تأثر المسرح في الكويت مثل غيره من الأنشطة بجائحة كورونا، فتسببت في إغلاق بواباته، التي عادة ما تكون حيوية خصوصًا في المناسبات. بدأت القصة مع موسم الأعياد الوطنية في بداية تفشي الجائحة فبراير 2020، والذي استمر رغم مطالبات المسرحيين وشعورهم بالتهميش.
يذكر أن صناعة المسرح التي تأثرت بالجائحة على صعيد عالمي، قوبلت في كثير من الدول باهتمام خاص، فموقع «Youth Monitoring Parliament» يستعرض بحث NCOP حول تأثير جائحة كورونا على قطاع المسرح، والذي طرحت فيه «إيفيت هاردي»، المديرة الوطنية للرابطة الدولية لمسرح الأطفال والشباب، مقدمة عن أهمية الفنون لحقوق الإنسان واحتفالها بالهويات الثقافية والتنوع الثقافي وتنمية التعاطف في جنوب إفريقيا. والملاحظ أن الفنون هي الشيء الوحيد الذي توصل إليه الناس من أجل الحفاظ على صحتهم النفسية ورفاهيتهم في ظل الجائحة.
تواصل هذه المناقشة التي انضم إليها صناع المسرح والأكاديميون من مختلف أنحاء جنوب أفريقيا، في التنويه للإحباط القادم من عدم دعم الصناديق الفنية لقطاع المسرح في هذه الظروف، مستعرضين الإسهامات الاقتصادية التي قدمها المسرح قبل هذه الأزمة، ومشددين على مسرح فوجارد اضطر لغلق أبوابه بسبب الإغلاق وعدم تلقي أي شكل من أشكال المساعدة، مما أدى إلى فقدان عدد من الأشخاص لوظائفهم.
قِبلة جديدة للمسرح الكويتي
وجد العاملون في المسرح الكويتي أنفسهم ومع استمرار تداعيات الإغلاق على شركات الإنتاج والقطاع بأكمله، أمام خيار الانتقال إلى شاشات التلفزيون والعرض الرقمي، الأمر الذي جعل المشهد المسرحي في الكويت ومتابعيه في حالة انقسام حول أهمية هذه الخطوة وجودتها.
المخرج عبد العزيز صفر يؤكد لـ«منشور» أن «استمرار المسرح في هذه المرحلة لقيمته الثقافية مهم رغمًا عن الظروف، لذلك كان الانتقال إلى التلفزيون»، مشيرًا إلى أن ما نشهده اليوم ليس مسرحًا تلفزيونيًا، فلقد عُرف قبل عقود أن هناك استديوهات مسرحية داخل مباني التلفزيون تقدم العروض المسرحية فيها، «لكننا أطلقنا لقب "مسرحية تلفزيونية" للإشارة إلى أن عرضًا وحيدًا سيقَّدم في الواقع الحي لجمهور محدود، ويُبث لاحقًا عبر الفضائيات».
فيما تقول الناقدة ليلى أحمد لـ«منشور» إن «تصوير العروض المسرحية للتلفزيون والمنصات الرقمية خيار فاشل، فأهم عناصر المسرح وجود الجمهور في الصالة وتفاعلهم المباشر مع العرض المسرحي، فيما قد يكون هذا النمط صالحًا للحفلات الغنائية». وتكمل: «مصر في ستينيات القرن الماضي سبق وأن جربت تصوير المسرحية يومًا واحدًا للعرض التلفزيوني على القناة الأولى، لكن وجدوا أنه لو كانت القناة الثانية تعرض حفلًا لأم كلثوم فإن المشاهدين يتحولون نحو مشاهدة المحطة الثانية، وظهر ذلك بصورة كبيرة في تجاهل أدبيات النقد المسرحي المصري عروض مسرح التلفزيون، فالمسرح لا يمكن أن يقدَّم من خلف شاشة "باردة"، فاقدًا بذلك حرارته ونبضه».
