أنا أشاهد إذًا أنا موجود: 6 أفلام تطرح أسئلة فلسفية غير متوقعة
تتميز الأفلام السينمائية الجيدة بإمكان إعادة قراءتها بأكثر من صورة، ويختلف التلقي والرؤية باختلاف المُشاهد.
الأفلام التي سنعرضها هنا تثير أسئلة وأفكارًا فلسفية، ربما لا تكون أول ما يبدو لنا عند مشاهدتها، ولكن مع مشاهدة ثانية سنبدأ في استنتاج مزيد من الأفكار.
تجتمع هنا رؤية عدة كُتَّاب، وضَّح كلٌّ منهم الفكرة الفلسفية التي شاهدها في أحد الأفلام، ونُشرت هذه المجموعة من الآراء في مقال على موقع الغارديان.
1. فيلم «Force Majeure»: كيف نفعل الشيء الصحيح؟
إذا افترضنا أنك كنت في العراق وقت الحرب على الكويت، أيُّ صفٍّ كنت لتأخذ؟ الدولة التي تعيش فيها أم المعتدَى عليها؟ وإذا تعرضت لخطر أنت وعائلتك، هل ستفكر في الهروب أولًا، أم تبحث عن أحبائك لحمايتهم؟
الإجابة صعبة بالتأكيد، لكن طالما أننا لسنا في قلب هذه المواقف سنرى أنفسنا على الأرجح نتخذ الجانب البطولي.
هذه المواقف الصعبة تحديدًا هي ما يحاول فيلم «Force Majeure» طرحه، كما يرى أستاذ الفلسفة البريطاني «جوليان باجيني».
الأحداث العشوائية تقع وليس هناك من يمكن لومه عليها، لكن طريقة استجابتنا لها ليست عشوائية.
الفيلم يدور حول أسرة ذهبت للاستمتاع بالتزلج في جبال الألب، وبينما يتناول أفرادها عشاءهم في شرفة الفندق يقع انهيار جليدي يعزلهم عن العالم. الأب أول من يفشل في الاختبار، إذ يقرر الهروب وترك أسرته تعاني. لاحقًا، يحاول بقية أفراد الأسرة التماس العذر له، ربما لأنه في مثل هذه الظروف يبحث كلٌّ عن نفسه، وربما لا يعي الشخص خلالها تصرفاته، لكن هذا يبقى مجرد تبرير، وتبقى وجهة نظر الفيلسوف أرسطو أن ما فعله الأب يوضح بشكل قوي ملامح شخصيته.
في نظر أرسطو، نحن لا نملك دائمًا وقتًا كافيًا للتفكير ثم اتخاذ أفضل القرارات، ولهذا فهؤلاء الذين يُقدمون على أفعال جيدة هم بالفعل جيدون من الداخل، أو تدربوا على فعل الأشياء الجيدة لفترات طويلة حتى وصلوا إلى مرحلة تصبح معها ردود أفعالهم جيدة بشكل تلقائي، وحينها ستصبح الخيارات الجيدة هي ما يقدمونه حال وقوعهم في الخطر.
ربما يرى بعضنا أن الأب قرر الهرب وحده بسبب غريزة البقاء، لكن الحقيقة أنه فعل هذا لأنه يحب نفسه، وكذلك هاتفه المحمول، أكثر ممَّا يحب عائلته، وهذا يمكن ملاحظته من تفاصيل الحياة اليومية المتناثرة خلال الفيلم. على سبيل المثال، نرى زوجته في مشهد قبل الحادث تسأله من الحمام إن كان يتابع هاتفه فيخبرها كاذبًا أنه لا يفعل، وهو أمر ليس بجريمة بالتأكيد، إلا أن أرسطو له رأي آخر.
يعتقد الفيلسوف اليوناني أن هذه الكذبة البسيطة ما هي إلا قطعة صغيرة في بناء مكوَّن من كذبات مشابهة، تُسهم في تشكيل السلوك الجبان والأناني للشخصية، ففي كل مرة يفضل الأب الكذب بشأن هاتفه يصير أكثر تمركزًا حول نفسه.
يؤكد لنا فيلم «Force Majeure» ما قاله أرسطو، من أن الأحداث غير المتوقعة والعشوائية تقع وليس هناك من يمكن لومه على وقوعها، لكن طريقة استجابتنا لهذه الأحداث ليست عشوائية، لهذا فمسؤوليتنا عن أكاذيبنا تقع على عاتقنا مباشرةً.
