حول الموت والكوميديا: حكايات شخصية من حياة عبد الحسين عبد الرضا
مساء حزين. اليوم، في أغسطس من العام 2017، أغلق عبد الحسين عبد الرضا، الفنان الكويتي المتفرد، الستارة الحمراء للعرض وختم آخر مشهد له في الحياة، أُطفئت أنوار خشبته المسرحية التي كانت سريرًا أبيض في إحدى غرف مستشفيات العاصمة البريطانية لندن، ليغلق كتاب حياته الحافلة بعد نجومية امتدت لأكثر من نصف قرن من العطاء المثمر والمؤثر.
في أغسطس آخر قبل أربعة أعوام، كانت تهب رياح السَّموم على بلده الكويت وهو يغادر، فصحته لا تحتمل الرطوبة والقيظ، يسافر إلى لندن ليتمتع ببعض النسائم المنعشة في شقته هناك، أو خلال ممارسته هواية المشي وسط أشجار سامقة خضراء، بجوار نهر فيه أنواع من البط والأوز، يطعمها خبزًا.
كان في ذلك الصباح قبل أربعة أعوام على موعد مع طبيب القلب في المستشفى البريطاني، الذي يشرف على حالته منذ سنوات. قال له الطبيب: «تعب قلبك يا حسين، واستُهلك من كثرة استبدال الشرايين ووضع الدعامات كل عام، ولن تكون هناك نهاية لأوجاعك، فلا بد من عملية قلب مفتوح».
رفض عبد الحسين وقال لطبيبه: «لا يبه، سووها أربعة من إخوتي شباب وبنات، والنتيجة موتهم بعد ستة أشهر من العملية»، ثم ضحك: «لو تسوي شغلك عِدِل يا دكتور، وأنا موافق تجرب عليَّ أحدث التقنيات بالليزر، أنا ما أبي إلا أربعة سنين زيادة».
ورحل في العام الرابع مثلما طلب.
نجم ساحر، قامة طويلة، جسد رشيق، وجه مليح به عينان شقيتان وخفة دم طاغية، كان هذا الرجل حلم أغلب بنات جيلي قبلي وبعدي، وحلمي الخاص كفتاة مراهقة في عمر الرابعة عشرة. في الصف الأول الثانوي كتبت له أول رسالة إعجاب وحب، بخط ولغة مرتبكة وركيكة، على عنوان فرقة المسرح العربي. المقر ليس بعيدًا عن بيت عائلتي في منطقة الشعب آنذاك، وطمعت أكثر، فطلبت صورة له لم تُنشر.
لم أتوقع يومًا ولا في الأحلام ورود رسالة إلى صندوق بريد بيتنا، ظرف على جانبه لوغو واسم فرقة المسرح العربي، معنوَن باسمي. فتحته على عجل، فإذا بورقة بيضاء بخطه، سطور قليلة تعبِّر عن شكره، وصورة له خبأتها داخل طيات كتابي المدرسي، وفي أثناء شرح المعلمة درس الرياضيات الذي أكرهه، أغرق في كتابي، أتطلع إلى عينيه، سارحةً في أحلام اللقاء به.
كان هذا أول خط بيننا، ولم تستمر المراسلات بسبب بعض الظروف. أتقصى أخباره عبر الصحيفة الوحيدة التي يشتريها جدي، وأقرأ عن انشغاله في عمل مسرحي جديد، وخلال ذلك أركز في دروسي لنيل شهادة الثانوية العامة.
لظروف ما، أوقفت دراستي في منتصف المرحلة الثانوية والتحقت بالصحافة قبل الثمانينيات بعامين. تزوجت وأنجبت طفلي الأول، وعملي الصحفي جعلني ألتقي عبد الحسين في الفعاليات الفنية، وأسعد بدعوته لي لحضور بروفات عمله المسرحي الجديد.
