ليس عن عبد الحسين عبد الرضا: الضحك خارج الهوية
ربما كنت في العاشرة أو أكبر قليلًا، كانت فكرة «التسلية» بنت الساعات القليلة التي أختطفها من التليفزيون شحيح المتعة، أي شاب قضى طفولته ومراهقته في السعودية يعرف ذلك جيدًا، خصوصًا قبل دخول الاختراع الفضائي الغريب المسمى بالدِّش.
كان كل شيء محصورًا في قناتين ينتهي إرسالهما مع موعد النوم. البرامج بين ممل وأكثر إملالًا، اللهم في فسحة مسلسلات الكارتون الصباحية، ومسلسلات المساء المصرية والخليجية، ثم في «الجائزة» الأسبوعية ليلة الجمعة بمسرحية تمتد لساعتين أو أكثر.
كانت أحوالي مضبوطة على هذه المواعيد، كأنها صلاة تخصني، خاصةً ما يسبقها من تحايل على الأهل كارهي التليفزيون إلا في ما هو مصري، ولم أكن أعرف بعد الاختراعات التي صدمتني مع تشكُّل وعيي مثل «الهوية» و«الجنسية»، وما إلى ذلك من حمولات أثقلتني لاحقًا، لكن هذه حكايات أخرى.
مشكلة الذكريات أنها شيء يشبه الحلم في قدرته على الاختزال، ثم إعادة إنتاج الواقع عبر سلسلة من التفاصيل تجعلها حقيقية للغاية، وقد لا تكون كذلك. أَلَم يتكلم الطب النفسي كثيرًا عن فكرة الذاكرة الانتقائية؟ أعتقد أن كل البشر انتقائيون في ما يتذكرون. الذاكرة بنت المزاج، هكذا تظهر بعض الوقائع القديمة فجأة في أحوال مختلفة، وكأنها تلاعب الوعي في ثوابته وبداهاته.
أعرف يقينًا أن الألوان الباهتة لتليفزيون «سانيو» ذي الـ24 بوصة كانت العالم الذي أراه، إلى جانب عالم آخر خيالي خلقته في فقاعة القراءة. كنت أخالف النصائح الواجبة «ابعد عن التليفزيون»، وأقترب منه كأنني على وشك احتضانه، لا أريد أن أفوِّت أي تفصيلة، حتى الإعلانات التي لا أطيقها لسماجتها صرت أحبها في فواصل المسلسل، الوقت الذي أغمض فيه عيني أستغله لمراجعة كل ما شاهدت.
كل كليشيهات «القهر الخليجي» التي عرفتها لاحقًا لم أكن أفهمها حينها، كنت أعرف قهر أبي وغضب أمي فقط.
يقولون إن لي ذاكرة حديدية مِن كثرة ما حفظت في طفولتي، لكن الحقيقة أنني رغبت في أن تكون ذاكرتي جيدة، كنت أستعيد مباهجي القليلة لأضمن لفقاعة عزلتي أن تكون أكثر تماسكًا، ثم أعيد ترتيب أشيائها كما يحلو لي، لتتجاوز «خالتي قماشة» مع أدهم صبري في رحلة إلى بيت «مسعود» في «المتزوجون»، وينتظرون إشارتي كي نذهب معًا في مكوك نور الدين محمود إلى المستقبل لإنقاذ محمود الضائع في نهر الزمن. هذه الأسماء يعرفها من خاض التسعينيات في الرياض مثلي.
قد يهمك أيضًا: متى تثور الدراما في الخليج على النمطية؟
رياض التسعينيات تعني في ذاكرتي صفارة الإنذار ثم الفزع والهروب إلى الملاجئ العاجلة. أبي يحملني تحت إبطه مثل حقيبة ممزقة. بقايا عمارات تهدمت على مسافة قريبة للغاية من بيتنا. المولات الوليدة، حيث الهواء أطيب كثيرًا ممَّا هو عليه في خارجها، والأنوار لا تخاف القصف.
هي المدينة التي تشكَّل فيها وعيي الكُروي، السهر حتى الفجر لمشاهدة كأس العالم 1994، والتهليل لسعيد العويران في هدفه المارادوني. كل كليشيهات «القهر الخليجي» التي عرفتها لاحقًا لم أكن أفهمها حينها، كنت أعرف قهر أبي وغضب أمي فقط.