2. فيلم «It’s a Wonderful Life»: ما الذي يجعلنا نحتمل الحياة؟
يطرح الفيلم تصور سقراط عن أن الحياة دون اختبار لا تستحق أن تُعاش.
دائمًا ما نسأل هذا السؤال: ما الذي يجعل حياتنا جيدة؟ وهو ما يحاول فيلم «It’s a Wonderful Life» معرفته، لذلك يبدأ بطرح التساؤل: هل يكفي أن تكون جيدًا على المستوى الأخلاقي كي تصبح حياتك جيدة؟
الإجابة في الفيلم هي نعم، بحسب ما قالته الفيلسوفة الأمريكية «كريستين كورسجارد». فبطل الفيلم «جورج بايلي» (جيمس ستيوارت) رجل أعمال يحقق السعادة في حياته عن طريق التضحية بخططه الشخصية وطموحاته من أجل إسعاد عائلته والأشخاص الأفقر في محيطه.
يرى الفيلم أن أفضل ما في الأخلاقيات الجيدة أنها تقرب صاحبها من الناس، لكن على مستوى أعمق، يطرح الفيلم تصور الفيلسوف سقراط عن أن الحياة دون اختبار لا تستحق أن تُعاش. لهذا نشاهد بايلي على وشك الانتحار، وما ينقذه هو التجربة الخاصة التي جعلته يرى كيف ستكون الحياة دون وجوده.
بناءً على الفيلم، لو لم يشاهد جورج بايلي هذه التجربة كان سينتحر، ولكن لو كان أقدم على الانتحار بالفعل، هل كان المشاهدون ليظلون على اعتقادهم بأنهم يشاهدون «حياة رائعة»؟ ولو لم يكن سينتحر، فهل سيكون الفيلم قد عرض لنا أن الحياة لا يمكن أن تكون رائعة دون أن يشعر من يعيشها بذلك؟
3. فيلم «Ida»: وماذا بعد؟
تسأل «إِدا» حبيبها بعد أن يطلب منها أن تهرب معه: وماذا بعد؟ يجيبها: نربي كلبًا، نتزوج، ننجب أطفالًا، نشتري منزلًا. تكرر سؤالها: وماذا بعد؟ فتأتي إجابته: الحياة التقليدية.
بطلة فيلم «Ida» طالبة رَهْبَنَة شابة، لكنها قبل أن تكرِّس حياتها للرهبنة تذهب لزيارة عمتها، آخر من تبقى من عائلتها، وفي هذه الزيارة تتعرف إلى ماضي أسرتها، وتدرك أنها من عائلة يهودية قُتلت في أثناء الحرب.
تحاول العمة إقناع إِدا بعدم الذهاب إلى الدير وأن تحيا حياتها كما تشاء، لكن العمة نفسها تعاني مع ماضيها، وتنتحر لاحقًا لتتحول حياة إِدا تمامًا، فتبدأ في تجربة كل شيء: تدخن السجائر، تشرب الخمر، تلبس كعبًا عاليًا، ترقص على موسيقى الجاز، ثم تمارس الجنس مع شاب يعزف الساكسوفون، لكنها مع نهاية الفيلم تترك كل هذا وتعود مرة أخرى إلى الدير وحياة الرهبنة.
حين كان ذلك الشاب يعرض عليها الحب والسعادة بالشكل التقليدي، كان سؤالها «وماذا بعد؟» يرمي إلى تساؤل أبعد هو: «ما الذي يجعل هذه الحياة تستحق أن نحياها؟»، ولهذا كان من الصعوبة أن يجد صديقها الإجابة المناسبة. هكذا نرى إدا تترك هذه الحياة وتقرر أن تحيا بطريقة مختلفة في الدير، دون أن تفسر سبب اختيارها لهذه الحياة.
آخر كلمة نسمعها في الفيلم هي «الحياة» على لسان صديق إدا، ونشاهد الفتاة بعدها تمشي عكس اتجاه السير متجهةً إلى الدير، وتتركنا نفكر في سؤالها «وماذا بعد؟».
