كيف أصبح شريط الصوت بطل فيلم «A Quiet Place»؟
كم فيلمًا شاهدته عن أسرة أو مجموعة أفراد، في كفاح متواصل للهروب من مسوخ مفترسة، أو غزاة فضاء وحشيين؟
غالبًا يتعاقب على ذاكرتك الأن قائمة طويلة للإجابة، ومشاهد عدة يختبئ فيها الأبطال كي لا تراهم الوحوش. ربما مشاهد أخرى من النوع الذي يصرخ فيه البطل قائلًا للباقين بأعلى صوته: «اهربوا».
التركيبة الهوليوودية للنوع معروفة ومكررة. لكنها في فيلم «A Quiet Place» تتغير تمامًا بفضل لعبة سينمائية بسيطة. لعبة لا حاجة بها للاختفاء عن بصر الوحوش، ويستحيل معها أن يصرخ البطل: «اهربوا». والسبب أن الوحوش المفترسة هنا عمياء، لكنها خارقة من حيث قدراتها السمعية، وصوتك وحده هو ما يجعلك ضحية مستهدَفة وسهلة.
أهمية السمع في الفيلم لا تتوقف هنا، لأن واحدة من الشخصيات الرئيسية صماء، ووسيلة التخاطب الوحيدة معها هي لغة الإشارة.
إلى أي مدى إذًا يمكن أن تنتج هذه المعطيات عملًا مختلفًا؟
الإجابة: الى أقصى مدى ممكن.
من البداية لا يشغل الفيلم نفسه كثيرًا بتفسير أصل الكارثة تفصيليًّا. الأحداث تبدأ بعد 2020، في عالم كابوسي تعرَّض لغزو فضائي. عالم لم يصمد منه إلا أقلية تعلمت أن سر النجاة يكمن في عدم إصدار أي صوت يتجاوز الهمس.
النقطة الأولى (وحوش تسمع، لكن لا ترى) أنتجت هنا برنامج تفاعل مختلفًا لدى المتفرج، إذ يصبح الصوت محور تركيزه أكثر من الصورة. ويصبح معه عقله أيضًا مشغولًا بتفكيك المحتوى البصري للفيلم، لأشياء وأحداث يمكن أن ينتج عنها صوت (خطر)، وأشياء وأحداث ليست كذلك.
النقطة الثانية (طفلة صماء) أنتجت طريقة تفاعل إضافية موازية. هذه الشخصية على عكس الباقين، غير قادرة على استشعار مؤشرات الخطر لأنها لا تسمع مثلهم. وفي أوقات كثيرة يجبرنا الفيلم على أن نتابع الأحداث صوتيًّا من نفس منظورها الأصم لنشاركها المعاناة والعجز.
الأهم من ذلك أن لغة الإشارة التي تتبادلها مع باقي الشخصيات، والمصحوبة بترجمة للمتفرج، أنتجت أيضًا تفاعلًا ثالثًا. حتى لو كانت معلوماتك شبه صفرية بخصوص لغة الصم والبكم (وهو حال كاتب هذه السطور) ستتفاعل عاطفيًّا مع بعض المقاطع المؤثرة التي يسهل فيها التأثر بهذة اللغة بصرية الطابع.
كلما تحرك الفيلم للأمام، اكتسبنا تدريجيًّا كمتفرجين حدة وحساسية أكبر في طريقة التفاعل السابقة الشرح مع كل ما يحدث، سواء في شريط الصوت، أو على المستوى البصري، وإن كان الصوت العنصر الأهم والأكثر تفردًا.
كان استخدام الموسيقى في الفيلم مكثفًا، ومتعارض مع طبيعته القائمة على الصمت.
آخر مرة شاهدت فيها توظيفًا مميزًا مقاربًا لشريط الصوت في فيلم رعب قد تكون منذ 2016، في فيلم «Don't Breathe»، للمخرج «فيدي ألفاريز». وفيه نتابع أيضًا صراعًا مع خصم شرس أعمى ومرهف السمع.
استمرارًا لنقطة الصوت، فالموسيقى التصويرية الموتِّرة هنا لـ«ماركو بلترامي» تلائم تمامًا أحداث الفيلم، لكنها لا تبتعد عن السائد من هذه النوعية. المزج المعتاد بين صوت احتكاك قطع ميكانيكية، ونغمات الـ«bass» التي تتحرك تصاعديًّا أو تنازليًّا.
فعالية الموسيقى يصعب إنكارها، لكن يمكن القول إن استخدامها مكثف، ومتعارض مع طبيعة الفيلم القائمة على الصمت. وفي أحيان كثيرة تمنيت لو اتخذ صناع الفيلم قرارًا أكثر جرأة باستبعاد الموسيقى التصويرية تمامًا من حساباتهم، والاعتماد على مؤثرات الصوت فقط، أو على الأقل اختزال توظيفها في مشاهد أقل.
طوال النصف الأول من الفيلم، فهم المخرج أن الوحوش أكثر تأثيرًا ورعبًا إذا غابت عن الشاشة غالبية الوقت.
«جون كراسينسكي»، مخرج الفيلم وبطله، شارك أيضًا في كتابة السيناريو. وهنا يحقق مفاجأة في مشواره السينمائي على المستويات كافة. من ناحية بسبب أعماله السابقة (في الإخراج) متواضعة المستوى، ومن ناحية أخرى لأن شهرته كممثل جاءت من الكوميديا التليفزيونية والأدوار الخفيفة من الأساس، والبعيدة كل البعد عن دوره هنا.