ولعل هذا الموقف الذي يتبناه كثير من النقاد والمسرحيين والجماهير يجعلنا نطرح أسئلة حول الأثر الذي تركته المسرحيات العربية والكويتية في من شاهدوها عبر الفضائيات فقط، والذي لا يمكن إنكاره أو التقليل من حجمه.
تابع الجمهور العربي مسرحية «العيال كبرت» التي عرضت عام 1979، ومسرحية «باي باي لندن» لعبد الحسين عبد الرضا التي عرضت لأول مرة عام 1981، وما زالت الفضائيات تبث هذه المسرحيات بل واشترت حقوقها منصتا نتفليكس وOSN مؤخرًا. فهل هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه عن التحول من المسرح المادي إلى العروض الرقمية، أي قدرة هذا الوسيط على إبراز خصوصية المسرح وأدواته الفنية الخاصة؟ أم أن هنالك أسئلة جديدة يفرضها هذا الواقع على هذه المرحلة الجديدة في الإنتاج المسرحي؟
اتجاهات المسرحيات التلفزيونية الكويتية الحديثة
وفقًا لدراسة بعنوان «المسرح الخليجي في ضوء عالم افتراضي: بحث في المؤسسة المسرحية الخليجية والميديا في أعقاب الربيع العربي» للدكتور علي العنزي، المدرس في قسم النقد والأدب المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، كانت المسائل النقدية حول المسرح في الكويت والخليج حتى عام 2013 تدور عن مواجهة مسرحنا عصر العولمة والفضائيات والانفجار المعلوماتي ومظاهر التحديث المختلفة، لكنها سنوات قليلة قبل أن تصبح مسألة العرض المسرحي التلفزيوني واستغلال تلك المنصات المختلفة لاستمرار المسرح أمرًا ملحًا ولا خيار سواه.
يتوقع الدكتور علي أنه مع استخدام الشاشة السينمائية والنقل التلفزيوني للمسرح واعتبار هذا الوسيط فرصة لإنتاج ثقافي جديد، فإن قواعده ستساعد على التحرر من قيود المؤسسات والحكومة والرقابة، إذ أن هذا سينعكس على واقع المسرح في ضوء هذا العالم الافتراضي الذي يمتاز بالاختلاط التكنولوجي.
ويفترض أن هذا الانتقال لا يقتصر على الجانب التكنولوجي، بل هو قضية تغيير اجتماعي وسياسي يفرض على المسرحيين ضبط إنتاجهم في ضوء هذه التغييرات، التي فرضت تحولات فكرية آخذة في الرسو خليجيًا. وعلى وعي المسرحي أن يستعد للتعاطي مع جمهور خليجي مختلف، بدأ يجد ضالته في العالم الإلكتروني المفتوح.
مشاهدة هذه المسرحيات قد تتيح لنا قراءة إدراك المسرحيين لما ينبغي أن يكون عليه المسرح مع هذا الارتحال الجديد، فمسرحية «بيت بو سند» التي بثت على منصة شاهد، موضوعاتها التي جاءت في ساعتين ونصف هي تقريبًا الموضوعات التقليدية والأساليب المعتادة في مسرح طارق العلي، والتي حافظت على نمط السخرية من الشكل والمبالغة في ردود الفعل، حتى أن العرض اعتمد على أصوات ضحك مسجلة مع لغة خطابية سياسية واجتماعية، مما يعني الاستمرار في الاعتماد على سلطة الكلمة بدلًا من الصورة أو الإسقاط.
انتقد العلي في مسرحيته شوارع الكويت، ودراسة الأونلاين، وانفراد وزارة الصحة بفرض قرارات الحظر، واستغلال الشباب للمنتجات المصنوعة في الصين وبيعها بأسعار مرتفعة في السوق الكويتي، وظاهرة انتشار الرواية الشبابية في الكويت. ولنفحص مثلًا تناول هذه القضية: يعلن طارق العلي من خلال الشخصية التي يلعبها في المسرحية استغرابه ممن أسماهم «بعض الإخوة»، الذين يجيزون السماح بالرواية «الدايخة» ويرفضون المسرح المهم، ويؤكد أن الناس تبحث عن السخيف بينما «الناس السنعة ما يبوونها»، مؤشرًا على نفسه.