تتساءل أستاذة الفلسفة القديمة «أورسلا كوبي» عمَّا إذا كان ممكنًا أن نجد إجابة مثالية لهذا السؤال. هل يمكن أن نجد تفسيرًا واضحًا لكل اختياراتنا في الحياة؟ وإذا وجدنا الإجابة، فماذا سنفعل بعد ذلك؟ ماذا بعد؟
4. فيلم «Gattaca»: هل هناك ما يزيد على علم الأحياء؟
عندما ظهر فيلم «Gattaca» عام 1997، كان قد مر عام واحد فقط على عملية استنساخ النعجة الأشهر «دوللي». كان مشروع «الجينوم البشري» قيد التطوير، وهو المشروع الذي كان يخطو بسرعة نحو قراءة وتحليل الحمض النووي للإنسان. وبينما تلقَّى بعض الناس أخبار المشروع باهتمام يشبه ما حدث مع وصول الإنسان إلى القمر، ظهرت خلافات أخلاقية بين كثيرين عن أهميته.
ثارت التساؤلات: هل من الممكن أن يكون المستنسَخ من عالِم لامع أو رياضي مشهور على نفس مستوى صاحب الجينات الأصلية؟ أم ستصبح هذه الآمال عبئًا على هؤلاء المستنسَخين؟ هل يساعدنا هذا العلم في معرفة الجينات التي تجعل من شخص شديد الذكاء، أو يحمل أيًّا من الصفات المميزة الأخرى؟ وكيف يمكن أن يؤدي هذا إلى النظر بشكل أقل لمن لا يملكون هذه الصفات؟
لا يوجد جين للروح الإنسانية.
وسط كل هذه التساؤلات ظهر الفيلم، الذي استمد اسمه من الحروف الأربعة الأولى للمواد الأساسية المكونة للحمض النووي. يدور الفيلم في المستقبل، حين يصبح بإمكان الآباء اختيار الجينات التي يفضلون وجودها في أبنائهم، فيحصلون على أطفال حسب الطلب، وهؤلاء الأبناء المميزون يحصلون على أفضل مكان في المجتمع.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي «فنسنت» (إيثان هوك)، المولود بشكل طبيعي وليس من المميزين، لكنه يقرر التمرد على وضعه كعامل نظافة ويحلم بأن يصبح رائد فضاء، معتمدًا بشكل رئيسي على قوة إرادته.
في أحد المشاهد، يتحدى فنسنت أخاه الأرقى منه جينيًّا في السباحة إلى حدٍّ أبعد في المحيط، ويفوز بالطبع لأنه لا يدَّخر أي جهد للعودة، عكس أخيه. لهذا السبب، خرج كثير من مشاهدي الفيلم يؤمنون بالسطر الدعائي الخاص به: «لا يوجد جين للروح الإنسانية».
لكن هذه الجملة تحتاج إلى نظرة أعمق في رأي الفيلسوف الأمريكي «بيتر سينغر»، فإذا افترضنا أن الروح الإنسانية تشير إلى الشجاعة والإقدام، فهاتان الصفتان لهما بالتأكيد جينات، ولو أجرينا مزيدًا من البحث فربما تصبح هذه الجينات معروفة لنا. وإذا وجدنا الجينات التي تقف وراء «الروح»، فمتى سنصل لمعرفة الخصائص التي ليس لها جينات حقًا؟
قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
5. فيلم «Memento»: كيف تستمر الذات؟
حسبما يرى أستاذ الفلسفة «كينيث تايلور»، يحاول فيلم «Memento» استكشاف طبيعة النفس البشرية ودور الذاكرة في تشكيل الهوية.
نشاهد بطل الفيلم يقضي وقته كله وراء هدف واحد: العثور على الرجل الذي قتل زوجته والانتقام منه، لكنه يعاني إصابة في رأسه تجعله لا يتذكر الأحداث القريبة، ولهذا لا يتذكر أي شيء حدث له منذ جريمة قتل زوجته وإصابته، وتطارده دومًا الأسئلة: ما الذي أفعله هنا؟ ماذا جاء بي إلى هنا؟ ما الذي أريد أن أفعله؟
جانب من تميز هذا الفيلم ليس فقط طرحه أسئلةً عن النفس والذاكرة، بل كونه يضعنا مكان الشخصية الرئيسية طَوَال الفيلم لنتابع الأحداث من منظورها. الخط الزمني لـ«Memento» يسير في اتجاهين منفصلين لكنهما يلتقيان مع النهاية، أحدهما يسير بشكل عكسي من الحاضر إلى الماضي، في حين يسير الآخر إلى الأمام.
