالم أن يدرك أن ألفريد هيتشكوك أعظم مخرج في العالم، وأن الجميع يعرف أنه إذا أُزيل عنصرا الكلام والموسيقى من عدد من الأفلام التي أُنتِجَت بعد انتهاء عصر السينما الصامتة، لن ينجو منها فنيًّا سوى أفلام قليلة، وعلى رأسها أفلام هيتشكوك».
هيتشكوك وتروفو: اتجاهان متضادان وشغف واحد بالسينما
بعد تبادل المخرجين عددًا من الخطابات وافق هيتشكوك على الذهاب إلى باريس لإجراء محادثات مع تروفو عن السينما استمرت لمدة أسبوع. جُمِعت المحادثات لاحقًا في كتاب بعنوان «هيتشكوك/تروفو»، نُشِر عام 1966 ليقلب الموازين بالنسبة إلى هيتشكوك، ويجعل العالم يراه أخيرًا فنانًا حقيقيًّا، ويأخذ النقاد إسهاماته في السينما بجدية.
تعامل تروفو مع الكتاب بجدية واهتمام كما لو أنه واحد من أفلامه. وفي أثناء المحادثات، نفذت صديقة أمريكية لتروفو تُدعى «هيلين سكوت» ترجمة فورية للمخرجَيْن، ووُثِّقت اللقاءات عن طريق المصور «فيليب هالسمان».
يقول المخرج «جيمس جراي» إن الكتاب «كان بمثابة نافذة أطللتُ منها على عالم السينما، فرصة عظيمة أتيحت لي ولم تتح من قبل، لأنه عن مخرج يتحدث عن مسيرته الإبداعية وأسرار عبقريته، لكن بدون أي ادعاء».
جاء توثيق أهم ما ورد في هذا الكتاب في فيلم وثائقي بنفس العنوان صدر عام 2015، فقد تحدث كبار المخرجين، مثل «مارتن سكورسيزي» و«ديفيد فينشر» و«ويس أندرسون» و«ريتشارد لينكلاتر»، عن أهمية الكتاب وأثره في كل محبي السينما والعاملين بها، وأيضًا مناقشة أفلام هيتشكوك وتروفو، وأساليبهما ورؤاهما المختلفة للسرد السينمائي.
حرر هيتشكوك تروفو فنيًّا، وأراد تروفو أن يرد إليه الجميل بأن يحرره من قالب صانع الأفلام الخفيفة.
تروفو وهيتشكوك: طفولة قاسية
الأفلام الصامتة أنقى صور السينما، والمخرجون الذين بدؤوا مسيرتهم في عصرها يعرفون عن السينما ما لن يعرفه غيرهم أبدًا.
مر هيتشكوك وتروفو في طفولتهما بتجربة قاسية مع الشرطة، فعندما كان هيتشكوك في الرابعة أو الخامسة من عمره استغرق في اللعب مع أصدقائه وعاد متأخرًا إلى منزله ليوبخه والده، ثم أخذ يكتب شيئًا ما في إحدى الأوراق ليدسها في جيب صغيره، ويأمره بأن يتوجه إلى أقرب قسم شرطة، ويعطي هذه الورقة إلى أحد الضباط هناك.
ذهب هيتشكوك دون أن يفطن إلى ما هو مكتوب، ليفاجأ هناك بأن والده يطلب من الضابط في الورقة أن يحبس ابنه في زنزانة لمدة 10 دقائق حتى لا يتأخر في العودة مجددًا. أدت هذه الحادثة إلى خوف هيتشكوك من ضباط الشرطة طوال حياته.
أما تروفو فقد سُجِنَ فعلًا، إذ سلمه والده بنفسه إلى الشرطة، لتسلمه الشرطة في ما بعد إلى إحدى الإصلاحيات، ليوثق تروفو هذه التجربة القاسية في فيلمه الأول «400 Blows».
هيتشكوك في عيون الجيل الأحدث من صناع السينما
يقول تروفو إن الأفلام الصامتة أنقى صور السينما، والمخرجين الذين بدؤوا مسيرتهم في عصرها يعرفون عن السينما ما لن يعرفه الجيل الجديد من السينمائيين أبدًا.
يصف مارتن سكورسيزي مشهد قدوم الطيور إلى المدينة في فيلم «The Birds» بأنه يحتوي على ما هو أكبر من معلومات مجردة، فهو يتخذ طابعًا دينيًّا إلى حد كبير: الطيور التي تأتي إلى العالم لتقضي على البشرية وتطهر الأرض.