وبغض النظر عن إيمان العلي بأن المسرح الذي يقدمه جاد ومهم، فإن مشكلة أخرى هنا تُظهر تضامن الفنان مع الرقابة، فلا يناهضها وإنما يريد تعديل معايير تنفيذها، الأمر الذي يؤكد قراءة علي العنزي للمسرح، فهو لا يدعو إلى مسرح نخبوي، خصوصًا أن غالبية من يشاهدون المسرح في الخليج ليسوا من القراء، بل يشدد على ضرورة فهم إدراك انفتاح شباب الخليج اليوم على قضايا وتحديات جديدة، وأن على المسرح أن «يتوفر على وعي بواقع الجمهور السياسي والاجتماعي، وظروف ومشاكل وهوية الطبقات المخاطبة». ولعل في هذا التجديد ما يمثل انتشالًا للمسرح من أزماته، بدلًا من الاعتماد على حلول مثل استضافة نجوم الفضائيات لضمان تحقيق الزخم الإعلامي.
نفس الشركة المنتجة لمسرحية «بيت بو سند»، وهي شركة «فروغي للإنتاج الفني»، قدمت مسرحية تلفزيونية ثانية هذا الموسم هي «مطلوب»، والتي تبدو أكثر تجريبًا ومغامرة من حيث الأسلوب والموضوع، الأمر الذي دفع كثيرًا ممن شاهدوها لربطها بميل بطل هذه المسرحية خالد المظفر إلى الأعمال الجريئة والمختلفة.
على منصة القبس الإلكتروني عُرضت مسرحية «عزوبي السالمية»، من بطولة خالد المظفر وهيا عبد السلام وفؤاد علي، وهي النسخة الحديثة من المسرحية التي تحمل نفس الاسم لعبد الحسين عبد الرضا ومحمد المنصور وسعاد عبد الله. ورغم عدم التغيير في النص الأساسي للمسرحية الأصلية، فإنها لم تخلُ من إضافات المسرح الذي اعتاد عليه الشباب من «قطات» و«ضغاط» وسخرية، ومحاولات لإضفاء روح إخراجية جديدة من عبد العزيز صفر. عُرضت المسرحية أمام جمهور محدود جدًا ومعظمه قائم على الدعوات الشخصية، ثم عرضتها منصة القبس الإلكترونية بطاقم جديد مع الإبقاء على خالد مظفر، وهو ما حقق لها انتشارًا أكبر بسبب المشاهدات على المنصة.
يقول عبد العزيز صفر لـ«منشور»: «التقنية التي يعتمدها في مسرحية عزوبي السالمية وعلى الرغم من نقل العرض، فإن كل شيء باقٍ على ما هو عليه، ولا يستخدم القطعات نهائيًا، حتى في الكتابة والتمثيل والإضاءة والموسيقى أبقيها كما هي. فعملية إنتاج المسرحية هي تمامًا مثلما كانت عليه في السابق من كل النواحي».
في مرمى نظر المسرح المحلي
عند سؤالنا للناقدة ليلى أحمد عن تفاعل المسرح العالمي مع هذا الشكل من الارتحال الذي فرضته الجائحة، والنماذج التي يمكن أن تشكل هدفًا لهذا النوع من الصناعة القديمة الحديثة، قالت إن «أكثر التجارب اللافتة هي ما فعلته إدارة مسرح شكسبير الملكي، من تقديم عروض على الهواء مباشرة تُنقل من المسرح في بريطانيا، وقد شاهدتها على الشاشة العريضة في بيتي، ومع ذلك شعرت بالملل وفقدان تلك المشاركة الوجدانية التي اعتدت عليها في تجاربي السابقة لحضور نفس العرض الحي في بريطانيا». وتؤكد أحمد أن المسرح ليس الأعمال التي تقدم عليه فحسب، بل أيضًا في طقس المشاركة الجماعية، وديكورات الصالة وتاريخها، ورائحة الخشب والمكان قبل العرض.