أهم ما يُحسب لكراسينسكي تفهُّمه التام أن أفلام الرعب لا يصح أن تنحاز للمطاردات والمواقف الخطرة قبل أن تدفعنا أولًا كمتفرجين نحو التعاطف مع الشخصيات. كلما أحببناهم واهتممنا بهم أكثر، أصبحت الأخطار التي تهددهم أكثر رعبًا لنا.
على المستوى البصري، حافظ كراسينسكي على خريطة جغرافية سهلة الفهم والمتابعة للمتفرج، ووضع كل المعلومات المطلوبة بشكل غير مصطنَع ضمن الأحداث. هذة النقطة مهمة لأن كثيرًا مما سيحدث يستوجب فهمًا للمسافات والأماكن.
Less is more: القليل أكبر تأثيرًا
إلى حد كبير، وطوال النصف الأول من الفيلم على الأقل، فهم كراسينسكي أن الوحوش والمسوخ أكثر تأثيرًا ورعبًا إذا غابت عن الشاشة غالبية الوقت. في هذة النقطة يحضرني بالتأكيد فيلم «Jaws» الذي أخرجه «ستيفن سبيلبيرغ» عام 1975، و«Alien» لـ«ريدلي سكوت» عام 1979، وكلاهما نموذج لأفلام رائدة أثبتت هذه القاعدة منذ عقود.
فقط في النصف الثاني يفقد المخرج هذه الميزة نسبيًّا، وينحاز إلى ظهور الوحوش بشكل أطول زمنيًّا، وإلى الغرافيك المكثف التفصيلي لتصبح الأمور أقرب إلى الشكل الهوليوودي السائد.
بالحديث عن كراسينسكي وقراراته كمخرج، فزوجته في الفيلم هي أيضًا زوجته الحقيقية «إيميلي بلانت». هنا تقدم أداءً حساسًّا ومؤثرًا، خصوصًا أن طبيعة الأحداث قاسية جدًّا معها. يمكن بالتأكيد ملاحظة الكيمياء العالية بينهما في عدد من المشاهد المهمة، وببعض الحظ قد تكون إيميلي ضمن المرشحات للأوسكار.
اقرأ أيضًا: القواعد الخفية لجوائز الأكاديمية: كيف تتنبأ بالأوسكار؟
اختيار الفتاة (الموفق فنيًّا) قد يكون قائمًا على دوافع شخصية وأسرية من الأساس، لكن يتوجب بالتأكيد الإشادة بقرار المخرج في اختيار «ميليسنت سيموندز». حقيقة أنها صماء فعلًا لا تعني بالضرورة أنها الأفضل والأحق بدور الطفلة الصماء، لكنها، إضافة إلى أدائها الجيد، فإنها منحت الفيلم سمعة تسويقية مبتكَرة باعتباره عملًا مختلفًا يستهدف أعلى درجات المصداقية.
كان النصف الثاني من الفيلم أقل تميزًا من الأول، وكأن فريق العمل لم يجرؤ على قطع شوط المغامرة حتى النهاية.
كل هذه المزايا لا تنفي عيوبًا أخرى تستحق الذكر. مثلًا رغم أن الحبكة هنا قائمة على الصمت إلى أقصى درجة، يمكن اصطياد عدة مقاطع يخون فيها الفيلم هذه القاعدة تمامًا، ويحاول إيهامنا أن صوت حدثٍ ما خافت وغير ملحوظ مقارنةً بغيره، رغم عدم منطقية ذلك.
دعك طبعًا من عدم إجابتنا عن أسئلة كثيرة ومنطقية، أسئلة تتضمن مثلًا: كيف تتصرف الشخصيات في حالة ردود الفعل الإنسانية الصوتية العفوية، مثل الكحة والعطس؟ والأهم: لماذا اتخذ الأبوان أصعب قرار إنساني يمكن للناس العادية اتخاذه، في ظل ظروفهما غير العادية؟
إضافة إلى ما سبق، يمكن القول أيضًا إن النصف الثاني من الفيلم أقل تميزًا من الأول، وكأن فريق العمل لم يجرؤ على قطع شوط المغامرة حتى النهاية، وقرر أن يميل للعب في مساحة هوليوودية آمنة بقية الفيلم. لكن كالعادة مع الأفلام المختلفة، يمكننا التسامح مع كل هذة العيوب والهفوات، أو على الأقل بعضها.
قد يهمك أيضًا: «بلوكباستر» هوليوود: هل انتهى زمن الأفلام «المُشبعة»؟
هذا فيلم يصعب تصنيفه على أنه ممتاز، لكنه فيلم عظيم ومثالي من حيث التأثير والتوقيت. هذا عمل يذكِّرنا بأهمية شريط الصوت، وكيف يمكن تجديد استخدامه، ويذكِّرنا أيضًا بأن فكرة بسيطة جدًّا قد تكون كفيلة بتقديم فيلم مختلف وأصيل، في نوعية أصبحت نمطية جدًّا ومكررة.
وامتدادًا لأهمية الصوت في الفيلم وتأثيره على المتفرج، لا بد أن أذكر أن مشاهدته في السينما كانت تجربة ممتعة ومحبطة في آن واحد: ممتعة لأن كثيرًا من المتفرجين الذين أصدروا أصواتًا في البداية تعلموا الصمت تدريجيًّا وبشكل شبه إجباري ربما بسبب التركيبة الصوتية، ومحبط لأن بعضهم، رغم كل شيء، استمر في لعب دور المتفرج المزعج حتى النهاية، وكأنه من الصعب التوقف عن تبادل الحديث.
حينها فقط تمنيت لو كانت وحوش «A Quiet Place» حقيقية وموجودة في كل دار عرض لتعاقب أصحاب هذا النوع من السلوكيات.
حاتم منصور