يضع هيتشكوك أبطالًا حقيقيين في مواقف أشبه بالحلم، وربما أهم مثال على هذا الأسلوب فيلمه «Vertigo»، الذي يُعد واحدًا من أكثر أفلامه شاعرية، ويختلف إيقاعه البطيء عن بقية أفلام هيتشكوك التي تعتمد نسبيًّا على الإيقاع السريع. وحين سُئل هيتشكوك عن ذلك قال إن الفيلم جاء على هذه الصورة لأننا نرى عالمه من وجهة نظر إنسان عاطفي.
أيضًا في مشهد جلوس «كيم نوفاك» أمام اللوحة في الفيلم نفسه، نراها من الخلف، ولا نرى التعبير المرتسم على وجهها في أثناء مشاهدتها للوحة لأن صلتها بهذه اللوحة مزيفة، ولأن الأمر كله يندرج تحت مسمى «الخديعة»، ما يهم هو التعبير على وجه «جيمي ستيوارت» ومحاولته للفهم والربط بينها وبين اللوحة.
تحدث المخرجون أيضًا عن اختلاف هيتشكوك وتروفو في توجيهما للممثلين، فهيتشكوك كان يفرض سيطرة تامة عليهم، ولا يسمح لهم بالإضافة إلى الشخصية أو الارتجال، بعكس تروفو الذي اتبع أسلوبًا مختلفًا، فقد كان يجتمع بالممثلين في حفل عشاء، ويتحدثون عن الشخصيات، ويستمع إليهم باهتمام شديد، ويدوِّن ملاحظات، ثم يذهب إلى منزله ويبدأ في كتابة السيناريو، ويكتب الشخصيات أحيانًا من منظور الممثلين، ويُضمِّن في الحوار كلمات أو جمل قيلت على لسان الممثلين عن شخصياتهم، سامحًا لهم بقدر أكبر من الحرية والمتعة، حتى أن فيلمه «Jules and Jim» يتضمن مشهدًا كاملًا مرتجلًا، فبالنسبة إليه هذه الأشياء تجعل الفيلم حيًّا، لكنها أيضًا قد تضر أحيانًا ببنائه الداخلي.
ما زالت أفلام هيتشكوك ذات صلة بعالمنا إلى وقتنا هذا، لأنه اخترع عددًا من التقنيات السينمائية التي ما زلنا نشاهدها في كثير من الأفلام الحديثة.
في السابع من مارس عام 1979، أي قبل وفاة هيتشكوك بعام واحد، تلقى جائزة «AFi Lifetime Achievement Award» عن مجمل أعماله، وحضر تروفو الحفل، وألقى خطبة في حب مخرجة الأثير بدأها بأنه «في أمريكا تسمونه هيتش، أما في فرنسا نسميه السيد هيتشكوك».
توطدت علاقة المخرجَيْن بعد صدور الكتاب، وشاهدا أفلام بعضهما، واستشارا بعضهما بعضًا في أفلامهما حتى وفاة هيتشكوك عام 1980، ليموت تروفو بعده بأربعة سنوات فقط عن عمر ناهز 52 عامًا، وسط صدمة جمهوره ومحبيه.
هل ما زالت أفلام هيتشكوك شديدة الصلة بعالمنا؟
الأمر نسبي، فبينما يتساءل الجيل الجديد عن سبب أهمية أفلامه الملونة التي تظهر فيها أسماء مثل «جيمس ستيوارت» و«دوريس داي» و«كاري جرانت» بمعايير السينما الآن، لا يزال هناك كثير من المخرجين الذين يقتبسون مَشاهد كاملة من أفلامه القديمة، أو ينسخون أسلوبه بشكل مباشر.
على سبيل المثال «برايان دي بالما» في فيلمه «The Untouchable»، الذي يقتبس فيه أسلوب هيتشكوك وإيقاعيه الفريدين.
نعم، ما زالت أفلام هيتشكوك ذات صلة بعالمنا إلى وقتنا هذا لأنه اخترع عددًا من التقنيات السينمائية التي ما زلنا نشاهدها في كثير من الأفلام الحديثة، وما زال تأثيره في السينما حاضرًا، وما زالت أفلامه ممتعة، فقط إذا عرف المُشاهد ما يجعل مشهدًا ما جيدًا.
ياسمين أكرم