كانت أول مرة تتفتح عيني على مفزعات الكبار في عام 1996، فتسللت إلى قاموسي مفردات مثل «الروافض» و«النصارى». كان هذا وقت دراسة «الولاء والبراء»، فالشيعة هم الروافض الذين يسبون الصحابة، والنصارى يقولون إن الله ثالث ثلاثة.
لكني كنت أحب (خِفية) بعض الروافض وكثيرَ الكثيرِ من النصارى. كيف باللَّه يمكن أن أكره «باور رينجرز» وهُم حلمي البعيد الذي أتمنى تحقيقه؟ وكيف يمكن أن أكره عبد الحسين عبد الرضا، وهو الخليجي الطيب الذي عاد إلى مصر للبحث عن ابنته حنان شوقي في مسلسل «لن أمشي طريق الأمس»؟
كان حضوره طاغيًا على الشاشة، شكل شاربه الدقيق كأنه منزوع من قناع «فانديتا»، وعينان لا تتوقفان عن الضحك في ذروة المشهد الميلودرامي. كنت أضحك منه في أوقات لا يمكن للضحك أن يكون مواتيًا، أضحك عندما ينظر إلى عائشة الكيلاني دون أن يتكلم، كيف يمكن أن تطلق «إفيهًا» شديد التركيب وبهذه الفصاحة بنظرتك فحسب؟
اقرأ أيضًا: حول الموت والكوميديا: حكايات شخصية من حياة عبد الحسين عبد الرضا
كنت أضحك ملقيًا مشكلات الهُوية الدينية والقُطرية وراء ظهري، أو لعلي لم أكن أفهمها مثلما ينبغي. فليكن اسمه عبد «الحسين»، أليس الحسين حفيد رسول الله؟ أليس صحابيًّا؟ لماذا يضيقون هكذا؟ عندنا في مصر يسمون عبد النبي من فرط محبتهم للنبي. هم يحبون حفيده أيضًا، لا تملؤوا رأسي بضجيج الانحيازات التي سأضيع عمري فيها لاحقًا. هم أيضًا كرهوه على مقاعد الدراسة وأحبوه على الشاشة، الشاشة أصدق، والمتعة لا تعرف حمولات التاريخ البعيد.
ضحكت من مسرحية «باي باي لندن» لأني رأيت فيها حكايات أصدقائي السعوديين الأثرياء عند سفرهم إلى الخارج.
كنت مثل أي طالب، يحب ليلة الجمعة، السهر دون تحفظ، ينتظر واحدة من المسرحيات التي يحفظها عن ظهر قلب، «مدرسة المشاغبين» أو «العيال كبرت» أو «المتزوجون» أو «أهلًا يا دكتور»، لكنهم هذه المرة عرضوا مسرحية جديدة تمامًا: «باي باي لندن». شارة البداية تشبه مسرحياتي الأثيرة، وفي نفس الحقبة أيضًا، لكن الأسماء كلها جديدة عليَّ. قلت لنفسي ربما هو كشف جديد، سأنتظر وأتابع.
نظرة الخيبة على وجه أبي وأمي أحبطتني تمامًا. «هخش أنام، وأنت مش لازم تقعد للفجر»، يقول أبي. الضحك صنعة مصرية، فكيف بالله يمكن أن يضحك أبي من كوميديان كويتي وهو الذي، بالكاد، يتبسم إذا شاهد بالصدفة مسلسلًا لياسر العظمة أو فيلمًا لدريد لحام؟
أما أنا فكنت مستعدًا للضحك، لا تعيقني اللهجة، خصوصًا أني في المدرسة أخجل من لهجتي المصرية مثار سخرية الجميع. المفاجأة أني ضحكت، ضحكت لأني رأيت فيها حكايات أصدقائي السعوديين الأثرياء عند سفرهم إلى الخارج. وعلى عكس الجميع، لم أستلطف ماكينة الطاقة «داوود حسين»، بل أحببت ذلك الرجل الهادئ صاحب شارب «فانديتا»، وإيقاع نطقه البطيء، وضحكت من عينيه أيضًا. الضحك لا يعرف الهُوية، والمتعة لا تبالي بالانحيازات القديمة.
أحمد ندا