عدت إلى مقاعد الدرس: «سأقف أمام حلمي ممثلةً ذات يوم على خشبة المسرح»، ونلت شهادة الثانوية، هاتفته لألتقيه، وأعطاني موعدًا في مكتبه بمنطقة الشرق.
أبديت له رغبتي في الالتحاق بقسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، فلقد مللت وأنا أجسد مختلف الأدوار أمام مرآة الحمام، أريد تفجير موهبتي في هذا العالم.
ضحك: «تفجير مرة واحدة؟ ياه، إنتِ كارثة تمشي على قدمين. التمثيل يا بنتي أمام المرآة ليس تمثيلًا، لأنك تبعثرين تركيزك وأحاسيسك وأنت تنظرين إلى نفسك بإعجاب أو دون إعجاب، وتعيدين لتري نفسك أجمل وليس أفضل أداءً، وبذلك لا تغوصين في الشخصية وأحاسيسها».
- إنني أملك في داخلي شخصيات متعددة ومختلفة وأجيد التعبير عنها.
«هذا ينفع للأدب. أفيضي بخيالك وانطلقي، أنتِ كتلة طائرة ولا تركزين، من الآخر لا تصلحين، فالتمثيل كذب صادق طريقُه شحن عصبي وجهد بدني شاق، لا يليق بمن لديها أدواتها في الكتابة وفي الصحافة، ولديك طفلك، اهتمي به، فالأحسن أن تلتحقي بقسم النقد في معهد الفنون المسرحية وستكونين دائمًا قريبة من الفن الذي أحببتيه».
وفعلت.
تملكت أدواتي النقدية، وتألقت في صحافتنا المحلية، وابتعدنا لاختلافات في وجهات النظر. ظهرت إلى العلن في برنامج «استوديو 300» على تليفزيون الكويت. بين شد وجذب كانت حياتنا عبر 30 عامًا، بين فنان ذي خبرة وتلميذة عصية على الطاعة، ولم يكن يخفي إعجابه بلقاءاتي الصحفية.
لم يكن عبد الحسين عبد الرضا يميل إلى المسرح السياسي، ورأى أن مسرحية «باي باي عرب» فشلت لأنها سياسة مباشرة.
حين التقيته في محفل فني، صافحني وضغط على كفي قائلًا: «أنا تنتقديني؟». ذكرته بأنه من اختار لي دراسة النقد، فلماذا يغضب اليوم حين أنتقد مشهدًا في عمل له؟ ثم تواعدنا لنهار آخر في مكتبه.
«تعرفين يا فتاة، أنا سعيد لنجاحك في النقد، أنتِ مسوية لوية (تحدثين ضجة)، لكن لغتك مباشرة وحادة، فتكسبين الأعداء بسبب سكاكينك. أترين هذا الذي أمامك، الذي هو أنا، لقد انتقدت الأمراء والوزراء ونواب مجلس الأمة، ولم أقصر مع سلبيات الشعب، فعلت كل ذلك بكوميديا الموقف فكسبتهم ضحكًا ومحبة، والأهم أني قلت رأيي وموقفي في إطار النص».
قلب عبد الحسين عبد الرضا مصدر أوجاعه، لكنه مع هذا يسع الكون، مظلة محبة لتلامذته وشعبه، لذا كان رحيله صاعقة وحدادًا عامًّا بين عموم العباد وفي كل البلاد، إذ كان عبر أكثر من 50 عامًا يعبِّر عن تحولات الواقع الاجتماعي بجرأة وخفة ظل. لا يتحدث في السياسة بشكل مباشر، لا يحبها، مع أنه شغوف بمتابعة نشرات الأخبار، إلا أن عمله في جوهره سياسة.
قال عبد الحسين عبد الرضا: بعد التحرير قدمت مسرحية «سيف العرب» وتعرضت لإطلاق نار، وكنت لو لا ستر الله «من صيد أمس».