ذواتنا ليست في حالة مستقرة نصل إليها لنتوقف عندها، بل ربما تتفكك ويُعاد تشكيلها.
مثلما يحدث مع البطل، نبدأ تدريجيًّا في فهم الأحداث وكشف غموضها دون حاجة إلى الذاكرة، وفي نهاية الفيلم نرى الصورة كاملة ونكتشف الحقيقة، فنعرف أن البطل انتقم من قاتل زوجته وقتله بالفعل لكنه نسي بسبب مشكلة ذاكرته، والأسوأ أننا سنكتشف أنه شتت نفسه وقرر متابعة رجل آخر وقتله.
تلاعُب بطل الفيلم بنفسه يعكس درجة من التحكم في ذاته هدفها تخفيف حالة الانكسار، وهنا تلحظ كينيث تايلور أن البطل ليس شخصية قوية وغير قابلة للهزيمة مثلما نفترض في أنفسنا، بل أكثر هشاشة بكثير.
هكذا يلقي الفيلم الضوء على الذات، فذواتنا ليست في حالة مستقرة نصل إليها لنتوقف عندها، لكنها ربما تتطور دومًا وتتفكك ويُعاد تشكيلها. إذا اتفقنا على هذا سنجد أن بطل الفيلم ليس مختلفًا عنَّا كثيرًا في طبيعته، لكنه فقط يعاني درجة متقدمة من إعادة التشكيل هذه.
قد يعجبك أيضًا: 5 أسئلة ستجعلك تدور حول ذاتك.. لحظة، ما هي ذاتك؟
6. فيلم «Spring, Summer, Fall, Winter... and Spring»: هل يقودنا البحث عن الخير إلى الشر؟
يبدأ فيلم «Spring, Summer, Fall, Winter... and Spring» براهب بوذي عجوز ومعه تلميذه حديث السن، ثم تقع الأزمة عندما تأتي فتاة شابة إلى الدير، إذ يضاجع التلميذ الفتاة ويهرب معها إلى المدينة تاركًا الراهب وحده.
بعدما صار رجلًا في الثلاثينيات، يعود التلميذ إلى الدير هاربًا إثر تورطه في قتل الفتاة بسبب الغيرة، وعندئذ يتذكر نبوءة الراهب الذي حذره من أن حب المرأة يؤدي إلى التعلُّق، ومن ثَمَّ تدمير موضوع التعلق في النهاية، حسب الرؤية البوذية.
يقول هيغل إن الشر يكمُن في النظرة التي تُبصر الشر في كل مكان.
يرى الفيلسوف والمفكر السياسي السلوفيني «سلافوي جيجيك» أن أول ما يمكن فعله هنا هو التعامل مع الفيلم حرفيًّا، والسؤال عن سبب قتل الشاب للفتاة حين هجرته من أجل رجل آخر، وعن لماذا كان حبه أنانيًّا. ربما لو كان شخص آخر دون خلفية بوذية في الموقف نفسه لترك المرأة تذهب حتى لو آلمه هذا، ففي النهاية، من سيَوَدُّ البقاء مع شخص لا يحبه؟
هنا يمكن أن نفكر: ماذا لو كانت تربية الشاب البوذية هي بالذات ما أدى به إلى هذا الفعل؟ ماذا لو كانت المرأة من وجهة نظره الدينية مجرد موضوع للرغبة؟ وباعتبارها كذلك، فإنها تقدر على استفزاز الرجل للقضاء عليها. ربما تكون الرحلة من الدير إلى الدير مرة أخرى، مرورًا بجريمة القتل، تدور في فلك التدين.
يقول الفيلسوف الألماني «هيغل» إن الشر يكمُن في النظرة التي تُبصر الشر في كل مكان. ألا يقدِّم الفيلم هذه الرؤية بعينها؟
الشر هنا ليس في رغبة الامتلاك بقدر ما هو في نظرة الراهب الذي يرى هذه الرغبة شرًّا. بحسب جيجيك، هذا هو ما يسمَّى في علم النفس «الانعكاسية»، فوجهة نظرنا التي نحكم من خلالها على الأشياء يمكن أن تصبح هي نفسها جزءًا من هذه الأشياء.
أندرو محسن