طرحت جريدة الغارديان سؤالًا حول ما إذا استمررنا في الجلوس أمام شاشاتنا بدلًا من العودة إلى القاعات، وهل أدى هذا البديل غرضه أم لا، وذلك في مقال بعنوان «كيف سيغير الوباء مستقبل مسرحيات الإنترنت». ووجدت الجريدة أدلة دامغة على أن أرشفة المسرح على الإنترنت تضمن مكانة عالية في صناعة المسرح، وأن مخطط المسرح الوطني أدى نجاحًا افتراضيًا كبيرًا، إذ عرض 17 إنتاجًا حصدت أكثر من 15 مليون مشاهدة من الجماهير في أكثر من 170 دولة.
هناك عروض قُدمت مجانًا مع خيار التبرع، وعروض مسرحية لمسارح عالمية كانت غير متاحة لشريحة كبيرة من الجماهير بسبب سعر تذكرتها أصبحت متاحة للمشاهدين، الأمر الذي دفع القائمين على هذا المسرح إلى التفكير بجدية في إرساء هذه الطريقة والاستمرار في تقديمها، كفعل ديمقراطي يتيح الفن للجميع.
وبدأت الكثير من المحطات بالفعل ومنها بي بي سي في إنتاج نسخة عروض شاشة لكثير من المسرحيات، الأمر الذي يجعلنا نتصور نموذجًا مستقبليًا تقترن فيه المسارح بالمنصات الرقمية، وهو ما سيحل كثيرًا من مشاكل المسرح ومنها إمكانية الوصول.
ليس هذا فحسب، بل إن كثيرًا من الأعمال الأصلية وجدت مكانها إلى هذا النوع من العرض، وتناولت غالبها تفاصيل الحياة اليومية في ظل وباء كورونا، مثلما أظهرت أحدث مسرحيات آبل التي كتبها «ريتشارد نيلسون» عن أربعة أشقاء أمريكيين في منتصف العمر يفكرون في تأمين الحياة عن بعد من منازلهم. ويقول كوامي كوي أرماه مدير مسرح يونغ فيك في لندن: «سنفهم حقًا إمكانية تعايش المسرح الافتراضي والتكنولوجيا الرقمية الجديدة في غضون ثلاث سنوات تقريبًا، إذ نأمل أن يكون في العقل الباطن لجيل ناشئ من صانعي المسرح الذين سيتذكرون هذه المرة عدم قدرتهم على دخول المسارح وصنع فنهم».
أخيرًا، ما يمكن قوله إن المسرح في فترة إغلاق أبوابه في الكويت كشف عن مشكلة لازمت المسرح الخليجي في بداياته، وقد ذكرها الناقد المسرحي إبراهيم عبد الله غلوم، وهي انطلاقه من خلال الممارسة الشعبية بمعزل عن التخطيط الثقافي الرسمي، إذ لم نشاهد تخطيطًا من المؤسسة الثقافية للالتفات حول المأزق الذي وجدت هذه الصناعة نفسها فيه، مما يجعلنا نسأل عن موقع الثقافة في المجتمع الكويتي وإدماجها الفعلي في رؤية التنمية، وعن دور الإدارات المعنية بالثقافة والفنون في وضع سياسات للتعامل مع هذه الظروف. لا بد أن نسأل: هل هذا يعني أن الأسماء التي باتت مرتبطة بإنتاج المسرحيات في مواسم العام ستظل على ما هي عليه نظرًا لجهودها في التأسيس المبكر لهذا الفن؟ وهل هذا يعني اتجاهات وأهداف ومشاريع أقل تُقدم وفقًا لرؤية مجموعة صغيرة من المسهمين؟