اتفقنا ذات يوم أن أعِد كتابًا عن حياته الفنية، وأراد للكتاب أن يرى النور عن طريق مطبعة الأهرام التى يملكها. كان شلالًا متدفقًا من الذكريات، كلما غُصت نهلت معلومات هي جواهر، ليس من عمره الشخصي فقط، إنما من عمر بلادي.
لم يكن يميل إلى المسرح السياسي. قال لي ذات يوم:
«مسرحيتي «باي باي عرب» عن تفكك الأمة العربية وإضاعة قضية فلسطين، فشلت لأنها سياسة مباشرة عن قضية عربية كبرى تهم النخبة في الكويت، ولم يرَ عوام الناس أنفسهم فيها، مع أن الكاتب الكويتي عبد الأمير التركي نجح في مسرحه السياسي المباشر، واستشرف أزمات الكويت وقدم رؤاه المستقبلية، نجح لأنه ركز على قضية البلد، وأنا في «باي باي عرب» أردت أن أقدم موقفي ورأيي في قضايا العرب، طلع ما أنفع أكون مثقف».
«المسرح السياسي ثوبه ضيق عليَّ ولا يجعلني أنطلق بأريحية، خطابه صعب، غلج مو شعبي، والناس أحبتني في الكوميديا الخفيفة. لكن من قال لك إني لا أعبِّر عن قضايا المواطن وآلامه وأحلامه؟ وهذا جوهر السياسة في رأيي، لا أوالي أي تيار ولا أنحاز إلى قبيلة أو طائفة وملة واتجاه، ولا أجامل سياسيًّا، أنا منحاز كلي على بعضي إلى كل جمهوري، وهم وطني الكويت».
- تعرضت لمحاولة اغتيال من تيار ديني معين؟
«وحزَّ في خاطري. بعد التحرير قدمت مسرحية «سيف العرب» وتعرضت لإطلاق نار، وكنت لو لا ستر الله «من صيد أمس»، وبعد مرور سنة ضربوا محلاتي «مركز فنون للفيديو» في السالمية والفنطاس، دمروها تمامًا بقذائف آر بي جي. أكيد هؤلاء لم يتذوقوا الفن يومًا، يبثون السم في جسم الكويت».
«والله ما تستاهل هالديرة، جماعة تفرق ولا تجمع، ما الذي يعرفه هؤلاء عن معنى أن نختلف بمحبة واحترام، كما دستور وقوانين بلدنا، ومجلس أمتنا وصحافتنا ومسرحنا، مثل ما كنا طول عمرنا في الكويت؟ ويغتالون من؟ أنا؟ أنا عبد الحسين اللي عمري كله كرسته للفن من موقف اجتماعي كوميدي، وشلت على قلبي ضحكات جمهوري في الكويت والخليج، محد كان يزعل مني، كيف يفكر بشر في إزهاق روح بشر؟ إذًا شنو شغل الله؟».
في لقاء أجريته معه في منزله بمنطقة سلوى عام 1999 لصالح تليفزيون «mbc»، ذابت مسافات كثيرة بيننا. الأمر لم يخلُ من شد وجذب عبر 30 عامًا من معرفتي به، لكنه خلاف مقبول، به درجة عالية من الاحترام وقبول الرأي الآخر، أرضيته محبة وضحكة، لم يعد الرجل فتى أحلامي بل صار معلمي.
عرض عليَّ أن أعد وأقدم حلقة عن حياتة كاملة، وأن تنتج شركة الفنون الخاصة به الحلقات التي يريد أن تكتمل بأخرى مع نجوم الصف الأول في الكويت والخليج، لتقديم سيرهم الذاتية في حلقات تليفزيونية.
تمنيت عليه أن تكون الحلقات إنسانية، ولنبدأ عن حياته الشخصية متزامنةً مع كواليس أعماله الفنية، وأن نذهب معًا إلى مواقع طفولته وصباه وذكرياته الأكثر أثرًا في حياته، والتي شكلت مفصلًا في وعيه. وافق بسعادة طفل أهديته قطعة حلوى، واستدعى ذلك أن نعقد الكثير من الجلسات بعد ذلك.
أستدعي الآن ذاكرتي، ففي إحدى تلك الأمسيات لا أدري ما الذي جعلني أسأل هذا الفنان الكوميدي والإنسان الضاحك عن الموت، متى رآه لأول مرة؟ كيف كان الوقع عليه؟
سرح بعيدًا في عمق زمنه القديم، أشعل سيجارته، قال: «الحياة ليست كوميديا صح، لكني نشأت في بيت ضاحك، فأبي وأمي كوميديان، ونكوِّن نحن الإخوة الـ14 جمهورًا مسرحيًّا في حوش بيتنا، لذا وُلدَتْ معي طبيعة مرحة متفائلة».
تشكَّل وجدان الفنان عبد الحسين عبد الرضا في بيت عائلته، فوالده ذو مهابة، يعمل في البحر غالبية أيام السنة، لا يعيش على اليابسة كثيرًا، وحين يأتي ليقضي بعض الوقت مع عائلته يكون صارمًا مع الأولاد، أما مع زوجته «بيبي» فكان حوارهما يُحدث شعرًا كوميديًّا منغمًا.
عرف المقامات الموسيقية من قريبه المطرب غريد الشاطئ، وأضاف إلى ألحان وموسيقى أغنياته لتكون سهلة وكوميدية.
يقول عن ذلك: «يختلفان مثل أي زوجين، خلاف ليس كلامًا عاديًّا وإنما بالشعر، يتبادلان الاتهامات عن غياب والدي الطويل في البحر وتعبها مع الأولاد الذين خلفهم ونساهم، فيرد عليها بأن عليه البحث عن رزقهم في البحر، فإذا جلس في البيت من سيطعم كل هذا الجيش الكبير؟ كانا يتبادلان قصص حياتهما اليومية بأسلوب كوميدي يضحكنا جميعًا».
«كنا جميعًا أطفالًا، فبدلًا من التوتر والقلق، نضحك على سباقهما في الشعر الكوميدي، ونشجع أمي أو أبي حسب اجتهادهما، وكلاهما يتنافس بمهارة ليجذب المعجبين بأدائه».
أدى هذا لاحقًا إلى حرصه على النصوص الشعرية التي يؤديها، فصار يشارك في تعديلها لتكون موزونة وخفيفة الوقع، وموسيقية على الأذن، ورشيقة الكلمة وكوميدية أيضًا، ممَّا جعله مُلمًّا بفنون الاسكتشات الغنائية، فهو يؤدي مقدمات وأغاني أغلب مسرحياته، وكذلك في المسلسلات، وأدى في الأوبريتات مع سعاد عبد الله «مداعبات قبل الزواج» و«شهر العسل» و«بساط الفقر» الأكثر شهرة، وعشرات الاعمال التي تلته.
وكان وجود قريبه المطرب غريد الشاطئ مصدرًا ليعرف المقامات الموسيقية، فكان كذلك يضيف إلى ألحان وموسيقى أغنياته لتكون سهلة وكوميدية.
اقرأ أيضًا: حافظ الشيرازي: الشاعر الصوفي الذي تأخذك قصائده لحياة أفضل
«دائمًا كان لديَّ إحساس بالمسؤولية تجاه عائلتي، عندي إخوة ذكور أكبر مني، وحتى قبل أن أدرك سن البلوغ كانت أمي تعتمد علي، وتضع ثقتها بي، كانت رحمها الله خشنة غالبًا وحنون أحيانًا، طبعًا مجبورة على أن تكون قاسية، فمن يستطيع قيادة بيتنا لولا حزمها؟ ومن سيصرف على قبيلة من الأطفال بعد وفاة والدي؟ وبتحفيز منها فكرت في مساعدتها».
«ضعف حالتنا الاقتصادية بعد وفاة أبي دفعني إلى العمل. لا أريد المشقة لأمي بيبي التى أعشقها، لا أريد لها أن تتعب، فمن أين لها مصدر دخل لتطعمنا؟ ما تركه أبي من مدخرات قليل سينتهي قريبًا، فنزلت إلى سوق العمل».
- لم تكن في سن العمل، فكيف تدبرت الأمر وأنت فتى صغير في الثالثة عشرة من عمرك؟
«من قال فتى صغيرًا؟ كنت طويلًا فلم يظهر عليَّ عمري الحقيقي. حين أعود من المدرسة، تكون أمي قد أعدت بعض البضاعة البسيطة (ملَّاس وصحون معدنية رخيصة وبعض ألعاب الأطفال البلاستيكية، وبُخنَق، وزار). آخذها وأعرضها على فرشة/بَسطة في السوق، وكان الناس يقبلون عليَّ نتيجةً لأدائي التمثيلي المرح في عرض بضاعتي، فأبيع كل ما على البَسطة، أركض إلى أمي، أعطيها كل النقود التى كسبتها لتطعم أرانب البيت، إخوتي. فقط آخذ آنتين (عملة أقل من الروبية الهندية في خمسينيات القرن الماضي) لأشتري علبة سجائر لي».
كان عبد الحسين عبد الرضا ينظر إلى تاريخه الفني برضا، كان سعيدًا بما أعطى من قيمة للشخصية الوطنية تحت مظلة علم البلاد.
- نعود إلى الموت؟
«مصرَّة أنتِ على النكد، طيب. حين توفي والدي جاء هاتف للبيت، فطلبتْ أمي أن أذهب مع خالي لاستلام جثمان أبي من مستشفى تابع لشركة النفط في منطقة الأحمدي، لإحضاره إلى البيت لتغسيله وتكفينه ثم حمله للمقبرة. كنت في حالة ذهول، فأنا في النهاية طفل حتى لم يبلغ بعد الرابعة عشرة، جالس في سيارة الإسعاف أرتعش من الخوف أمام جسد والدي البارد، أسأل خالي: أين ذهب أبي؟ وكيف أن هذا الرجل الصارم الذي لم تسقط العصاة من يده ليوقف شغبنا، راقد أمامي الآن جثة هامدة دون حراك. ما هو الموت؟».
- أهذا جعلك مستخفًّا بالموت، تضحك له وعليه؟
«لست مستخفًّا، بل متصالحًا معه. تعلمين أن عائلتنا منكوبة وراثيًّا بأمراض القلب، وكلنا في أي لحظة راحلون. لكن لحظة، لم أقل لك كيف خرجت من حالة الشرود والحزن، فضمن بضاعة البسطة التي كنت أبيعها في السوق، اشتريت جهاز راديو صغير وعرفت أن حارس ثلاجات الموتى بالمستشفى الأميري رجل طيب من أقصى الصعيد، والإخوان الصعايدة يحبون هذا الجهاز، يسمعون عليه محطات الإذاعة المصرية».
«ذهبت إليه، تعاملت معه كابن له، أهديته الراديو، وبعد أن تحدثنا وتضاحكنا طلبت منه أن يسمح لي بفتح ثلاجة صناديق الموتى. وبقدر ما كانت لحظة فزع لي، كان الخوف يذوب في داخلي، وعرفت، يمكن في لحظتها، قيمة الضحك الذي يخفف علينا وطأة حياتنا. ويمكن لأن تكويني ومزاجي كوميدي، كان الضحك بالنسبة لي هو الحياة، يعطي الجسم حرارة عكس برودة الموت، وتذكرت أني شاطر في إضحاك الناس حولي في السوق، كما يسعَد أصدقائي مني وكذلك إخوتي وأخواتي. يمكن هذه كانت بداياتي الفنية».
كان عبد الحسين عبد الرضا ينظر إلى تاريخه الفني برضا، كان سعيدًا بما أعطى من قيمة للشخصية الوطنية تحت مظلة علم البلاد، جمع القلوب بكل الأطياف تحت مظلة نقده الكوميدي الساخر، معبرًا عن الناس، ذابت مختلف الأيديولوجيات والاختلافات الطائفية.
سألته ذات مرة: أيمكنك أن تأخذ مكاني لتكون ناقدًا لملمح في تجربتك؟ ضحك، قال:
«أيا الملعونة، بتصيديني، يلا خذي، مسلسل «الأقدار» الذي توليت كتابته وبطولته، نجح وكنت أقدم فيه دورًا تراجيديًّا جادًّا، واستغربت من أن في ناس ما شافتني، وناس ما حبتني، حتى الصحفيين ما يسألوني عنه في لقاءاتي معاهم».
- ما الذي دفعك إلى ذلك وأنت نجم كوميدي؟
«أردت أن أثبت أني لست ممثلًا كوميديًّا فقط، لديَّ قدرات أخرى. العمل جاد تراجيدي، شامل لعناصر العمل الفني المتقن، لكنه ليس لوني، عمل كئيب، فمن خلال نص كوميدي جيد أستطيع تقديم نفس المحتوى، لكن، كنت أريد أن أتحدى نفسي وأقدم لونًا فنيًّا عكس ما نجحت به في فنون الكوميديا. ما ياز لي (لم يرُق لي)».
في بداية الثمانينيات، بدأت أوجاع قلب عبد الحسين تزداد، فخلال تقديمه مسرحية «باي باي لندن»، التي انتقد فيها السياح الخليجيين في لندن، واجهته جلطة، وهو مفتون بنجاح العمل نجاحًّا فنيًّا وإقبالًا جماهيريُّا ساحقًا.
زرته في فترة الاستراحة بين الفصلين، في غرفتة في جانب من مسرح «كيفان». رأيت شخصًا منهار القوى، وجهه محتقن بالدم، يجلس القرفصاء على الكرسي قابضًا على صدره من جهة اليسار، يعرق كثيرًا، بجواره طبيب أعطاه حبة بيضاء ليضعها تحت لسانه.
كان الأمر مرعبًا لي، فمنذ دقائق كان يعج بالحيوية والنشاط على خشبة المسرح، سألته:«يا رجل، قبل دقائق كان على خشبة المسرح حصان اسمه عبد الحسين عبد الرضا».
قال بصوت منهك بطيء: «شعرت بنغزة قوية في قلبي وعوار، لكني طنشته. جسمي نشف بسبب العرق».
لحظتها نصحه طبيبه بأن يشرب لترين من الماء ليعوض خسارته، وليتمكن من العودة إلى خشبة المسرح.
في زمن تالٍ، وأنا أعد مادة كتاب حياته، سألته عن تاريخ خيانات قلبه في أعماله، خصوصًا العروض المسرحية التى تتطلب جهدًا بدنيًّا غير طبيعي، فقال:
«كثير، لكن لأقول لك عن حادثة شاهدتيها بنفسك، أتذكرين عندما زرتيني في غرفتي بكواليس المسرح لحظة عرض مسرحية «باي باي لندن»؟ لا أنسى وصفك أني كنت حصانًا على خشبة المسرح.
أتعرفين أن سبب حيويتي ونشاطي الحصاني هو الناس؟ يمكن تقولين أبالغ، كان عندي جلطة فأحسست بنغزة قوية في قلبي، بعد الاستراحة أخذت حبة تحت لساني، ما قمت أحس، يمكن أموت على الخشبة، لكني كنت أستمد قوة مهيبة من جمهوري، الصحيح أني لمَّا أدخل في البداية على خشبة المسرح أكون خائفًا للغاية، قلبي تتسارع دقاته. أشعر، أنا المحترف، كأني سأظهر الليلة لأول مرة في حياتي على خشبة المسرح.
المسرح له هيبة، ما يعرفها إلا من يقدر مسؤولية ما سيقول للناس وكيف يلفت نظرهم إلى موضوع معين. يروح عني الخوف بمجرد أن أقول حواري وأرى رد فعل الجمهور وتجاوبه وضحكه، ما أحس بجسمي أبدا، أصير غير آدمي، يمكن أن تقولي حصان طروادة، ثم أرجع إلى غرفتي وأحس بروحي تطلع».
وزارة الإعلام أجازت مسرحية «هذا سيفوه»، لكن بسبب التيارات الدينية وغرفة التجارة والصناعة حُكم عليه بالسجن.
في العام 2003 بدأ نشاطه الجسدي يتراجع، فلم يعد يستطيع الوقوف طويلًا على خشبة المسرح التي تتطلب صحة وقوة جسدية، ولا يستطيع بذل هذا الجهد المخلص الخارق إحساسًا وصوتًا وحركة أداء الممثل.
في عام 2005 قال لي:
«كبرتُ. بودِّي أن أقدم مسرحًا سياسيًّا كوميديًّا في ظل الاستجوابات الكثيرة التى يقدمها بعض أعضاء مجلس الأمة. قليلهم معه حق، وبعضهم عشان صفقات مالية. بيني وبينك، هذه أمنية رجل كبير في البلد، يريد أن يكون للمسرح دور تنويري».
كنت معجبة بمسرحيته «هذا سيفوه» مع سعد الفرج وخالد النفيسي وإبراهيم الصلال ومحمد السريع وداوود حسين، التي أوقف عرضها ولم يتم تصويرها، وحُكم على عبد الحسين بالسجن ثلاثة شهور مع وقف التنفيذ وغرامة مالية 500 دينار كويتي حتى يُفرَج عنه.
قال لي مرةً في حوار صحفي (هنا وهنا):
«وزارة الإعلام هي التي أجازت النص، وأقمنا للرقابة عرضًا خاصًّا كاملًا، ووافقت على العمل للعرض الجماهيري، وبعدها، بسبب شكوى التيارات الدينية وبتحريض من غرفة التجارة والصناعة، يأخذوني بسيارة شرطة إلى النيابة».
ولأن أزمة التجاذبات السياسية اتخذت أشكالًا أكثر تطورًا، كتبتُ له نص مسرحية «وهذي خلاجينه» استمرارًا لنهج مسرحيته «هذا سيفوه»، وبذلك يكتمل المثل الكويتي الشعبي «هذا سيفوه وهذي خلاجينه»، أي أن الحال كما هو رغم مرور سنوات طويلة على زمن وأيام تلك المسرحية.
ناقشته في عدم حبه للمسرح السياسي، قال:
«هذا أمر من رجل يحلم بالإصلاح، ويحلم أن تُعرض مشاكل البلد بكوميدية مسرحية، وعلينا أن نؤدي دورنا، فليس أكثر فائدةً من الفن كقوة تؤثر في الناس. الفن يُحارَب، لذا ترين عُلُوَّ صوت خطاب الكراهية والتفرقة والتطرف والإرهاب، وهذا واجبنا كفنانين أن نقول كلمتنا طالما وصلنا الضوء الأخضر».
«ولأن صحتي ما تتحمل جهد المسرح الخرافي، اكتبي لي حوارات قصيرة وخليني قاعد على القنفة/الأريكة، حتى لا أنسى عمري وأبذل جهدًا وتفاجئني الجلطة»، ويضحك: «نصف أهلي ماتوا من القلب، وأنا اللي طلعت شاطر فيهم متنحش (هارب) من عزرائيل».
في تلك الأيام التقينا كثيرًا، أنا أكتب وهو يمثل أمامي جالسًا على المقعد. إلقاء مسرحي تمام، مخارج حروفه صحيحة، وببطء وتلون صوتي، ويغرف من علبة المناديل وريقات كثيرة يمسح بها عرقه الغزير.
قلت: لماذا البطء في الإلقاء؟ مد يده إلى كوب الشاي أمامه ثم قال:
«هذا تمثيل مسرحي ويجب أن يكون بطيئًا، وهو ما تعلمته في بداية حياتي مع المخرج الراحل ومكتشفي زكي طليمات، الذي كان يريد للصوت الإنساني الحي أن يصل ويلعلع، إذ لم تكن لدينا أيامها (عام 1962) ميكروفونات للمسرح. كلها حطبة (خشبة) نقف عليها وليس مسرحًا حقيقيًّا. وقتها عرضنا مسرحية «صقر قريش» حين كان للصدفة دور في جعلي ممثلًا بدلًا من الممثل الغائب».
«حين تمتلئ الصالة بالجمهور، يصبح انتقال الصوت بطيئًا بسبب أنفاس الناس وطاقتهم الحرارية، والممثل الشاطر يحرص على إيصال كلمته إلى آخر مشاهد في الصالة، وأنا أحب أن أرى رد فعل الجمهور فأكمل بكل نشاط».
- إذًا، أنت الآن وكأنك على خشبة المسرح؟
«بالضبط، نحن الآن في بروفة قراءة وصوت».
كانت ارتجالات عبد الحسين الفورية وإفيهاته اللحظية الضاحكة تضيف وتزيد النص بهاءً، فتدمع أعيننا من الضحك، حتى أنجزت وأنهيت كتابة «وهذي خلاجينه»، وبوصاياه وعلاقاته وافقت الرقابة الكويتية على النص دون أي تعديل.
لن أنسى في لحظات الاستراحة قوله: «تعرفين يا بنت، لو أشتغل في 600 مسلسل تليفزيوني، عمري ما أحس بذرة من متعة المسرح. اشتقت إلى ضحكات الجمهور وتصفيقه، حلم عمري أن أقف على خشبة المسرح لآخر مرة في حياتي».
خانه قلبه، فلم نقدم الكِتاب ولا البرنامج التليفزيوني عن مسيرته، ولا حتى مسرحية «وهذي خلاجينه». لم تشنِّف أذنيه ضحكات الجمهور، ولم ترن لروحه أكف تصفيقهم. هناك الكثير ممَّا لم أقله، ولم تنتهي بعد سطوري الأخيرة عنه، فلا يزال في ذاكرتي شلال من ذكرياته.
بتاريخ 16 أغسطس، التحف جثمان عبد الحسين عبد الرضا بالثرى، وهو ذات تاريخ عرض أولى حلقات المسلسل الشهير صاعق النجاح «درب الزلق»، الذي بدأ عرضه على تليفزيون الكويت في 16 أغسطس 1977. وبين التاريخين وما قبلهما، ترك عبد الحسين بصمات عميقة في الشخصية الكويتية.
قلبي حزين.
عقلي يزجرني: إنه باقٍ، ترك أثرًا خالدًا.
سار على قدميه متَّكئًا على عصا وجعه، ذهب إلى مطار الكويت، صعد إلى الطائرة المتجه للعاصمة البريطانية لندن، لوضع دعامات لساقه التى لم تعد تحمله، ودعامات جديدة للقلب التعب.
كان يحلم بالعودة في الموسم الجديد للتمثيل التليفزيوني، واختار رفاقه الممثلين سعاد عبد الله وسعد الفرج وداوود حسين وميس كمر، وكان يريد أن يعود إلى المسرح من جديد.
طارت أحلام الفتى الطائر فنان الشعب، عبد الحسين عبد الرضا، حبيب كل بيت في الخليج والكويت، معه أحلامه الفنية ملفوفًا بكفن. وعاد المعلم مالك قلوب الملايين وحيدًا إلى وطن عشقه، مقفولًا عليه بالمسامير في وحشة.. صندوق.
ليلى أحمد